الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَدُّ، وَأَنْ يُرَادَ بِهِ الْحَبْسُ وَالْعُقُوبَةُ الْمَطْلُوبَةُ، فَلَا يَتَعَيَّنُ إِرَادَةُ الْحَدِّ بِهِ، فَإِنَّ الدَّالَّ عَلَى الْمُطْلَقِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْمُقَيَّدِ إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ خَارِجٍ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ ذَلِكَ الِاحْتِمَالُ، فَلَا يَثْبُتُ الْحَدُّ مَعَ قِيَامِهِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ هَذَا بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ عمر وعلي رضي الله عنهما:(إِنَّ الْحَدَّ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْبَيِّنَةِ أَوِ الِاعْتِرَافِ أَوِ الْحَبَلِ)
ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُصْنَعُ بِهَا إِذَا لَمْ تُلَاعِنْ، فَقَالَ أحمد: إِذَا أَبَتِ الْمَرْأَةُ أَنْ تَلْتَعِنَ بَعْدَ الْتِعَانِ الرَّجُلِ أَجْبَرْتُهَا عَلَيْهِ وَهِبْتُ أَنْ أَحْكُمَ عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِلِسَانِهَا لَمْ أَرْجُمْهَا إِذَا رَجَعَتْ، فَكَيْفَ إِذَا أَبَتِ اللِّعَانَ؟ وَعَنْهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ: يُخَلَّى سَبِيلُهَا، اخْتَارَهَا أبو بكر؛ لِأَنَّهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ، فَيَجِبُ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهَا كَمَا لَوْ لَمْ تَكْمُلِ الْبَيِّنَةُ.
[فصل حُجَجُ الْمُوجِبِينَ لِلْحَدِّ]
فَصْلٌ
قَالَ الْمُوجِبُونَ لِلْحَدِّ: مَعْلُومٌ أَنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى جَعَلَ الْتِعَانَ الزَّوْجِ بَدَلًا عَنِ الشُّهُودِ وَقَائِمًا مَقَامَهُمْ، بَلْ جَعَلَ الْأَزْوَاجَ الْمُلْتَعِنِينَ شُهَدَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَصَرَّحَ بِأَنَّ لِعَانَهُمْ شَهَادَةٌ، وَأَوْضَحَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8] ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ الْعَذَابِ الدُّنْيَوِيِّ قَدْ وُجِدَ، وَأَنَّهُ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهَا إِلَّا لِعَانُهَا، وَالْعَذَابُ الْمَدْفُوعُ عَنْهَا بِلِعَانِهَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] ، وَهَذَا عَذَابُ الْحَدِّ قَطْعًا، فَذَكَرَهُ مُضَافًا وَمُعَرَّفًا بِلَامِ الْعَهْدِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْصَرِفَ إِلَى عُقُوبَةٍ لَمْ تُذْكَرْ فِي اللَّفْظِ، وَلَا دُلَّ عَلَيْهَا بِوَجْهٍ مَا مِنْ حَبْسٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَكَيْفَ يُخَلَّى سَبِيلُهَا وَيُدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابُ بِغَيْرِ لِعَانٍ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا مُخَالَفَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ؟
قَالُوا: وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِعَانَ الزَّوْجِ دَارِئًا لِحَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُ، وَجَعَلَ لِعَانَ الزَّوْجَةِ دَارِئًا لِعَذَابِ حَدِّ الزِّنَى عَنْهَا، فَكَمَا أَنَّ الزَّوْجَ إِذَا لَمْ يُلَاعِنْ يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إِذَا لَمْ تُلَاعِنْ يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ لَوْ كَانَ بَيِّنَةً تُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهَا لَمْ تَمْلِكْ هِيَ إِسْقَاطَهُ بِاللِّعَانِ كَشَهَادَةِ الْأَجْنَبِيِّ.
فَالْجَوَابُ: أَنَّ حُكْمَ اللِّعَانِ حُكْمٌ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مَرْدُودٍ إِلَى أَحْكَامِ الدَّعَاوَى وَالْبَيِّنَاتِ، بَلْ هُوَ أَصْلٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ شَرَعَهُ الَّذِي شَرَعَ نَظِيرَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ، وَفَصَلَهُ الَّذِي فَصَلَ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ، وَلَمَّا كَانَ لِعَانُ الزَّوْجِ بَدَلًا عَنِ الشُّهُودِ لَا جَرَمَ نَزَلَ عَنْ مَرْتَبَةِ الْبَيِّنَةِ فَلَمْ يَسْتَقِلَّ وَحْدَهُ بِحُكْمِ الْبَيِّنَةِ، وَجَعَلَ لِلْمَرْأَةِ مُعَارَضَتَهُ بِلِعَانِ نَظِيرِهِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا يَظْهَرُ تَرْجِيحُ أَحَدِ اللِّعَانَيْنِ عَلَى الْآخَرِ لَنَا، وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ، فَلَا وَجْهَ لِحَدِّ الْمَرْأَةِ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ. فَإِذَا مُكِّنَتْ مِنْ مُعَارَضَتِهِ وَإِتْيَانِهَا بِمَا يُبَرِّئُ سَاحَتَهَا فَلَمْ تَفْعَلْ وَنَكَلَتْ عَنْ ذَلِكَ عَمِلَ الْمُقْتَضَى عَمَلَهُ، وَانْضَافَ إِلَيْهِ قَرِينَةٌ قَوَّتْهُ وَأَكَّدَتْهُ، وَهِيَ نُكُولُ الْمَرْأَةِ وَإِعْرَاضُهَا عَمَّا يُخَلِّصُهَا مِنَ الْعَذَابِ وَيَدْرَؤُهُ عَنْهَا.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا مَعَ ثَلَاثَةٍ غَيْرَهُ لَمْ تُحَدَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، فَكَيْفَ تُحَدُّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ؟ فَجَوَابُهُ: أَنَّهَا لَمْ تُحَدَّ بِشَهَادَةٍ مُجَرَّدَةٍ، وَإِنَّمَا حُدَّتْ بِمَجْمُوعِ لِعَانِهِ خَمْسَ مَرَّاتٍ وَنُكُولِهَا عَنْ مُعَارَضَتِهِ مَعَ قُدْرَتِهَا عَلَيْهَا، فَقَامَ مِنْ مَجْمُوعِ ذَلِكَ دَلِيلٌ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ وَالْقُوَّةِ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِ، وَالظَّنُّ الْمُسْتَفَادُ مِنْهُ أَقْوَى بِكَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ الْمُسْتَفَادِ مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهُ أَحَدُ اللِّعَانَيْنِ فَلَا يُوجِبُ حَدَّ الْآخَرِ كَمَا لَمْ يُوجِبْ لِعَانُهَا حَدَّهُ.
فَجَوَابُهُ: أَنَّ لِعَانَهَا إِنَّمَا شُرِعَ لِلدَّفْعِ، لَا لِلْإِيجَابِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] فَدَلَّ النَّصُّ عَلَى أَنَّ لِعَانَهُ مُقْتَضٍ لِإِيجَابِ الْحَدِّ، وَلِعَانُهَا دَافِعٌ وَدَارِئٌ لَا مُوجِبٌ، فَقِيَاسُ أَحَدِ اللِّعَانَيْنِ عَلَى الْآخَرِ جَمْعٌ بَيْنَ مَا فَرَّقَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ بَاطِلٌ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: ( «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» ) فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَا رَيْبَ أَنَّ لِعَانَ الزَّوْجِ الْمَذْكُورَ الْمُكَرَّرَ بَيِّنَةٌ، وَقَدِ انْضَمَّ إِلَيْهِ نُكُولُهَا الْجَارِي مَجْرَى إِقْرَارِهَا عِنْدَ قَوْمٍ، وَمَجْرَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِينَ عِنْدَ
آخَرِينَ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ: ( «الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ) وَلَمْ يُبْطِلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذَا، وَإِنَّمَا نَقَلَهُ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ بَيِّنَةٍ مُنْفَصِلَةٍ تُسْقِطُ الْحَدَّ عَنْهُ يَعْجِزُ عَنْ إِقَامَتِهَا، إِلَى بَيِّنَةٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إِقَامَتِهَا، وَلَمَّا كَانَتْ دُونَهَا فِي الرُّتْبَةِ اعْتُبِرَ لَهَا مُقَوٍّ مُنْفَصْلٌ، وَهُوَ نُكُولُ الْمَرْأَةِ عَنْ دَفْعِهَا وَمُعَارَضَتِهَا مَعَ قُدْرَتِهَا وَتَمَكُّنِهَا.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ مُوجَبَ لِعَانِهِ إِسْقَاطُ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ، لَا إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا إِلَى آخِرِهِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ مِنْ مُوجَبِهِ إِسْقَاطَ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهِ فَحَقٌّ، وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ يُسْقِطُ جَمِيعَ مُوجَبِهِ وَلَا مُوجَبَ لَهُ سِوَاهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ أَوْ وُجُوبَ التَّفْرِيقِ وَالتَّحْرِيمِ الْمُؤَبَّدِ أَوِ الْمُؤَقَّتِ، وَنَفْيَ الْوَلَدِ الْمُصَرَّحِ بِنَفْيِهِ، أَوِ الْمُكْتَفَى فِي نَفْيِهِ بِاللِّعَانِ، وَوُجُوبَ الْعَذَابِ عَلَى الزَّوْجَةِ، إِمَّا عَذَابِ الْحَدِّ أَوْ عَذَابِ الْحَبْسِ، كُلَّ ذَلِكَ مِنْ مُوجَبِ اللِّعَانِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّمَا يُوجِبُ سُقُوطَ حَدِّ الْقَذْفِ عَنِ الزَّوْجِ فَقَطْ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوا حَدَّ الزِّنَى بِأَحَدِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ؛ إِمَّا الْبَيِّنَةُ أَوِ الِاعْتِرَافُ أَوِ الْحَبَلُ، وَاللِّعَانُ لَيْسَ مِنْهَا، فَجَوَابُهُ أَنَّ مُنَازِعِيكُمْ يَقُولُونَ: إِنْ كَانَ إِيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهَا بِاللِّعَانِ خِلَافًا لِأَقْوَالِ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ، فَإِنَّ إِسْقَاطَ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ أَدْخَلُ فِي خِلَافِهِمْ وَأَظْهَرُ، فَمَا الَّذِي سَوَّغَ لَكُمْ إِسْقَاطَ حَدٍّ أَوْجَبُوهُ بِالْحَبَلِ، وَصَرِيحٌ مُخَالَفَتُهُمْ، وَحَرَّمَ عَلَى مُنَازِعِيكُمْ مُخَالَفَتَهُمْ فِي إِيجَابِ الْحَدِّ بِغَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَعَ أَنَّهُمْ أَعْذَرُ مِنْكُمْ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ.
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ لَمْ يُخَالِفُوا صَرِيحَ قَوْلِهِمْ، وَإِنَّمَا هُوَ مُخَالَفَةٌ لِمَفْهُومٍ سَكَتُوا عَنْهُ، فَهُوَ مُخَالَفَةٌ لِسُكُوتِهِمْ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ صَرِيحَ أَقْوَالِهِمْ.
الثَّانِي: أَنَّ غَايَةَ مَا خَالَفُوهُ مَفْهُومٌ قَدْ خَالَفَهُ صَرِيحٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ بِإِيجَابِ الْحَدِّ، فَلَمْ يُخَالِفُوا مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَأَنْتُمْ خَالَفْتُمْ مَنْطُوقًا لَا يُعْلَمُ لَهُمْ فِيهِ مُخَالِفٌ الْبَتَّةَ هَاهُنَا، وَهُوَ إِيجَابُ الْحَدِّ بِالْحَبَلِ، فَلَا يُحْفَظُ عَنْ صَحَابِيٍّ قَطُّ مُخَالَفَةُ عمر وعلي رضي الله عنهما فِي إِيجَابِ الْحَدِّ بِهِ.
الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ خَالَفُوا هَذَا الْمَفْهُومَ لِمَنْطُوقِ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الَّتِي تَقَدَّمَتْ، وَلِمَفْهُومِ قَوْلِهِ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8][النُّورِ: 8]، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ أَقْوَى مِنْ مَفْهُومِ سُقُوطِ الْحَدِّ بِقَوْلِهِمْ: إِذَا كَانَتِ الْبَيِّنَةُ أَوِ الْحَبَلُ أَوِ الِاعْتِرَافُ، فَهُمْ تَرَكُوا مَفْهُومًا لِمَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ وَأَوْلَى، هَذَا لَوْ كَانُوا قَدْ خَالَفُوا الصَّحَابَةَ، فَكَيْفَ وَقَوْلُهُمْ مُوَافِقٌ لِأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ؟ فَإِنَّ اللِّعَانَ مَعَ نُكُولِ الْمَرْأَةِ مِنْ أَقْوَى الْبَيِّنَاتِ كَمَا تَقَرَّرَ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: لَمْ يَتَحَقَّقْ زِنَاهَا إِلَى آخِرِهِ، فَجَوَابُهُ: إِنْ أَرَدْتُمْ بِالتَّحْقِيقِ الْيَقِينَ الْمَقْطُوعَ بِهِ كَالْمُحَرَّمَاتِ، فَهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ، وَلَوْ كَانَ هَذَا شَرْطًا لَمَا أُقِيمَ الْحَدُّ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ، إِذْ شَهَادَتُهُمْ لَا تَجْعَلُ الزِّنَى مُحَقَّقًا بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. وَإِنْ أَرَدْتُمْ بِعَدَمِ التَّحَقُّقِ أَنَّهُ مَشْكُوكٌ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ بِحَيْثُ لَا يَتَرَجَّحُ ثُبُوتُهُ فَبَاطِلٌ قَطْعًا، وَإِلَّا لَمَا وَجَبَ عَلَيْهَا الْعَذَابُ الْمُدْرَأُ بِلِعَانِهَا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ التَّحَقُّقَ الْمُسْتَفَادَ مِنْ لِعَانِهِ الْمُؤَكَّدِ الْمُكَرَّرِ مَعَ إِعْرَاضِهَا عَنْ مُعَارَضَةٍ مُمْكِنَةٍ مِنْهُ، أَقْوَى مِنَ التَّحَقُّقِ بِأَرْبَعِ شُهُودٍ، وَلَعَلَّ لَهُمْ غَرَضًا فِي قَذْفِهَا وَهَتْكِهَا وَإِفْسَادِهَا عَلَى زَوْجِهَا، وَالزَّوْجُ لَا غَرَضَ لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْهَا.
وَقَوْلُكُمْ: إِنَّهُ لَوْ تَحَقَّقَ فَإِمَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ بِلِعَانِ الزَّوْجِ أَوْ بِنُكُولِهَا أَوْ بِهِمَا، فَجَوَابُهُ أَنَّهُ تَحَقَّقَ بِهِمَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ اسْتِقْلَالِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِالْحَدِّ وَضَعْفِهِ عَنْهُ عَدَمُ اسْتِقْلَالِهِمَا مَعًا، إِذْ هَذَا شَأْنُ كُلِّ مُفْرَدٍ لَمْ يَسْتَقِلَّ بِالْحُكْمِ بِنَفْسِهِ، وَيَسْتَقِلُّ بِهِ مَعَ غَيْرِهِ لِقُوَّتِهِ بِهِ.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: عَجَبًا لِلشَّافِعِيِّ! كَيْفَ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ فِي دِرْهَمٍ وَيَقْضِي بِهِ فِي إِقَامَةِ حَدٍّ بَالَغَ الشَّارِعُ فِي سَتْرِهِ وَاعْتَبَرَ لَهُ أَكْمَلَ بَيِّنَةٍ، فَهَذَا مَوْضِعٌ لَا يُنْتَصَرُ فِيهِ لِلشَّافِعِيِّ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَلَيْسَ لِهَذَا وُضِعَ كِتَابُنَا هَذَا، وَلَا قَصَدْنَا بِهِ نُصْرَةَ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَإِنَّمَا قَصَدْنَا بِهِ مُجَرَّدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي سِيرَتِهِ وَأَقْضِيَتِهِ وَأَحْكَامِهِ، وَمَا تَضَمَّنَ سِوَى ذَلِكَ، فَتَبَعٌ مَقْصُودٌ لِغَيْرِهِ،
فَهَبْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْضِ بِالنُّكُولِ تَنَاقَضَ فَمَاذَا يَضُرُّ ذَلِكَ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.
وَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا
عَلَى أَنَّ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَتَنَاقَضْ، فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ نُكُولٍ مُجَرَّدٍ لَا قُوَّةَ لَهُ وَبَيْنَ نُكُولٍ قَدْ قَارَنَهُ الْتِعَانٌ مُؤَكَّدٌ مُكَرَّرٌ أُقِيمَ فِي حَقِّ الزَّوْجِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، مَعَ شَهَادَةِ الْحَالِ بِكَرَاهَةِ الزَّوْجِ لِزِنَى امْرَأَتِهِ وَفَضِيحَتِهَا وَخَرَابِ بَيْتِهَا، وَإِقَامَةِ نَفْسِهِ وَحُبِّهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ الْعَظِيمِ بِمَشْهَدِ الْمُسْلِمِينَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِاللَّعْنَةِ إِنْ كَانَ كَاذِبًا بَعْدَ حَلِفِهِ بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. وَالشَّافِعِيُّ رحمه الله إِنَّمَا حَكَمَ بِنُكُولٍ قَدْ قَارَنَهُ مَا هَذَا شَأْنُهُ، فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَحْكُمَ بِنُكُولٍ مُجَرَّدٍ؟ .
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بالزِّنَى ثُمَّ رَجَعَتْ لَسَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ، فَكَيْفَ يَجِبُ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهَا مِنَ الْيَمِينِ؟ بِجَوَابِهِ: مَا تَقَرَّرَ آنِفًا.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ الْعَذَابَ الْمُدْرَأَ عَنْهَا بِلِعَانِهَا هُوَ عَذَابُ الْحَبْسِ أَوْ غَيْرُهُ، فَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمَذْكُورَ إِمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ بَاطِلٌ قَطْعًا، فَإِنَّ لِعَانَهَا لَا يَدْرَؤُهُ إِذَا وَجَبَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا هُوَ عَذَابُ الدُّنْيَا، وَهُوَ الْحَدُّ قَطْعًا، فَإِنَّهُ عَذَابُ الْمَحْدُودِ، وَهُوَ فِدَاءٌ لَهُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَلِهَذَا شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ طُهْرَةً وَفِدْيَةً مِنْ ذَلِكَ الْعَذَابِ،
كَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَ بِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ بِقَوْلِهِ {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2][النُّورِ: 2] ثُمَّ أَعَادَهُ بِعَيْنِهِ بِقَوْلِهِ {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} [النور: 8] فَهَذَا هُوَ الْعَذَابُ الْمَشْهُودُ، مَكَّنَهَا مِنْ دَفْعِهِ بِلِعَانِهَا، فَأَيْنَ هُنَا عَذَابُ غَيْرِهِ حَتَّى تُفَسَّرَ الْآيَةُ بِهِ؟ وَإِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَهَذَا هُوَ الْقَوْلُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا نَعْتَقِدُ سِوَاهُ، وَلَا نَرْتَضِي إِلَّا إِيَّاهُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ نَكَلَ الزَّوْجُ عَنِ اللِّعَانِ بَعْدَ قَذْفِهِ فَمَا حُكْمُ نُكُولِهِ؟
قُلْنَا: يُحَدُّ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ومالك وأحمد وَأَصْحَابِهِمْ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أبو حنيفة، وَقَالَ: يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ تُقِرَّ الزَّوْجَةُ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مُوجَبَ قَذْفِ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ هَلْ هُوَ الْحَدُّ كَقَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، أَوْ مُوجَبُهُ اللِّعَانُ نَفْسُهُ؟ فَالْأَوَّلُ قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَالثَّانِي: قَوْلُ أبي حنيفة، وَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4][النُّورِ: 4] وَبِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: ( «الْبَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ فِي ظَهْرِكَ» ) وَبُقُولِهِ لَهُ: ( «عَذَابُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ» ) وَهَذَا قَالَهُ لهلال بن أمية قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي اللِّعَانِ. فَلَوْ لَمْ يَجِبِ الْحَدُّ بِقَذْفِهِ لَمْ يَكُنْ لِهَذَا مَعْنًى، وَبِأَنَّهُ قَذَفَ حُرَّةً عَفِيفَةً يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا الْقَوَدُ فَحُدَّ بِقَذْفِهَا كَالْأَجْنَبِيِّ، وَبِأَنَّهُ لَوْ لَاعَنَهَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَ لِعَانِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَذْفَهُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، وَلَهُ إِسْقَاطُهُ بِاللِّعَانِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لَمَا وَجَبَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ، وأبو حنيفة يَقُولُ: قَذْفُهُ لَهَا دَعْوَى تُوجِبُ أَحَدَ أَمْرَيْنِ؛ إِمَّا لِعَانُهُ وَإِمَّا إِقْرَارُهَا، فَإِذَا لَمْ يُلَاعِنْ حُبِسَ حَتَّى يُلَاعِنَ، إِلَّا أَنْ تُقِرَّ فَيَزُولَ مُوجَبُ الدَّعْوَى، وَهَذَا بِخِلَافِ قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ عِنْدَ الْمَقْذُوفَةِ، فَكَانَ قَاذِفًا مَحْضًا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: بَلْ قَذْفُهُ جِنَايَةٌ مِنْهُ