الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَهَذَا عثمان وعلي وَابْنُ عَبَّاسٍ ومعاوية جَعَلُوا الْحُكْمَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهُمْ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالِفٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْخِلَافُ بَيْنَ التَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَإِذَا قُلْنَا: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ، فَهَلْ يُجْبَرُ الزَّوْجَانِ عَلَى تَوْكِيلِ الزَّوْجِ فِي الْفُرْقَةِ بِعِوَضٍ وَغَيْرِهِ، وَتَوْكِيلِ الزَّوْجَةِ فِي بَذْلِ الْعِوَضِ أَوْ لَا يُجْبَرَانِ؟ عَلَى رِوَايَتَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: يُجْبَرَانِ فَلَمْ يُوَكِّلَا جَعَلَ الْحَاكِمُ ذَلِكَ إِلَى الْحَكَمَيْنِ بِغَيْرِ رِضَى الزَّوْجَيْنِ، وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمَا حَكَمَانِ لَمْ يَحْتَجْ إِلَى رِضَى الزَّوْجَيْنِ.
وَعَلَى هَذَا النِّزَاعِ يَنْبَنِي مَا لَوْ غَابَ الزَّوْجَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنْ قِيلَ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ، لَمْ يَنْقَطِعْ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، وَإِنْ قِيلَ: حَكَمَانِ انْقَطَعَ نَظَرُهُمَا لِعَدَمِ الْحُكْمِ عَلَى الْغَائِبِ، وَقِيلَ: يَبْقَى نَظَرُهُمَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَتَطَرَّفَانِ لِحَظِّهِمَا فَهُمَا كَالنَّاظِرَيْنِ. وَإِنْ جُنَّ الزَّوْجَانِ، انْقَطَعَ نَظَرُ الْحَكَمَيْنِ، إِنْ قِيلَ: إِنَّهُمَا وَكِيلَانِ؛ لِأَنَّهُمَا فَرْعُ الْمُوَكِّلِينَ، وَلَمْ يَنْقَطِعْ إِنْ قِيلَ: إِنَّهُمَا حَكَمَانِ لِأَنَّ الْحَاكِمَ يَلِي عَلَى الْمَجْنُونِ. وَقِيلَ: يَنْقَطِعُ أَيْضًا لِأَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَنْهُمَا فَكَأَنَّهُمَا وَكِيلَانِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّهُمَا حَكَمَانِ فِيهِمَا شَائِبَةُ الْوَكَالَةِ، وَوَكِيلَانِ مَنْصُوبَانِ لِلْحُكْمِ، فَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْحُكْمِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رَجَّحَ جَانِبَ الْوَكَالَةِ وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ الْأَمْرَيْنِ.
[حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْخُلْعِ]
فِي " صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ ": عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه: ( «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ أَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ مَا أَعِيبُ عَلَيْهِ فِي خُلُقٍ وَلَا دِينٍ وَلَكِنِّي أَكْرَهُ الْكُفْرَ فِي الْإِسْلَامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " تَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: " اقْبَلِ الْحَدِيقَةَ وَطَلِّقْهَا
تَطْلِيقَةً» ) .
وَفِي " سُنَنِ النَّسَائِيِّ " عَنِ الربيع بنت معوذ ( «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ ضَرَبَ امْرَأَتَهُ فَكَسَرَ يَدَهَا، وَهِيَ جميلة بنت عبد الله بن أبي فَأَتَى أَخُوهَا يَشْتَكِيهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَقَالَ: " خُذِ الَّذِي لَهَا عَلَيْكَ وَخَلِّ سَبِيلَهَا " قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَتَرَبَّصَ حَيْضَةً وَاحِدَةً وَتَلْحَقَ بِأَهْلِهَا» ) .
وَفِي " سُنَنِ أبي داود ": عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ( «أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا فَأَمَرَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تَعْتَدَّ حَيْضَةً» ) .
وَفِي " سُنَنِ الدَّارَقُطْنِيِّ " فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: ( «أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ الَّتِي أَعْطَاكِ "؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: " أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا وَلَكِنْ حَدِيقَتَهُ " قَالَتْ: نَعَمْ. فَأَخَذَ مَالَهُ وَخَلَّى سَبِيلَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ قَالَ: قَدْ قَبِلْتُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
فَتَضَمَّنَ هَذَا الْحُكْمُ النَّبَوِيُّ عِدَّةَ أَحْكَامٍ:
أَحَدُهَا: جَوَازُ الْخُلْعِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ، قَالَ تَعَالَى:
{وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229][الْبَقَرَةِ: 229]
وَمَنَعَ الْخُلْعَ طَائِفَةٌ شَاذَّةٌ مِنَ النَّاسِ خَالَفَتِ النَّصَّ وَالْإِجْمَاعَ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ مُطْلَقًا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ، وَمَنَعَهُ طَائِفَةٌ بِدُونِ إِذْنِهِ، وَالْأَئِمَّةُ الْأَرْبَعَةُ وَالْجُمْهُورُ عَلَى خِلَافِهِ.
وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِهِ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ سَمَّاهُ فِدْيَةً، وَلَوْ كَانَ رَجْعِيًّا كَمَا قَالَهُ بَعْضُ النَّاسِ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَرْأَةِ الِافْتِدَاءُ مِنَ الزَّوْجِ بِمَا بَذَلَتْهُ لَهُ، وَدَلَّ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] عَلَى جَوَازِهِ بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ وَأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ عبد الرزاق، عَنْ معمر، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عُقَيْلٍ، أَنَّ الربيع بنت معوذ بن عفراء حَدَّثَتْهُ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ تَمْلِكُهُ فَخُوصِمَ فِي ذَلِكَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ، فَأَجَازَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْخُذَ عِقَاصَ رَأْسِهَا فَمَا دُونَهُ.
وَذَكَرَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ موسى بن عقبة عن نافع: أَنَّ ابْنَ عُمَرَ جَاءَتْهُ مَوْلَاةٌ لِامْرَأَتِهِ اخْتَلَعَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَهَا وَكُلِّ ثَوْبٍ لَهَا حَتَّى نُقْبَتِهَا.
وَرُفِعَتْ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ امْرَأَةٌ نَشَزَتْ عَنْ زَوْجِهَا فَقَالَ: (اخْلَعْهَا وَلَوْ مِنْ قُرْطِهَا) ذَكَرَهُ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ عَنْ أيوب عَنْ كثير بن أبي كثير عَنْهُ.
وَذَكَرَ عبد الرزاق عَنْ معمر عَنْ ليث عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: ( «لَا يَأْخُذُ مِنْهَا فَوْقَ مَا أَعْطَاهَا» ) .
وَقَالَ طَاوُوسٌ: لَا يَحِلُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَقَالَ عطاء: إِنْ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى صَدَاقِهَا، فَالزِّيَادَةُ مَرْدُودَةٌ إِلَيْهَا.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: إِنْ أَخَذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا لَمْ يُسَرِّحْ بِإِحْسَانٍ.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَتِ الْقُضَاةُ لَا تُجِيزُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا مَا سَاقَ إِلَيْهَا.
وَالَّذِينَ جَوَّزُوهُ احْتَجُّوا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَآثَارِ الصَّحَابَةِ، وَالَّذِينَ مَنَعُوهُ احْتَجُّوا بِحَدِيثِ أبي الزبير «أَنَّ ثَابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ لَمَّا أَرَادَ خُلْعَ امْرَأَتِهِ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:(أَتَرُدِّينَ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ "؟ قَالَتْ: نَعَمْ وَزِيَادَةً. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَمَّا الزِّيَادَةُ فَلَا) » . قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ سَمِعَهُ أبو الزبير مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.
قَالُوا: وَالْآثَارُ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخْتَلِفَةٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ تَحْرِيمُ الزِّيَادَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ إِبَاحَتُهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ كَرَاهَتُهَا، كَمَا رَوَى وَكِيعٌ عَنْ أبي حنيفة عَنْ عمار بن عمران الهمداني عَنْ أَبِيهِ عَنْ علي رضي الله عنه: أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَاهَا، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ أَخَذَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَنَصَّ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وأبو بكر مِنْ أَصْحَابِهِ حَرَّمَ الزِّيَادَةَ وَقَالَ: تُرَدُّ عَلَيْهَا.
وَقَدْ ذَكَرَ عبد الرزاق عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ لِي عطاء «أَتَتِ امْرَأَةٌ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنِّي أُبْغِضُ زَوْجِي وَأُحِبُّ فِرَاقَهُ قَالَ