الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَانَ حَلَالًا لَهُ بِيَقِينٍ، وَإِحْلَالَهُ لِغَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ خَطَأً، فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ جِهَتَيْنِ، فَتَبَيَّنَ أَنَّا أَوْلَى بِالِاحْتِيَاطِ مِنْكُمْ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ أبي طالب فِي طَلَاقِ السَّكْرَانِ نَظِيرُ هَذَا الِاحْتِيَاطِ سَوَاءٌ، فَقَالَ: الَّذِي لَا يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ إِنَّمَا أَتَى خَصْلَةً وَاحِدَةً، وَالَّذِي يَأْمُرُ بِالطَّلَاقِ أَتَى خَصْلَتَيْنِ؛ حَرَّمَهَا عَلَيْهِ، وَأَحَلَّهَا لِغَيْرِهِ، فَهَذَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا.
وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِنَّ النِّكَاحَ يُدْخَلُ فِيهِ بِالْعَزِيمَةِ وَالِاحْتِيَاطِ، وَيُخْرَجُ مِنْهُ بِأَدْنَى شَيْءٍ، قُلْنَا: وَلَكِنْ لَا يُخْرَجُ مِنْهُ إِلَّا بِمَا نَصَبَهُ اللَّهُ سَبَبًا يُخْرَجُ بِهِ مِنْهُ، وَأَذِنَ فِيهِ: وَأَمَّا مَا يَنْصِبُهُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَهُ، وَيَجْعَلُهُ هُوَ سَبَبًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُ، فَكَلَّا. فَهَذَا مُنْتَهَى أَقْدَامِ الطَّائِفَتَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الضَّيِّقَةِ الْمُعْتَرَكِ، الْوَعِرَةِ الْمَسْلَكِ الَّتِي يَتَجَاذَبُ أَعِنَّةَ أَدِلَّتِهَا الْفُرْسَانُ، وَتَتَضَاءَلُ لَدَى صَوْلَتِهَا شَجَاعَةُ الشُّجْعَانِ، وَإِنَّمَا نَبَّهْنَا عَلَى مَأْخَذِهَا وَأَدِلَّتِهَا لِيَعْلَمَ الْغِرُّ الَّذِي بِضَاعَتُهُ مِنَ الْعِلْمِ مُزْجَاةٌ، أَنَّ هُنَاكَ شَيْئًا آخَرَ وَرَاءَ مَا عِنْدَهُ، وَأَنَّهُ إِذَا كَانَ مِمَّنْ قَصُرَ فِي الْعِلْمِ بَاعُهُ، فَضَعُفَ خَلْفَ الدَّلِيلِ، وَتَقَاصَرَ عَنْ جَنْيِ ثِمَارِهِ ذِرَاعُهُ، فَلْيَعْذُرْ مَنْ شَمَّرَ عَنْ سَاقِ عَزْمِهِ، وَحَامَ حَوْلَ آثَارِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَتَحْكِيمِهَا، وَالتَّحَاكُمِ إِلَيْهَا بِكُلِّ هِمَّةٍ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ عَاذِرٍ لِمُنَازِعِهِ فِي قُصُورِهِ وَرَغْبَتِهِ عَنْ هَذَا الشَّأْنِ الْبَعِيدِ، فَلْيَعْذُرْ مُنَازِعَهُ فِي رَغْبَتِهِ عَمَّا ارْتَضَاهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَحْضِ التَّقْلِيدِ، وَلْيَنْظُرْ مَعَ نَفْسِهِ أَيُّهُمَا هُوَ الْمَعْذُورُ، وَأَيُّ السَّعْيَيْنِ أَحَقُّ بِأَنْ يَكُونَ هُوَ السَّعْيَ الْمَشْكُورَ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ، وَهُوَ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ، الْفَاتِحُ لِمَنْ أَمَّ بَابَهُ طَالِبًا لِمَرْضَاتِهِ مِنَ الْخَيْرِ كُلَّ بَابٍ.
[فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ]
قَدْ تَقَدَّمَ حَدِيثُ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رضي الله عنه: ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ جَمِيعًا، فَقَامَ مُغْضَبًا، ثُمَّ قَالَ: " أَيُلْعَبُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟ !» ) ، " وَإِسْنَادُهُ عَلَى شَرْطِ مسلم، فَإِنَّ ابن وهب قَدْ رَوَاهُ عَنْ
مخرمة بن بكير بن الأشج، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ مَحْمُودَ بْنَ لَبِيدٍ فَذَكَرَهُ، ومخرمة ثِقَةٌ بِلَا شَكٍّ، وَقَدِ احْتَجَّ مسلم فِي " صَحِيحِهِ " بِحَدِيثِهِ عَنْ أَبِيهِ.
وَالَّذِينَ أَعَلُّوهُ قَالُوا: لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ، وَإِنَّمَا هُوَ كِتَابٌ. قَالَ أبو طالب: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ مخرمة بن بكير؟ فَقَالَ: هُوَ ثِقَةٌ، وَلَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ، إِنَّمَا هُوَ كِتَابُ مخرمة، فَنَظَرَ فِيهِ، كُلُّ شَيْءٍ يَقُولُ: بَلَغَنِي عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، فَهُوَ مِنْ كِتَابِ مخرمة.
وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ: مخرمة بن بكير وَقَعَ إِلَيْهِ كِتَابُ أَبِيهِ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَبَّاسٍ الدُّورِيِّ: هُوَ ضَعِيفٌ، وَحَدِيثُهُ عَنْ أَبِيهِ كِتَابٌ، وَلَمْ يَسْمَعْهُ مِنْهُ، وَقَالَ أبو داود: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ إِلَّا حَدِيثًا وَاحِدًا، حَدِيثَ الْوِتْرِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ عَنْ خَالِهِ موسى بن سلمة: أَتَيْتُ مخرمة فَقُلْتُ: حَدَّثَكَ أَبُوكَ؟ قَالَ: لَمْ أُدْرِكْ أَبِي، وَلَكِنْ هَذِهِ كُتُبُهُ.
وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ كِتَابَ أَبِيهِ كَانَ عِنْدَهُ مَحْفُوظًا مَضْبُوطًا، فَلَا فَرْقَ فِي قِيَامِ الْحُجَّةِ بِالْحَدِيثِ بَيْنَ مَا حَدَّثَهُ بِهِ، أَوْ رَآهُ فِي كِتَابِهِ، بَلِ الْأَخْذُ عَنِ النُّسْخَةِ أَحْوَطُ إِذَا تَيَقَّنَ الرَّاوِي أَنَّهَا نُسْخَةُ الشَّيْخِ بِعَيْنِهَا، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَبْعَثُ كُتُبَهُ إِلَى الْمُلُوكِ، وَتَقُومُ عَلَيْهِمْ بِهَا الْحُجَّةُ، وَكَتَبَ كُتُبَهُ إِلَى عُمَّالِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَعَمِلُوا بِهَا وَاحْتَجُّوا بِهَا، وَدَفَعَ الصِّدِّيقُ كِتَابَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الزَّكَاةِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، فَحَمَلَهُ وَعَمِلَتْ بِهِ الْأُمَّةُ، وَكَذَلِكَ كِتَابُهُ إِلَى عمرو بن حزم فِي الصَّدَقَاتِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ آلِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَزَلِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ يَحْتَجُّونَ بِكِتَابِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، وَيَقُولُ الْمَكْتُوبُ إِلَيْهِ: كَتَبَ إِلَيَّ فُلَانٌ أَنَّ فُلَانًا أَخْبَرَهُ، وَلَوْ بَطَلَ الِاحْتِجَاجُ بِالْكُتُبِ لَمْ يَبْقَ بِأَيْدِي الْأُمَّةِ إِلَّا أَيْسَرُ الْيَسِيرِ، فَإِنَّ الِاعْتِمَادَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى النُّسَخِ لَا عَلَى الْحِفْظِ، وَالْحِفْظُ خَوَّانٌ، وَالنُّسْخَةُ لَا تَخُونُ، وَلَا يُحْفَظُ فِي زَمَنٍ مِنَ الْأَزْمَانِ الْمُتَقَدِّمَةِ أَنَّ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ رَدَّ الِاحْتِجَاجَ بِالْكِتَابِ، وَقَالَ: لَمْ يُشَافِهْنِي بِهِ الْكَاتِبُ، فَلَا أَقَبْلُهُ، بَلْ كُلُّهُمْ
مُجْمِعُونَ عَلَى قَبُولِ الْكِتَابِ وَالْعَمَلِ بِهِ إِذَا صَحَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ كِتَابُهُ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِيهِ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ مَنْ قَالَ سَمِعَ مِنْهُ، وَمَعَهُ زِيَادَةُ عِلْمٍ وَإِثْبَاتٌ، قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: سُئِلَ أَبِي عَنْ مخرمة بن بكير؟ فَقَالَ: صَالِحُ الْحَدِيثِ. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ أَبِي أُوَيْسٍ: وَجَدْتُ فِي ظَهْرِ كِتَابِ مالك: سَأَلْتُ مخرمة عَمَّا يُحَدِّثُ بِهِ عَنْ أَبِيهِ سَمِعَهَا مِنْ أَبِيهِ؟ فَحَلَفَ لِي: وَرَبِّ هَذِهِ الْبَنِيَّةِ - يَعْنِي الْمَسْجِدَ - سَمِعْتُ مِنْ أَبِي. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ: سَمِعْتُ مَعْنَ بْنَ عِيسَى يَقُولُ: مخرمة سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ، وَعَرَضَ عَلَيْهِ ربيعة أَشْيَاءَ مِنْ رَأْيِ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، وَقَالَ علي: وَلَا أَظُنُّ مخرمة سَمِعَ مِنْ أَبِيهِ كِتَابَ سليمان، لَعَلَّهُ سَمِعَ مِنْهُ الشَّيْءَ الْيَسِيرَ، وَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا بِالْمَدِينَةِ يُخْبِرُنِي عَنْ مخرمة بن بكير أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي شَيْءٍ مِنْ حَدِيثِهِ: سَمِعْتُ أَبِي، ومخرمة ثِقَةٌ. انْتَهَى.
وَيَكْفِي أَنَّ مالكا أَخَذَ كِتَابَهُ، فَنَظَرَ فِيهِ وَاحْتَجَّ بِهِ فِي " مُوَطَّئِهِ "، وَكَانَ يَقُولُ: حَدَّثَنِي مخرمة، وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا. وَقَالَ أبو حاتم: سَأَلْتُ إِسْمَاعِيلَ بْنَ أَبِي أُوَيْسٍ، قُلْتُ: هَذَا الَّذِي يَقُولُ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: حَدَّثَنِي الثِّقَةُ، مَنْ هُوَ؟ قَالَ: مخرمة بن بكير. وَقِيلَ لأحمد بن صالح المصري: كَانَ مخرمة مِنْ ثِقَاتِ الرِّجَالِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ عَنِ ابن وهب وَمَعْنِ بْنِ عِيسَى عَنْ مخرمة: أَحَادِيثُ حِسَانٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَأَرْجُو أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ.
وَفِي " صَحِيحِ مسلم "(قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا: " حَرُمَتْ عَلَيْكَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَكَ، وَعَصَيْتَ رَبَّكَ فِيمَا أَمَرَكَ بِهِ مِنْ طَلَاقِ امْرَأَتِكَ) ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مِنْهُ لِلطَّلَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَتَفْسِيرُ الصَّحَابِيِّ حُجَّةٌ. وَقَالَ الحاكم: هُوَ عِنْدَنَا مَرْفُوعٌ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ الْقُرْآنَ حَقَّ التَّأَمُّلِ، تَبَيَّنَ لَهُ ذَلِكَ، وَعَرَفَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمَشْرُوعَ بَعْدَ الدُّخُولِ هُوَ الطَّلَاقُ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الرَّجْعَةَ، وَلَمْ يَشْرَعِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَاحِدَةً الْبَتَّةَ، قَالَ تَعَالَى:{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] ، وَلَا تَعْقِلُ الْعَرَبُ فِي لُغَتِهَا وُقُوعَ الْمَرَّتَيْنِ إِلَّا مُتَعَاقِبَتَيْنِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:( «مَنْ سَبَّحَ اللَّهَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَهُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ» ) ، وَنَظَائِرُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعْقَلُ مِنْ ذَلِكَ إِلَّا تَسْبِيحٌ وَتَكْبِيرٌ وَتَحْمِيدٌ مُتَوَالٍ يَتْلُو بَعْضُهُ بَعْضًا، فَلَوْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ بِهَذَا اللَّفْظِ - لَكَانَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَقَطْ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ:{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6][النُّورِ: 6]، فَلَوْ قَالَ: أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إِنِّي لَمِنَ الصَّادِقِينَ، كَانَتْ مَرَّةً، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [النور: 8][النُّورِ: 8] ، فَلَوْ قَالَتْ أَشْهَدُ بِاللَّهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، كَانَتْ وَاحِدَةً، وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 101][التَّوْبَةِ: 101] ، فَهَذَا مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَلَا يَنْتَقِضُ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31][الْأَحْزَابِ: 31]، وَقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم:( «ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ» ) ، فَإِنَّ الْمَرَّتَيْنِ هُنَا هُمَا الضِّعْفَانِ، وَهُمَا الْمِثْلَانِ، وَهُمَا مِثْلَانِ فِي الْقَدْرِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30][الْأَحْزَابِ: 30]، وَقَوْلِهِ:{فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة: 265][الْبَقَرَةِ: 265]، أَيْ: ضِعْفَيْ مَا يُعَذَّبُ بِهِ غَيْرُهَا، وَضِعْفَيْ مَا كَانَتْ تُؤْتِي، وَمِنْ هَذَا قَوْلُ أنس:«انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ، أَيْ: شَقَّتَيْنِ وَفِرْقَتَيْنِ» ، كَمَا قَالَ فِي اللَّفْظِ الْآخَرِ:( «انْشَقَّ الْقَمَرُ فِلْقَتَيْنِ» )
وَهَذَا أَمْرٌ مَعْلُومٌ قَطْعًا أَنَّهُ إِنَّمَا انْشَقَّ الْقَمَرُ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَالْفَرْقُ مَعْلُومٌ بَيْنَ مَا يَكُونُ مَرَّتَيْنِ فِي الزَّمَانِ، وَبَيْنَ مَا يَكُونُ مِثْلَيْنِ وَجُزْأَيْنِ وَمَرَّتَيْنِ فِي الْمُضَاعَفَةِ.
فَالثَّانِي: يُتَصَوَّرُ فِيهِ اجْتِمَاعُ الْمَرَّتَيْنِ فِي آنٍ وَاحِدٍ، وَالْأَوَّلُ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ ذَلِكَ.
وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَشْرَعِ الثَّلَاثَ جُمْلَةً أَنَّهُ قَالَ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] إِلَى أَنْ قَالَ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 228][الْبَقَرَةِ: 228] ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ طَلَاقٍ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَالْمُطَلِّقُ أَحَقُّ فِيهِ بِالرَّجْعَةِ سِوَى الثَّالِثَةِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ هَذَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]، إِلَى قَوْلِهِ:{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] ، فَهَذَا هُوَ الطَّلَاقُ الْمَشْرُوعُ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ سبحانه وتعالى أَقْسَامَ الطَّلَاقِ كُلَّهَا فِي الْقُرْآنِ، وَذَكَرَ أَحْكَامَهَا، فَذَكَرَ
الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَنَّهُ لَا عِدَّةَ فِيهِ، وَذَكَرَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَأَنَّهَا تُحَرِّمُ الزَّوْجَةَ عَلَى الْمُطَلِّقِ {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وَذَكَرَ طَلَاقَ الْفِدَاءِ الَّذِي هُوَ الْخُلْعُ، وَسَمَّاهُ فِدْيَةً، وَلَمْ يَحْسِبْهُ مِنَ الثَّلَاثِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَذَكَرَ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ الَّذِي الْمُطَلِّقُ أَحَقُّ فِيهِ بِالرَّجْعَةِ، وَهُوَ مَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامَ الثَّلَاثَةَ.
وَبِهَذَا احْتَجَّ أحمد وَالشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُمَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّرْعِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ بَعْدَ الدُّخُولِ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَائِنَةٌ، وَأَنَّهُ إِذَا قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً بَائِنَةً كَانَتْ رَجْعِيَّةً، وَيَلْغُو وَصْفُهَا بِالْبَيْنُونَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ إِبَانَتَهَا إِلَّا بِعِوَضٍ. وَأَمَّا أبو حنيفة، فَقَالَ: تَبِينُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ حَقٌّ لَهُ، وَقَدْ أَسْقَطَهَا، وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: وَإِنْ كَانَتِ الرَّجْعَةُ حَقًّا لَهُ لَكِنْ نَفَقَةُ الرَّجْعِيَّةِ وَكِسْوَتُهَا حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلَا يَمْلِكُ إِسْقَاطَهُ إِلَّا بِاخْتِيَارِهَا، وَبَذْلِهَا الْعِوَضَ، أَوْ سُؤَالِهَا أَنْ تَفْتَدِيَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَهُوَ جَوَازُ الْخُلْعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ.
وَأَمَّا إِسْقَاطُ حَقِّهَا مِنَ الْكِسْوَةِ وَالنَّفَقَةِ بِغَيْرِ سُؤَالِهَا وَلَا بَذْلِهَا الْعِوَضَ، فَخِلَافُ النَّصِّ وَالْقِيَاسِ.
قَالُوا: وَأَيْضًا فَاللَّهُ سُبْحَانَهُ شَرَعَ الطَّلَاقَ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَنْفَعِهَا لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِغَيْرِ عَدَدٍ، فَيُطَلِّقُ أَحَدُهُمُ الْمَرْأَةَ كُلَّمَا شَاءَ، وَيُرَاجِعُهَا، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ فِيهِ رِفْقٌ بِالرَّجُلِ، فَفِيهِ إِضْرَارٌ بِالْمَرْأَةِ، فَنَسَخَ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ بِثَلَاثٍ، وَقَصَرَ الزَّوْجَ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهُ أَحَقَّ بِالرَّجْعَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا، فَإِذَا اسْتَوْفَى الْعَدَدَ الَّذِي مُلِّكَهُ، حَرُمَتْ عَلَيْهِ، فَكَانَ فِي هَذَا رِفْقٌ بِالرَّجُلِ إِذْ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ بِأَوَّلِ طَلْقَةٍ، وَبِالْمَرْأَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلْ إِلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ، فَهَذَا شَرْعُهُ وَحِكْمَتُهُ، وَحُدُودُهُ الَّتِي حَدَّهَا لِعِبَادِهِ، فَلَوْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِأَوَّلِ طَلْقَةٍ يُطَلِّقُهَا كَانَ خِلَافَ شَرْعِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَهُوَ لَمْ يَمْلِكْ إِيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً، بَلْ إِنَّمَا مُلِّكَ وَاحِدَةً، فَالزَّائِدُ عَلَيْهَا غَيْرُ مَأْذُونٍ لَهُ فِيهِ.
قَالُوا: وَهَذَا كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْ إِبَانَتَهَا بِطَلْقَةٍ وَاحِدَةٍ، إِذْ هُوَ خِلَافُ مَا شَرَعَهُ،