الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عبد الله بن أحمد رَأَيْتُ أَبِي كَانَ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عمرو عَنْ طَاوُوسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (الْخُلْعُ تَفْرِيقٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ) وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ ابن طاووس كَانَ أَبِي لَا يَرَى الْفِدَاءَ طَلَاقًا وَيُخَيِّرُهُ.
وَمَنِ اعْتَبَرَ الْأَلْفَاظَ وَوَقَفَ مَعَهَا وَاعْتَبَرَهَا فِي أَحْكَامِ الْعُقُودِ جَعَلَهُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ طَلَاقًا، وَقَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُهُ تَشْهَدُ أَنَّ الْمَرْعِيَّ فِي الْعُقُودِ حَقَائِقُهَا وَمَعَانِيهَا لَا صُوَرُهَا وَأَلْفَاظُهَا وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ ثَابِتَ بْنَ قَيْسٍ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فِي الْخُلْعِ تَطْلِيقَةً، وَمَعَ هَذَا أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِحَيْضَةٍ وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ فَسْخٌ، وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَّقَ عَلَيْهِ أَحْكَامَ الْفِدْيَةِ بِكَوْنِهِ فِدْيَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفِدْيَةَ لَا تَخْتَصُّ بِلَفْظٍ، وَلَمْ يُعَيِّنِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهَا لَفْظًا مُعَيَّنًا، وَطَلَاقُ الْفِدَاءِ طَلَاقٌ مُقَيَّدٌ وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ الْمُطْلَقُ، كَمَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَهَا فِي ثُبُوتِ الرَّجْعَةِ وَالِاعْتِدَادِ بِثَلَاثَةِ قُرُوءٍ بِالسُّنَّةِ الثَّابِتَةِ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
[ذكر أحكام الرسول صلى الله عليه وسلم في الطلاق]
[ذِكْرُ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَاقِ الْهَازِلِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ وَالتَّطْلِيقِ فِي نَفْسِهِ]
ذِكْرُ أَحْكَامِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الطَّلَاقِ ذِكْرُ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي طَلَاقِ الْهَازِلِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ وَالتَّطْلِيقِ فِي نَفْسِهِ.
فِي " السُّنَنِ ": مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: ( «ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ» ) .
وَفِيهَا: عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ": ( «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ) .
وَفِيهَا: عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: ( «لَا طَلَاقَ وَلَا عَتَاقَ فِي إِغْلَاقٍ» ) .
وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ «قَالَ لِلْمُقِرِّ بِالزِّنَى: (أَبِكَ جُنُونٌ) » ؟ .
وَثَبَتَ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِهِ أَنْ يُسْتَنْكَهَ.
وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي " صَحِيحِهِ ": عَنْ علي أَنَّهُ قَالَ لعمر: ( «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الْقَلَمَ رُفِعَ عَنْ ثَلَاثٍ عَنِ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْرِكَ وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ» ) .
وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْهُ صلى الله عليه وسلم: ( «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» ) .
فَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ السُّنَنُ أَنَّ مَا لَمْ يَنْطِقْ بِهِ اللِّسَانُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ عَفْوٌ غَيْرُ لَازِمٍ بِالنِّيَّةِ وَالْقَصْدِ، وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ آخَرَانِ:
أَحَدُهُمَا: التَّوَقُّفُ فِيهَا، قَالَ عبد الرزاق عَنْ معمر: سُئِلَ ابْنُ سِيرِينَ عَمَّنْ طَلَّقَ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ أَلَيْسَ قَدْ عَلِمَ اللَّهُ مَا فِي نَفْسِكَ؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: فَلَا أَقُولُ فِيهَا شَيْئًا.
وَالثَّانِي: وُقُوعُهُ إِذَا جَزَمَ عَلَيْهِ وَهَذَا رِوَايَةُ أشهب عَنْ مالك، وَرُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم:( «إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) وَأَنَّ مَنْ كَفَرَ فِي نَفْسِهِ، فَهُوَ كَفَرَ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى:{وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284][الْبَقَرَةِ: 248] وَأَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسِقٌ مُؤَاخَذٌ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا
وَبِأَنَّ أَعْمَالَ الْقُلُوبِ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ كَأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ وَلِهَذَا يُثَابُ عَلَى الْحُبِّ وَالْبُغْضِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ فِي اللَّهِ، وَعَلَى التَّوَكُّلِ وَالرِّضَى وَالْعَزْمِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَيُعَاقَبُ عَلَى الْكِبْرِ وَالْحَسَدِ وَالْعُجْبِ وَالشَّكِّ وَالرِّيَاءِ وَظَنِّ السَّوْءِ بِالْأَبْرِيَاءِ.
وَلَا حُجَّةَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا عَلَى وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ، أَمَّا حَدِيثُ ( «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ) فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ فِيهِ أَنَّ الْعَمَلَ مَعَ النِّيَّةِ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، لَا النِّيَّةَ وَحْدَهَا، وَأَمَّا مَنِ اعْتَقَدَ الْكُفْرَ بِقَلْبِهِ أَوْ شَكَّ، فَهُوَ كَافِرٌ لِزَوَالِ الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ عَقْدُ الْقَلْبِ مَعَ الْإِقْرَارِ، فَإِذَا زَالَ الْعَقْدُ الْجَازِمُ كَانَ نَفْسُ زَوَالِهِ كُفْرًا، فَإِنَّ الْإِيمَانَ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ ثَابِتٌ قَائِمٌ بِالْقَلْبِ، فَمَا لَمْ يَقُمْ بِالْقَلْبِ، حَصَلَ ضِدُّهُ وَهُوَ الْكُفْرُ، وَهَذَا كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ إِذَا فُقِدَ الْعِلْمُ حَصَلَ الْجَهْلُ، وَكَذَلِكَ كُلُّ نَقِيضَيْنِ زَالَ أَحَدُهُمَا خَلَفَهُ الْآخَرُ.
وَأَمَّا الْآيَةُ فَلَيْسَ فِيهَا أَنَّ الْمُحَاسَبَةَ بِمَا يُخْفِيهِ الْعَبْدُ إِلْزَامُهُ بِأَحْكَامِهِ بِالشَّرْعِ، وَإِنَّمَا فِيهَا مُحَاسَبَتُهُ بِمَا يُبْدِيهِ أَوْ يُخْفِيهِ، ثُمَّ هُوَ مَغْفُورٌ لَهُ أَوْ مُعَذَّبٌ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِالنِّيَّةِ.
وَأَمَّا أَنَّ الْمُصِرَّ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَاسِقٌ مُؤَاخَذٌ، فَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِيمَنْ عَمِلَ الْمَعْصِيَةَ، ثُمَّ أَصَرَّ عَلَيْهَا، فَهُنَا عَمَلٌ اتَّصَلَ بِهِ الْعَزْمُ عَلَى مُعَاوَدَتِهِ، فَهَذَا هُوَ الْمُصِرُّ، وَأَمَّا مَنْ عَزَمَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يَعْمَلْهَا فَهُوَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ لَا تُكْتَبَ عَلَيْهِ، وَإِمَّا أَنْ تُكْتَبَ لَهُ حَسَنَةً إِذَا تَرَكَهَا لِلَّهِ عز وجل. وَأَمَّا الثَّوَابُ وَالْعِقَابُ عَلَى أَعْمَالِ الْقُلُوبِ فَحَقٌّ وَالْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ مَمْلُوءَانِ بِهِ، وَلَكِنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ أَمْرٌ خَارِجٌ عَنِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، وَلَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، فَإِنَّ مَا يُعَاقَبُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ هُوَ مَعَاصٍ قَلْبِيَّةٌ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَيْهَا، كَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الْمَعَاصِي الْبَدَنِيَّةِ إِذْ هِيَ مُنَافِيَةٌ لِعُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ، فَإِنَّ الْكِبْرَ وَالْعُجْبَ وَالرِّيَاءَ وَظَنَّ السَّوْءِ مُحَرَّمَاتٌ عَلَى الْقَلْبِ، وَهِيَ أُمُورٌ اخْتِيَارِيَّةٌ يُمْكِنُ اجْتِنَابُهَا فَيَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ عَلَى فِعْلِهَا وَهِيَ أَسْمَاءٌ لِمَعَانٍ مُسَمَّيَاتُهَا قَائِمَةٌ بِالْقَلْبِ.
وَأَمَّا الْعَتَاقُ وَالطَّلَاقُ فَاسْمَانِ لِمُسَمَّيَيْنِ قَائِمَيْنِ بِاللِّسَانِ، أَوْ مَا نَابَ عَنْهُ مِنْ
إِشَارَةٍ أَوْ كِتَابَةٍ وَلَيْسَا اسْمَيْنِ لِمَا فِي الْقَلْبِ مُجَرَّدًا عَنِ النُّطْقِ.
وَتَضَمَّنَتْ أَنَّ الْمُكَلَّفَ إِذَا هَزَلَ بِالطَّلَاقِ أَوِ النِّكَاحِ أَوِ الرَّجْعَةِ لَزِمَهُ مَا هَزَلَ بِهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْهَازِلِ مُعْتَبَرٌ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ كَلَامُ النَّائِمِ وَالنَّاسِي وَزَائِلِ الْعَقْلِ وَالْمُكْرَهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ لِلَّفْظِ غَيْرُ مُرِيدٍ لِحُكْمِهِ، وَذَلِكَ لَيْسَ إِلَيْهِ فَإِنَّمَا إِلَى الْمُكَلَّفِ الْأَسْبَابُ، وَأَمَّا تَرَتُّبُ مُسَبَّبَاتِهَا وَأَحْكَامِهَا فَهُوَ إِلَى الشَّارِعِ قَصَدَهُ الْمُكَلَّفُ أَوْ لَمْ يَقْصِدْهُ، وَالْعِبْرَةُ بِقَصْدِهِ السَّبَبَ اخْتِيَارًا فِي حَالِ عَقْلِهِ وَتَكْلِيفِهِ فَإِذَا قَصَدَهُ، رَتَّبَ الشَّارِعُ عَلَيْهِ حُكْمَهُ جَدَّ بِهِ أَوْ هَزَلَ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّائِمِ وَالْمُبَرْسَمِ وَالْمَجْنُونِ وَالسَّكْرَانِ وَزَائِلِ الْعَقْلِ فَإِنَّهُمْ لَيْسَ لَهُمْ قَصْدٌ صَحِيحٌ، وَلَيْسُوا مُكَلَّفِينَ فَأَلْفَاظُهُمْ لَغْوٌ بِمَنْزِلَةِ أَلْفَاظِ الطِّفْلِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ مَعْنَاهَا وَلَا يَقْصِدُهُ.
وَسِرُّ الْمَسْأَلَةِ الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ قَصَدَ اللَّفْظَ وَهُوَ عَالِمٌ بِهِ وَلَمْ يُرِدْ حُكْمَهُ، وَبَيْنَ مَنْ لَمْ يَقْصِدِ اللَّفْظَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَعْنَاهُ، فَالْمَرَاتِبُ الَّتِي اعْتَبَرَهَا الشَّارِعُ أَرْبَعَةٌ:
إِحْدَاهَا: أَنْ لَا يَقْصِدَ الْحُكْمَ وَلَا يَتَلَفَّظَ بِهِ.
الثَّانِيَةُ: أَنْ لَا يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَلَا حُكْمَهُ.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ دُونَ حُكْمِهِ.
الرَّابِعَةُ: أَنْ يَقْصِدَ اللَّفْظَ وَالْحُكْمَ فَالْأُولَيَانِ لَغْوٌ، وَالْآخِرَتَانِ مُعْتَبَرَتَانِ. هَذَا الَّذِي اسْتُفِيدَ مِنْ مَجْمُوعِ نُصُوصِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعَلَى هَذَا فَكَلَامُ الْمُكْرَهِ كُلُّهُ لَغْوٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى أَنَّ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ لَا يَكْفُرُ وَمَنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِسْلَامِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُسْلِمًا، وَدَلَّتِ السُّنَّةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ تَجَاوَزَ عَنِ الْمُكْرَهِ فَلَمْ يُؤَاخِذْهُ بِمَا أُكْرِهَ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُرَادُ بِهِ كَلَامُهُ قَطْعًا، وَأَمَّا أَفْعَالُهُ، فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، فَمَا أُبِيحَ مِنْهَا بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُتَجَاوَزٌ عَنْهُ كَالْأَكْلِ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، وَالْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ وَلُبْسِ الْمَخِيطِ فِي الْإِحْرَامِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَمَا لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِهِ كَقَتْلِ الْمَعْصُومِ وَإِتْلَافِ مَالِهِ وَمَا اخْتُلِفَ فِيهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ
وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ هَلْ يُحَدُّ بِهِ أَوْ لَا؟ فَالِاخْتِلَافُ هَلْ يُبَاحُ ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ لَا؟ فَمَنْ لَمْ يُبِحْهُ حَدَّهُ بِهِ، وَمَنْ أَبَاحَهُ بِالْإِكْرَاهِ لَمْ يَحُدَّهُ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فِي الْإِكْرَاهِ أَنَّ الْأَفْعَالَ إِذَا وَقَعَتْ لَمْ تَرْتَفِعْ مَفْسَدَتُهَا، بَلْ مَفْسَدَتُهَا مَعَهَا بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ فَإِنَّهَا يُمْكِنُ إِلْغَاؤُهَا وَجَعْلُهَا بِمَنْزِلَةِ أَقْوَالِ النَّائِمِ وَالْمَجْنُونِ، فَمَفْسَدَةُ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يُبَاحُ بِالْإِكْرَاهِ ثَابِتَةٌ بِخِلَافِ مَفْسَدَةِ الْقَوْلِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا تَثْبُتُ إِذَا كَانَ قَائِلُهُ عَالِمًا بِهِ مُخْتَارًا لَهُ.
وَقَدْ رَوَى وَكِيعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ عَنْ خيثمة عَنْ عبد الرحمن، قَالَ: قَالَتِ امْرَأَةٌ لِزَوْجِهَا: سَمِّنِي فَسَمَّاهَا الظَّبْيَةَ، فَقَالَتْ: مَا قُلْتَ شَيْئًا، قَالَ: فَهَاتِ مَا أُسَمِّيكِ بِهِ، قَالَتْ: سَمِّنِي خَلِيَّةً طَالِقًا، قَالَ: أَنْتِ خَلِيَّةٌ طَالِقٌ، فَأَتَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ فَقَالَتْ: إِنَّ زَوْجِي طَلَّقَنِي، فَجَاءَ زَوْجُهَا فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَأَوْجَعَ عُمَرُ رَأْسَهَا، وَقَالَ لِزَوْجِهَا:(خُذْ بِيَدِهَا وَأَوْجِعْ رَأْسَهَا) .
فَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لَمَّا لَمْ يَقْصِدِ الزَّوْجُ اللَّفْظَ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ، بَلْ قَصَدَ لَفْظًا لَا يُرِيدُ بِهِ الطَّلَاقَ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ أَوْ غُلَامِهِ: إِنِّهَا حُرَّةٌ. وَأَرَادَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفَاجِرَةٍ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ مُسَرَّحَةٌ أَوْ سَرَّحْتُكِ. وَمُرَادُهُ تَسْرِيحُ الشَّعَرِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، فَهَذَا لَا يَقَعُ عِتْقُهُ وَلَا طَلَاقُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ أَوْ تَصَادَقَا فِي الْحُكْمِ لَمْ يَقَعْ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ فَهَذَا مِنْ أَيِّ الْأَقْسَامِ؟ فَإِنَّكُمْ جَعَلْتُمُ الْمَرَاتِبَ أَرْبَعَةً، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُكْرَهٍ وَلَا زَائِلِ الْعَقْلِ وَلَا هَازِلٍ وَلَا قَاصِدٍ لِحُكْمِ اللَّفْظِ؟ قِيلَ: هَذَا مُتَكَلِّمٌ بِاللَّفْظِ مُرِيدٌ بِهِ أَحَدَ مَعْنَيَيْهِ، فَلَزِمَ حُكْمُ مَا أَرَادَهُ بِلَفْظِهِ دُونَ مَا لَمْ يُرِدْهُ، فَلَا يَلْزَمُ بِمَا لَمْ يُرِدْهُ بِاللَّفْظِ إِذَا كَانَ صَالِحًا لِمَا أَرَادَهُ، وَقَدِ «اسْتَحْلَفَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ركانة لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْبَتَّةَ فَقَالَ: (مَا أَرَدْتَ؟ قَالَ:
وَاحِدَةً. قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: آللَّهِ. قَالَ: هُوَ مَا أَرَدْتَ» ) فَقَبِلَ مِنْهُ نِيَّتَهُ فِي اللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ. وَقَدْ قَالَ مالك: إِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ الْبَتَّةَ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ بَدَا لَهُ، فَتَرَكَ الْيَمِينَ فَلَيْسَتْ طَالِقًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يُطَلِّقَهَا، وَبِهَذَا أَفْتَى اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ، حَتَّى إِنَّ أحمد فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ.
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَهَا ثَلَاثُ صُوَرٍ:
إِحْدَاهَا: أَنْ يَرْجِعَ عَنْ يَمِينِهِ وَلَمْ يَكُنِ التَّنْجِيزُ مُرَادَهُ، فَهَذِهِ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَكُونُ حَالِفًا.
الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْيَمِينَ لَا التَّنْجِيزَ، فَيَقُولُ: أَنْتِ طَالِقٌ وَمَقْصُودُهُ إِنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا.
الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ الْيَمِينَ مِنْ أَوَّلِ كَلَامِهِ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَنِ الْيَمِينِ فِي أَثْنَاءِ الْكَلَامِ، وَيَجْعَلُ الطَّلَاقَ مُنَجَّزًا، فَهَذَا لَا يَقَعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْوِ بِهِ الْإِيقَاعَ، وَإِنَّمَا نَوَى بِهِ التَّعْلِيقَ، فَكَانَ قَاصِرًا عَنْ وُقُوعِ الْمُنَجَّزِ، فَإِذَا نَوَى التَّنْجِيزَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَدْ أَتَى فِي التَّنْجِيزِ بِغَيْرِ النِّيَّةِ الْمُجَرَّدَةِ، وَهَذَا قَوْلُ أَصْحَابِ أحمد. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى:{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225][الْبَقَرَةِ: 225]
وَاللَّغْوُ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَحْلِفَ عَلَى الشَّيْءِ يَظُنُّهُ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ، فَيَتَبَيَّنُ بِخِلَافِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ تَجْرِيَ الْيَمِينُ عَلَى لِسَانِهِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِلْحَلِفِ كَلَّا وَاللَّهِ، وَبَلَى وَاللَّهِ فِي أَثْنَاءِ كَلَامِهِ، وَكِلَاهُمَا رَفَعَ اللَّهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِهِ لِعَدَمِ
قَصْدِ الْحَالِفِ إِلَى عَقْدِ الْيَمِينِ وَحَقِيقَتِهَا وَهَذَا تَشْرِيعٌ مِنْهُ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ أَلَّا يُرَتِّبُوا الْأَحْكَامَ عَلَى الْأَلْفَاظِ الَّتِي لَمْ يَقْصِدِ الْمُتَكَلِّمُ بِهَا حَقَائِقَهَا وَمَعَانِيَهَا، وَهَذَا غَيْرُ الْهَازِلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا.
وَقَدْ أَفْتَى الصَّحَابَةُ بِعَدَمِ وُقُوعِ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ وَإِقْرَارِهِ، فَصَحَّ عَنْ عمر أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الرَّجُلُ بِأَمِينٍ عَلَى نَفْسِهِ إِذَا أَوْجَعْتَهُ أَوْ ضَرَبْتَهُ أَوْ أَوْثَقْتَهُ، وَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا تَدَلَّى بِحَبْلٍ لِيَشْتَارَ عَسَلًا، فَأَتَتِ امْرَأَتُهُ فَقَالَتْ: لَأَقْطَعَنَّ الْحَبْلَ أَوْ لَتُطَلِّقَنِّي. فَنَاشَدَهَا اللَّهَ فَأَبَتْ فَطَلَّقَهَا، فَأَتَى عمر فَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ إِلَى امْرَأَتِكَ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ بِطَلَاقٍ. وَكَانَ علي لَا يُجِيزُ طَلَاقَ الْمُكْرَهِ، وَقَالَ ثابت الأعرج: سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ وابن الزبير عَنْ طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، فَقَالَا جَمِيعًا: لَيْسَ بِشَيْءٍ.
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا تَصْنَعُونَ بِمَا رَوَاهُ الغازي بن جبلة عَنْ صفوان بن عمران الأصم عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «أَنَّ رَجُلًا جَلَسَتِ امْرَأَتُهُ عَلَى صَدْرِهِ وَجَعَلَتِ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ، وَقَالَتْ لَهُ: طَلِّقْنِي أَوْ لَأَذْبَحَنَّكَ، فَنَاشَدَهَا فَأَبَتْ، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: (لَا قَيْلُولَةَ فِي الطَّلَاقِ» ) رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي " سُنَنِهِ ".
وَرَوَى عطاء بن عجلان عَنْ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ( «كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ وَالْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ» ) .
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا فرج بن فضالة، حَدَّثَنِي عمرو بن شراحيل المعافري، أَنَّ امْرَأَةً اسْتَلَّتْ سَيْفًا فَوَضَعَتْهُ عَلَى بَطْنِ زَوْجِهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَأُنْفِذَنَّكَ أَوْ لِتُطَلِّقَنِّي، فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَأَمْضَى طَلَاقَهَا. وَقَالَ علي:(كُلُّ الطَّلَاقِ جَائِزٌ إِلَّا طَلَاقَ الْمَعْتُوهِ) .