الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَتَّسِعُ لِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَمَتَى لَمْ يَصِلِ الطَّلَاقَ بِالظِّهَارِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.
قَالَ مُنَازِعُوهُ: وَهُوَ فِي الْمَعْنَى قَوْلُ مجاهد، وَالثَّوْرِيِّ، فَإِنَّ هَذَا النَّفَسَ الْوَاحِدَ لَا يُخْرِجُ الظِّهَارَ عَنْ كَوْنِهِ مُوجَبَ الْكَفَّارَةِ، فَفِي الْحَقِيقَةِ لَمْ يُوجِبِ الْكَفَّارَةَ إِلَّا لَفْظُ الظِّهَارِ، وَزَمَنُ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ إِيجَابًا وَلَا نَفْيًا، فَتَعْلِيقُ الْإِيجَابِ بِهِ مُمْتَنِعٌ، وَلَا تُسَمَّى تِلْكَ اللَّحْظَةُ وَالنَّفَسُ الْوَاحِدُ مِنَ الْأَنْفَاسِ عَوْدًا لَا فِي لُغَةِ الْعَرَبِ، وَلَا فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، وَأَيٌّ شَيْءٍ فِي هَذَا الْجُزْءِ الْيَسِيرِ جِدًّا مِنَ الزَّمَانِ مِنْ مَعْنَى الْعَوْدِ أَوْ حَقِيقَتِهِ؟ قَالُوا: وَهَذَا لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ هُوَ إِعَادَةُ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ مَعْقُولٌ يُفْهَمُ مِنْهُ الْعَوْدُ لُغَةً وَحَقِيقَةً، وَأَمَّا هَذَا الْجُزْءُ مِنَ الزَّمَانِ فَلَا يُفْهَمُ مِنَ الْإِنْسَانِ فِيهِ الْعَوْدُ الْبَتَّةَ. قَالُوا: وَنَحْنُ نُطَالِبُكُمْ بِمَا طَالَبْتُمْ بِهِ الظَّاهِرِيَّةَ، مَنْ قَالَ هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَ الشَّافِعِيِّ؟
قَالُوا: وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بِالْعَوْدِ بِحَرْفِ " ثُمَّ " الدَّالَّةِ عَلَى التَّرَاخِي عَنِ الظِّهَارِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْعَوْدِ وَبَيْنَ الظِّهَارِ مُدَّةٌ مُتَرَاخِيَةٌ، وَهَذَا مُمْتَنِعٌ عِنْدَكُمْ، وَبِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ قَوْلِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي صَارَ عَائِدًا مَا لَمْ يَصِلْهُ بِقَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ، فَأَيْنَ التَّرَاخِي وَالْمُهْلَةُ بَيْنَ الْعَوْدِ وَالظِّهَارِ؟ وَالشَّافِعِيُّ لَمْ يَنْقُلْ هَذَا عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ أَوْلَى الْمَعَانِي بِالْآيَةِ فَقَالَ: الَّذِي عَقَلْتُ مِمَّا سَمِعْتُ فِي {يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أَنَّهُ إِذَا أَتَتْ عَلَى الْمُظَاهِرِ مُدَّةٌ بَعْدَ الْقَوْلِ بِالظِّهَارِ لَمْ يُحَرِّمْهَا بِالطَّلَاقِ الَّذِي يَحْرُمُ بِهِ، وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، كَأَنَّهُمْ يَذْهَبُونَ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَمْسَكَ مَا حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ حَلَالٌ، فَقَدْ عَادَ لِمَا قَالَ، فَخَالَفَهُ، فَأَحَلَّ مَا حَرَّمَ، وَلَا أَعْلَمُ لَهُ مَعْنًى أَوْلَى بِهِ مِنْ هَذَا. انْتَهَى.
[فَصْلٌ مَنْ قَالَ بِأَنَّ الْعَوْدَ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ]
فَصْلٌ
وَالَّذِينَ جَعَلُوهُ أَمْرًا وَرَاءَ الْإِمْسَاكِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَالَ مالك فِي إِحْدَى
الرِّوَايَاتِ الْأَرْبَعِ عَنْهُ، وأبو عبيد: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَهَذَا قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى وَأَصْحَابِهِ، وَأَنْكَرَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَقَالَ مالك: يَقُولُ إِذَا أَجْمَعَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ، فَكَيْفَ يَكُونُ هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا بَعْدَ مَا يُجْمِعُ، أَكَانَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ يَذْهَبُ إِلَى قَوْلِ طَاوُوسٍ إِذَا تَكَلَّمَ بِالظِّهَارِ لَزِمَهُ مِثْلُ الطَّلَاقِ؟
ثُمَّ اخْتَلَفَ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ فِيمَا لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، أَوْ طَلَّقَ بَعْدَ الْعَزْمِ، وَقَبْلَ الْوَطْءِ، هَلْ تَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ؟ فَقَالَ مالك وأبو الخطاب: تَسْتَقِرُّ الْكَفَّارَةُ. وَقَالَ الْقَاضِي وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ: لَا تَسْتَقِرُّ، وَعَنْ مالك رِوَايَةٌ ثَانِيَةٌ، أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَحْدَهُ، وَرِوَايَةُ " الْمُوَطَّأِ " خِلَافُ هَذَا كُلِّهِ، أَنَّهُ الْعَزْمُ عَلَى الْإِمْسَاكِ وَالْوَطْءِ مَعًا.
وَعَنْهُ رِوَايَةٌ رَابِعَةٌ، أَنَّهُ الْوَطْءُ نَفْسُهُ، وَهَذَا قَوْلُ أبي حنيفة وأحمد. وَقَدْ قَالَ أحمد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] قَالَ الْغَشَيَانُ: إِذَا أَرَادَ أَنْ يَغْشَى كَفَّرَ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ رِوَايَةٍ، بَلْ مَذْهَبُهُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ عَنْهُ غَيْرُهُ أَنَّهُ الْوَطْءُ، وَيَلْزَمُهُ إِخْرَاجُهَا قَبْلَهُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ.
وَاحْتَجَّ أَرْبَابُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْكَفَّارَةِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] فَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ الْعَوْدِ وَقَبْلَ التَّمَاسِّ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْعَوْدَ غَيْرُ التَّمَاسِّ، وَأَنَّ مَا يَحْرُمُ قَبْلَ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ كَوْنُهُ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهَا. قَالُوا: وَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِالظِّهَارِ تَحْرِيمَهَا، وَالْعَزْمُ عَلَى وَطْئِهَا، عَوْدٌ فِيمَا قَصَدَهُ. قَالُوا: وَلِأَنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمٌ، فَإِذَا أَرَادَ اسْتِبَاحَتَهَا فَقَدْ رَجَعَ فِي ذَلِكَ التَّحْرِيمِ فَكَانَ عَائِدًا.
قَالَ: الَّذِينَ جَعَلُوهُ الْوَطْءَ: لَا رَيْبَ أَنَّ الْعَوْدَ فِعْلٌ ضِدُّ قَوْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ، وَالْعَائِدُ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ وَإِلَيْهِ، وَلَهُ: هُوَ فَاعِلُهُ لَا مُرِيدُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] فَهَذَا فِعْلُ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ نَفْسِهِ لَا إِرَادَتُهُ، وَلَا يَلْزَمُ أَرْبَابَ هَذَا الْقَوْلِ مَا أَلْزَمَهُمْ بِهِ أَصْحَابُ الْعَزْمِ، فَإِنَّ قَوْلَهُمْ: إِنَّ الْعَوْدَ يَتَقَدَّمُ التَّكْفِيرَ، وَالْوَطْءُ مُتَأَخِّرٌ عَنْهُ، فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:{ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أَيْ يُرِيدُونَ الْعَوْدَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6][الْمَائِدَةِ: 6] وَنَظَائِرِهِ مِمَّا يُطْلَقُ الْفِعْلُ فِيهِ عَلَى إِرَادَتِهِ