الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَكَذَلِكَ قَالَ لعبادة بن النعمان التغلبي وَقَدْ أَسْلَمَتِ امْرَأَتُهُ إِمَّا أَنْ تُسْلِمَ، وَإِلَّا نَزَعْتُهَا مِنْكَ، فَأَبَى فَنَزَعَهَا مِنْهُ.
فَهَذِهِ الْآثَارُ صَرِيحَةٌ فِي خِلَافِ مَا حَكَاهُ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَزْمٍ عَنْهُ، وَهُوَ حَكَاهَا وَجَعَلَهَا رِوَايَاتٍ أُخَرَ وَإِنَّمَا تَمَسَّكَ أبو محمد بِآثَارٍ فِيهَا أَنَّ عمر وَابْنَ عَبَّاسٍ وجابرا فَرَّقُوا بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَهِيَ آثَارٌ مُجْمَلَةٌ لَيْسَتْ بِصَرِيحَةٍ فِي تَعْجِيلِ التَّفْرِقَةِ وَلَوْ صَحَّتْ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ عمر مَا حَكَيْنَاهُ، وَعَنْ علي مَا تَقَدَّمَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْعَزْلِ]
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ ( «أبي سعيد قَالَ أَصَبْنَا سَبْيًا، فَكُنَّا نَعْزِلُ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " وَإِنَّكُمْ لَتَفْعَلُونَ؟ " قَالَهَا ثَلَاثًا. " مَا مِنْ نَسَمَةٍ كَائِنَةٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا وَهِيَ كَائِنَةٌ» ) .
وَفِي السُّنَنِ عَنْهُ ( «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، قَالَ: " كَذَبَتْ يَهُودُ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ» ) .
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ (جابر قَالَ: «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ» ) .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " عَنْهُ ( «كُنَّا نَعْزِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَنْهَنَا» ) .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " أَيْضًا: عَنْهُ قَالَ: ( «سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ إِنَّ عِنْدِي جَارِيَةً، وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " إِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ شَيْئًا أَرَادَهُ اللَّهُ ". قَالَ: فَجَاءَ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ الْجَارِيَةَ الَّتِي كُنْتُ ذَكَرْتُهَا لَكَ حَمَلَتْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " أَنَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ» ) .
وَفِي " صَحِيحِ مسلم " أَيْضًا: عَنْ (أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَعْزِلُ عَنِ امْرَأَتِي، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لِمَ تَفْعَلُ ذَلِكَ؟ " فَقَالَ الرَّجُلُ: أُشْفِقُ عَلَى وَلَدِهَا، أَوْ قَالَ عَلَى أَوْلَادِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " لَوْ كَانَ ضَارًّا ضَرَّ فَارِسَ وَالرُّومَ» ) .
وَفِي " مُسْنَدِ أحمد " وَ " سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ " مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: ( «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُعْزَلَ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا» ) .
وَقَالَ أبو داود: سَمِعْتُ أبا عبد الله ذَكَرَ حَدِيثَ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ المحرر بن أبي هريرة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: ( «لَا يُعْزَلُ عَنِ الْحُرَّةِ إِلَّا بِإِذْنِهَا» ) فَقَالَ مَا أَنْكَرَهُ.
فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ صَرِيحَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ، وَقَدْ رُوِيَتِ الرُّخْصَةُ فِيهِ عَنْ عَشَرَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ علي وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وأبي أيوب وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وجابر وَابْنِ عَبَّاسٍ والحسن بن علي وَخَبَّابِ بْنِ الْأَرَتِّ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم. قَالَ ابْنُ حَزْمٍ: وَجَاءَتِ الْإِبَاحَةُ لِلْعَزْلِ صَحِيحَةً عَنْ جابر وَابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهم وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ.
وَحَرَّمَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ أبو محمد ابن حزم وَغَيْرُهُ.
وَفَرَّقَتْ طَائِفَةٌ بَيْنَ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ الْحُرَّةُ، فَيُبَاحُ أَوْ لَا تَأْذَنُ فَيَحْرُمُ، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً أُبِيحَ بِإِذْنِ سَيِّدِهَا، وَلَمْ يُبَحْ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَهَذَا مَنْصُوصُ أحمد، وَمِنْ أَصْحَابِهِ مَنْ قَالَ: لَا يُبَاحُ بِحَالٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُبَاحُ بِكُلِّ حَالٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: يُبَاحُ بِإِذْنِ الزَّوْجَةِ حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً وَلَا يُبَاحُ بِدُونِ إِذْنِهَا حُرَّةً كَانَتْ أَوْ أَمَةً.
فَمَنْ أَبَاحَهُ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَحَادِيثِ، وَبِأَنَّ حَقَّ الْمَرْأَةِ فِي ذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ لَا فِي الْإِنْزَالِ، وَمَنْ حَرَّمَهُ مُطْلَقًا احْتَجَّ بِمَا رَوَاهُ مسلم فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ عائشة رضي الله عنها عَنْ (جدامة بنت وهب أخت عكاشة قَالَ:«حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أُنَاسٍ فَسَأَلُوهُ عَنِ الْعَزْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " ذَلِكَ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ " وَهِيَ {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] » ) قَالُوا: وَهَذَا نَاسِخٌ لِأَخْبَارِ الْإِبَاحَةِ فَإِنَّهُ نَاقِلٌ عَنِ الْأَصْلِ وَأَحَادِيثُ الْإِبَاحَةِ عَلَى وَفْقِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَحْكَامُ الشَّرْعِ نَاقِلَةٌ عَنِ الْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ. قَالُوا: وَقَوْلُ جابر رضي الله عنه ( «كُنَّا نَعْزِلُ وَالْقُرْآنُ يَنْزِلُ فَلَوْ كَانَ شَيْئًا يَنْهَى عَنْهُ لَنَهَى عَنْهُ الْقُرْآنُ» ) .
فَيُقَالُ: قَدْ نَهَى عَنْهُ مَنْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ ( «إِنَّهُ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى» ) وَالْوَأْدُ كُلُّهُ حَرَامٌ. قَالُوا: وَقَدْ فَهِمَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ النَّهْيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه لَمَّا ذُكِرَ الْعَزْلُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «لَا عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْعَلُوا ذَاكُمْ فَإِنَّمَا هُوَ الْقَدَرُ» ) .
قَالَ ابن عون: فَحَدَّثْتُ بِهِ الحسن فَقَالَ: وَاللَّهِ لَكَأَنَّ هَذَا زَجْرٌ. قَالُوا: وَلِأَنَّ فِيهِ قَطْعَ النَّسْلِ الْمَطْلُوبِ مِنَ النِّكَاحِ وَسُوءَ الْعِشْرَةِ وَقَطْعَ اللَّذَّةِ عِنْدَ اسْتِدْعَاءِ الطَّبِيعَةِ لَهَا.
قَالُوا: وَلِهَذَا كَانَ ابْنُ عُمَرَ رضي الله عنه لَا يَعْزِلُ، وَقَالَ:(لَوْ عَلِمْتُ أَنَّ أَحَدًا مِنْ وَلَدِي يَعْزِلُ لَنَكَّلْتُهُ)، وَكَانَ علي يَكْرَهُ الْعَزْلَ ذَكَرَهُ شعبة عَنْ عاصم عَنْ زر عَنْهُ. وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ فِي الْعَزْلِ: هُوَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى. وَصَحَّ عَنْ أبي أمامة أَنَّهُ سُئِلَ عَنْهُ، فَقَالَ:(مَا كُنْتُ أَرَى مُسْلِمًا يَفْعَلُهُ) وَقَالَ نافع عَنِ ابْنِ عُمَرَ (ضَرَبَ عمر عَلَى الْعَزْلِ بَعْضَ بَنِيهِ) .
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: (كَانَ عمر وعثمان يَنْهَيَانِ عَنِ الْعَزْلِ) .
وَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُعَارِضُ أَحَادِيثَ الْإِبَاحَةِ مَعَ صَرَاحَتِهَا وَصِحَّتِهَا، أَمَّا حَدِيثُ جدامة بنت وهب، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ رَوَاهُ مسلم، فَإِنَّ الْأَحَادِيثَ الْكَثِيرَةَ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدْ قَالَ أبو داود: حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أبان، حَدَّثَنَا يحيى أَنَّ محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حَدَّثَهُ أَنَّ رفاعة حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه ( «أَنَّ رَجُلًا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ لِي جَارِيَةً وَأَنَا أَعْزِلُ عَنْهَا، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ تَحْمِلَ، وَأَنَا أُرِيدُ مَا يُرِيدُ الرِّجَالُ، وَإِنَّ الْيَهُودَ تُحَدِّثُ أَنَّ الْعَزْلَ الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى. قَالَ: " كَذَبَتْ يَهُودُ لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ مَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ» ) .
وَحَسْبُكَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ صِحَّةً فَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ وَقَدْ أَعَلَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ
مُضْطَرِبٌ فَإِنَّهُ اخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ، فَقِيلَ عَنْهُ عَنْ محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَمِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَخْرَجَهُ الترمذي وَالنَّسَائِيُّ.
وَقِيلَ: فِيهِ عَنْ أبي مطيع بن رفاعة، وَقِيلَ: عَنْ أبي رفاعة وَقِيلَ عَنْ أبي سلمة عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي الْحَدِيثِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ عِنْدَ يحيى، عَنْ محمد بن عبد الرحمن، عَنْ جابر، وَعِنْدَهُ عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ أبي سلمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعِنْدَهُ عَنِ ابْنِ ثَوْبَانَ، عَنْ رفاعة عَنْ أبي سعيد. وَيَبْقَى الِاخْتِلَافُ فِي اسْمِ أبي رفاعة، هَلْ هُوَ أبو رافع، أَوِ ابن رفاعة أَوْ أبو مطيع؟ وَهَذَا لَا يَضُرُّ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِ رفاعة.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ أَحَادِيثَ جابر صَرِيحَةٌ صَحِيحَةٌ فِي جَوَازِ الْعَزْلِ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: وَنَحْنُ نَرْوِي عَنْ عَدَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُمْ رَخَّصُوا فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَرَوْا بِهِ بَأْسًا. قَالَ البيهقي: وَقَدْ رُوِّينَا الرُّخْصَةَ فِيهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ، وَهُوَ مَذْهَبُ مالك وَالشَّافِعِيِّ وَأَهْلِ الْكُوفَةِ وَجُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ حَدِيثِ جدامة بِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ التَّنْزِيهِ وَضَعَّفَتْهُ طَائِفَةٌ، وَقَالُوا: كَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم كَذَّبَ الْيَهُودَ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يُخْبِرُ بِهِ كَخَبَرِهِمْ؟! هَذَا مِنَ الْمُحَالِ الْبَيِّنِ، وَرَدَّتْ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ أُخْرَى، وَقَالُوا: حَدِيثُ تَكْذِيبِهِمْ فِيهِ اضْطِرَابٌ وَحَدِيثُ جدامة فِي " الصَّحِيحِ ".
وَجَمَعَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ، وَقَالَتْ: إِنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ: إِنَّ الْعَزْلَ لَا يَكُونُ مَعَهُ حَمْلٌ أَصْلًا، فَكَذَّبَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:( «لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَهُ لَمَا اسْتَطَعْتَ أَنْ تَصْرِفَهُ» )، وَقَوْلُهُ:( «إِنَّهُ الْوَأْدُ الْخَفِيُّ» ) فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَمْنَعِ الْحَمْلَ بِالْكُلِّيَّةِ كَتَرْكِ الْوَطْءِ فَهُوَ مُؤَثِّرٌ فِي تَقْلِيلِهِ.
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى: الْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ، وَلَكِنْ حَدِيثُ التَّحْرِيمِ نَاسِخٌ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ أبي محمد ابن حزم وَغَيْرِهِ. قَالُوا: لِأَنَّهُ نَاقِلٌ عَنِ الْأَصْلِ، وَالْأَحْكَامُ كَانَتْ قَبْلَ التَّحْرِيمِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَدَعْوَى هَؤُلَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى تَارِيخٍ مُحَقَّقٍ يُبَيِّنُ تَأَخُّرَ أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ عَنِ الْآخَرِ وَأَنَّى لَهُمْ بِهِ وَقَدِ اتَّفَقَ عمر وعلي رضي الله عنهما عَلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ مَوْءُودَةً حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ، فَرَوَى الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادِهِ عَنْ عبيد بن رفاعة عَنْ أَبِيهِ قَالَ:(جَلَسَ إِلَى عمر علي والزبير وسعد رضي الله عنهم فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَذَاكَرُوا الْعَزْلَ، فَقَالُوا: لَا بَأْسَ بِهِ فَقَالَ: رَجُلٌ إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا الْمَوْءُودَةُ الصُّغْرَى، فَقَالَ علي رضي الله عنه: لَا تَكُونُ مَوْءُودَةٌ حَتَّى تَمُرَّ عَلَيْهَا التَّارَاتُ السَّبْعُ حَتَّى تَكُونَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ تَكُونَ نُطْفَةً، ثُمَّ تَكُونَ عَلَقَةً، ثُمَّ تَكُونَ مُضْغَةً، ثُمَّ تَكُونَ عِظَامًا، ثُمَّ تَكُونَ لَحْمًا، ثُمَّ تَكُونَ خَلْقًا آخَرَ، فَقَالَ عمر رضي الله عنه: صَدَقْتَ أَطَالَ اللَّهُ بَقَاءَكَ) وَبِهَذَا احْتَجَّ مَنِ احْتَجَّ عَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ لِلرَّجُلِ بِطُولِ الْبَقَاءِ.
وَأَمَّا مَنْ جَوَّزَهُ بِإِذْنِ الْحُرَّةِ فَقَالَ لِلْمَرْأَةِ حَقٌّ فِي الْوَلَدِ كَمَا لِلرَّجُلِ حَقٌّ فِيهِ، وَلِهَذَا كَانَتْ أَحَقَّ بِحَضَانَتِهِ، قَالُوا: وَلَمْ يُعْتَبَرْ إِذْنُ السُّرِّيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهَا لَا حَقَّ لَهَا فِي الْقَسْمِ وَلِهَذَا لَا تُطَالِبُهُ بِالْفَيْئَةِ. وَلَوْ كَانَ لَهَا حَقٌّ فِي الْوَطْءِ لَطُولِبَ الْمُؤْلِي مِنْهَا بِالْفَيْئَةِ.
قَالُوا: وَأَمَّا زَوْجَتُهُ الرَّقِيقَةُ فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَ عَنْهَا بِغَيْرِ إِذْنِهَا صِيَانَةً لِوَلَدِهِ عَنِ الرِّقِّ وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ إِذْنُ سَيِّدِهَا؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْوَلَدِ، فَاعْتُبِرَ إِذْنُهُ فِي الْعَزْلِ كَالْحُرَّةِ، وَلِأَنَّ بَدَلَ الْبُضْعِ يَحْصُلُ لِلسَّيِّدِ كَمَا يَحْصُلُ لِلْحُرَّةِ، فَكَانَ إِذْنُهُ فِي الْعَزْلِ كَإِذْنِ الْحُرَّةِ.
قَالَ أحمد رحمه الله فِي رِوَايَةِ أبي طالب فِي الْأَمَةِ إِذَا نَكَحَهَا: يَسْتَأْذِنُ أَهْلَهَا يَعْنِي فِي الْعَزْلِ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ الْوَلَدَ وَالْمَرْأَةُ لَهَا حَقٌّ، تُرِيدُ الْوَلَدَ وَمِلْكُ يَمِينِهِ لَا يَسْتَأْذِنُهَا.