الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، رَوَاهُ أبو داود فِي " سُنَنِهِ ".
[فَصْلٌ الْمَسْلَكُ الْخَامِسُ فِي قِصَّةِ بِنْتِ حَمْزَةَ]
فصل وَفِي الْحَدِيثِ مَسْلَكٌ خَامِسٌ، وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَضَى بِهَا لِخَالَتِهَا وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ؛ لِأَنَّ الْبِنْتَ تَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ تَحْرِيمَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَخَالَتِهَا، وَقَدْ نَبَّهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى هَذَا بِعَيْنِهِ فِي حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ، عَنْ عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ بِطُولِهِ وَقَالَ فِيهِ:( «وَأَنْتَ يَا جعفر أَوْلَى بِهَا: تَحْتَكَ خَالَتُهَا، وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» ) ، وَلَيْسَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم نَصٌّ يَقْتَضِي أَنَّ يَكُونَ الْحَاضِنُ ذَا رَحِمٍ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الْبِنْتُ عَلَى التَّأْبِيدِ حَتَّى يُعْتَرَضَ بِهِ عَلَى هَذَا الْمَسْلَكِ، بَلْ هَذَا مِمَّا لَا تَأْبَاهُ قَوَاعِدُ الْفِقْهِ وَأُصُولُ الشَّرِيعَةِ، فَإِنَّ الْخَالَةَ مَا دَامَتْ فِي عِصْمَةِ الْحَاضِنِ فَبِنْتُ أُخْتِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ، فَإِذَا فَارَقَهَا فَهِيَ مَعَ خَالَتِهَا، فَلَا مَحْذُورَ فِي ذَلِكَ أَصْلًا، وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْقَوْلَ بِهَذَا أَخْيَرُ وَأَصْلَحُ لِلْبِنْتِ مِنْ رَفْعِهَا إِلَى الْحَاكِمِ يَدْفَعُهَا إِلَى أَجْنَبِيٍّ تَكُونُ عِنْدَهُ؛ إِذِ الْحَاكِمُ غَيْرُ مُتَصَدٍّ لِلْحَضَانَةِ بِنَفْسِهِ، فَهَلْ يَشُكُّ أَحَدٌ أَنَّ مَا حَكَمَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ هُوَ عَيْنُ الْمَصْلَحَةِ وَالْحِكْمَةِ وَالْعَدْلِ، وَغَايَةُ الِاحْتِيَاطِ لِلْبِنْتِ وَالنَّظَرِ لَهَا، وَأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ خَالَفَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ جَوْرٍ أَوْ فَسَادٍ لَا تَأْتِي بِهِ الشَّرِيعَةُ، فَلَا إِشْكَالَ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم، وَالْإِشْكَالُ كُلُّ الْإِشْكَالِ فِيمَا خَالَفَهُ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
[ذِكْرُ حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجَاتِ]
وَأَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْهَا، وَلَا وَرَدَ عَنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهَا، وَإِنَّمَا رَدَّ الْأَزْوَاجَ فِيهَا إِلَى الْعُرْفِ.
ثَبَتَ عَنْهُ فِي " صَحِيحِ مسلم " أَنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَحْضَرِ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ قَبْلَ وَفَاتِهِ بِبِضْعَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا: ( «وَاتُّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ) .
وَثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": ( «أَنَّ هندا امْرَأَةَ أبي سفيان قَالَتْ لَهُ: إِنَّ أبا سفيان رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَيْسَ يُعْطِينِي مِنَ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي إِلَّا مَا أَخَذْتُ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ، فَقَالَ: خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» ) .
وَفِي " سُنَنِ أبي داود " مِنْ حَدِيثِ حكيم بن معاوية، عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ:( «أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي نِسَائِنَا؟ قَالَ: أَطْعِمُوهُنَّ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُنَّ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَلَا تَضْرِبُوهُنَّ وَلَا تُقَبِّحُوهُنَّ» ) .
وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مُطَابِقٌ لِكِتَابِ اللَّهِ عز وجل، حَيْثُ يَقُولُ تَعَالَى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233][الْبَقَرَةِ: 233] وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم جَعَلَ نَفَقَةَ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نَفَقَةِ الْخَادِمِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي عَدَمِ التَّقْدِيرِ، وَرَدَّهُمَا إِلَى الْمَعْرُوفِ فَقَالَ:( «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» ) فَجَعَلَ نَفَقَتَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ نَفَقَةَ الْخَادِمِ غَيْرُ مُقَدَّرَةٍ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِتَقْدِيرِهَا.
وَصَحَّ عَنْهُ فِي الرَّقِيقِ أَنَّهُ قَالَ: ( «أَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَأَلْبِسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ» ) .
رَوَاهُ مسلم، كَمَا قَالَ فِي الزَّوْجَةِ سَوَاءٌ.
وَصَحَّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: (امْرَأَتُكَ تَقُولُ: إِمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي، وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي. وَيَقُولُ الِابْنُ: أَطْعِمْنِي إِلَى مَنْ تَدَعُنِي) فَجَعَلَ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ وَالرَّقِيقِ وَالْوَلَدِ كُلَّهَا الْإِطْعَامَ لَا التَّمْلِيكَ.
وَرَوَى النَّسَائِيُّ هَذَا مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَالَ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89][الْمَائِدَةِ: 89]، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما أَنَّهُ قَالَ:(الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ)، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه:(الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَالْخُبْزُ وَالتَّمْرُ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا تُطْعِمُونَ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ) .
فَفَسَّرَ الصَّحَابَةُ إِطْعَامَ الْأَهْلِ بِالْخُبْزِ مَعَ غَيْرِهِ مِنَ الْأُدْمِ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ ذَكَرَا الْإِنْفَاقَ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ وَلَا تَقْدِيرٍ وَلَا تَقْيِيدٍ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إِلَى الْعُرْفِ لَوْ لَمْ يَرُدَّهُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَكَيْفَ وَهُوَ الَّذِي رَدَّ ذَلِكَ إِلَى الْعُرْفِ، وَأَرْشَدَ أُمَّتَهُ إِلَيْهِ؟ وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ أَهْلَ الْعُرْفِ إِنَّمَا يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى أَهْلِيهِمْ حَتَّى مَنْ يُوجِبُ التَّقْدِيرَ: الْخُبْزُ وَالْإِدَامُ دُونَ الْحَبِّ، وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ إِنَّمَا كَانُوا يُنْفِقُونَ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ، كَذَلِكَ دُونَ تَمْلِيكِ الْحَبِّ وَتَقْدِيرِهِ؛ وَلِأَنَّهَا نَفَقَةٌ وَاجِبَةٌ بِالشَّرْعِ، فَلَمْ تُقَدَّرْ بِالْحَبِّ كَنَفَقَةِ الرَّقِيقِ، وَلَوْ كَانَتْ مُقَدَّرَةً لَأَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم هندا أَنْ تَأْخُذَ الْمُقَدَّرَ لَهَا شَرْعًا، وَلَمَّا أَمَرَهَا أَنْ تَأْخُذَ مَا يَكْفِيهَا مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ وَرَدَّ الِاجْتِهَادَ فِي ذَلِكَ إِلَيْهَا، وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ قَدْرَ كِفَايَتِهَا لَا يَنْحَصِرُ فِي مُدَّيْنِ وَلَا فِي رِطْلَيْنِ، بِحَيْثُ لَا يَزِيدُ عَلَيْهِمَا وَلَا يَنْقُصُ، وَلَفْظُهُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهٍ، وَلَا إِيمَاءٍ، وَلَا إِشَارَةٍ، وَإِيجَابُ مُدَّيْنِ أَوْ رِطْلَيْنِ خُبْزًا قَدْ يَكُونُ أَقَلَّ مِنَ الْكِفَايَةِ، فَيَكُونُ تَرْكًا
لِلْمَعْرُوفِ، وَإِيجَابُ قَدْرِ الْكِفَايَةِ مِمَّا يَأْكُلُ الرَّجُلُ وَوَلَدُهُ وَرَقِيقُهُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ أَوْ مِنْ رِطْلَيْ خُبْزٍ إِنْفَاقٌ بِالْمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الْوَاجِبَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَلِأَنَّ الْحَبَّ يُحْتَاجُ إِلَى طَحْنِهِ وَخَبْزِهِ وَتَوَابِعِ ذَلِكَ، فَإِنْ أَخْرَجَتْ ذَلِكَ مِنْ مَالِهَا، لَمْ تَحْصُلِ الْكِفَايَةُ بِنَفَقَةِ الزَّوْجِ، وَإِنْ فَرَضَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لَهَا مِنْ مَالِهِ كَانَ الْوَاجِبُ حَبًّا وَدَرَاهِمَ، وَلَوْ طَلَبَتْ مَكَانَ الْخُبْزِ دَرَاهِمَ أَوْ حَبًّا أَوْ دَقِيقًا أَوْ غَيْرَهُ، لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ، وَلَوْ عَرَضَ عَلَيْهَا ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَلْزَمْهَا قَبُولُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُعَاوَضَةٌ، فَلَا يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى قَبُولِهَا، وَيَجُوزُ تَرَاضِيهِمَا عَلَى مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ.
وَالَّذِينَ قَدَّرُوا النَّفَقَةَ اخْتَلَفُوا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَدَّرَهَا بِالْحَبِّ، وَهُوَ الشَّافِعِيُّ، فَقَالَ: نَفَقَةُ الْفَقِيرِ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا يُدْفَعُ فِي الْكَفَّارَةِ إِلَى الْوَاحِدِ مُدٌّ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ اعْتَبَرَ الْكَفَّارَةَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى الْأَهْلِ، فَقَالَ:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89][الْمَائِدَةِ: 89]، قَالَ: وَعَلَى الْمُوسِرِ مُدَّانِ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْوَاحِدِ مُدَّانِ فِي كَفَّارَةِ الْأَذَى، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مُدٌّ وَنِصْفٌ، نِصْفُ نَفَقَةِ الْمُوسِرِ، وَنِصْفُ نَفَقَةِ الْفَقِيرِ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو يَعْلَى: مُقَدَّرَةٌ بِمِقْدَارٍ لَا يَخْتَلِفُ فِي الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، وَالْوَاجِبُ رِطْلَانِ مِنَ الْخُبْزِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي حَقِّ الْمُوسِرِ وَالْمُعْسِرِ اعْتِبَارًا بِالْكَفَّارَاتِ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي صِفَتِهِ وَجَوْدَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوسِرَ وَالْمُعْسِرَ سَوَاءٌ فِي قَدْرِ الْمَأْكُولِ وَمَا تَقُومُ بِهِ الْبِنْيَةُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفَانِ فِي جَوْدَتِهِ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ الْوَاجِبَةُ.
وَالْجُمْهُورُ قَالُوا: لَا يُحْفَظُ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ قَطُّ تَقْدِيرُ النَّفَقَةِ، لَا بِمُدٍّ وَلَا بِرِطْلٍ، وَالْمَحْفُوظُ عَنْهُمْ بَلِ الَّذِي اتَّصَلَ بِهِ الْعَمَلُ فِي كُلِّ عَصْرٍ وَمِصْرٍ مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالُوا: وَمَنِ الَّذِي سَلَّمَ لَكُمُ التَّقْدِيرَ بِالْمُدِّ وَالرِّطْلِ فِي الْكَفَّارَةِ، وَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَّارَةِ الْإِطْعَامُ فَقَطْ لَا التَّمْلِيكُ؟ قَالَ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ:{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]
[الْمَائِدَةِ: 89]، وَقَالَ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ:{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4][الْمُجَادَلَةِ: 4] وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196][الْبَقَرَةِ: 196] وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ فِي إِطْعَامِ الْكَفَّارَاتِ غَيْرُ هَذَا، وَلَيْسَ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهَا تَقْدِيرُ ذَلِكَ بِمُدٍّ وَلَا رِطْلٍ، وَصَحَّ «عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ لِمَنْ وَطِئَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ:(أَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا) » ، وَكَذَلِكَ قَالَ لِلْمُظَاهِرِ، وَلَمْ يَحُدَّ ذَلِكَ بِمُدٍّ وَلَا رِطْلٍ.
فَالَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَالسُّنَّةُ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنَّفَقَاتِ هُوَ الْإِطْعَامُ لَا التَّمْلِيكُ، وَهَذَا هُوَ الثَّابِتُ عَنِ الصَّحَابَةِ رضي الله عنهم. قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا أبو خالد، عَنْ حجاج، عَنْ أبي إسحاق، عَنِ الحارث، عَنْ علي: يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ خُبْزًا وَزَيْتًا.
وَقَالَ إسحاق عَنِ الحارث: كَانَ علي يَقُولُ فِي إِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ: يُغَدِّيهِمْ وَيُعَشِّيهِمْ خُبْزًا وَزَيْتًا، أَوْ خُبْزًا وَسَمْنًا.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يحيى بن يعلى، عَنْ ليث قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه يَقُولُ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] قَالَ: الْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَاللَّحْمُ.
وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: (أَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ، وَالْخُبْزُ وَالزَّيْتُ، وَالْخُبْزُ وَالسَّمْنُ، وَمِنْ أَفْضَلِ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ) .
وَقَالَ يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ: حَدَّثَنَا يونس، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ كَفَّرَ عَنْ يَمِينٍ لَهُ مَرَّةً، فَأَمَرَ بجيرا أو جبيرا يُطْعِمُ عَنْهُ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ خُبْزًا وَلَحْمًا، وَأَمَرَ لَهُمْ بِثَوْبٍ مُعَقَّدٍ أَوْ ظَهْرَانِيٍّ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا يحيى بن أيوب، عَنْ حميد، أَنَّ أنسا رضي الله عنه مَرِضَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَصُومَ، وَكَانَ يَجْمَعُ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فَيُطْعِمُهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا أَكْلَةً وَاحِدَةً.
وَأَمَّا التَّابِعُونَ، فَثَبَتَ ذَلِكَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وأبي رزين، وعبيدة، وَمُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وشريح، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وطاووس، وَالشَّعْبِيِّ، وابن بريدة، والضحاك، والقاسم، وسالم، ومحمد بن إبراهيم، وَمُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ، وقتادة، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ، وَالْأَسَانِيدُ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ لإسماعيل بن إسحاق، مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يُغَدِّي الْمَسَاكِينَ وَيُعَشِّيهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: أَكْلَةً وَاحِدَةً. وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: خُبْزٌ وَلَحْمٌ، خُبْزٌ وَزَيْتٌ، خُبْزٌ وَسَمْنٌ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ،
وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى: أَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ مُقَدَّرٌ دُونَ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ.
فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ: التَّقْدِيرُ فِيهِمَا كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَحْدَهُ، وَعَدَمُ التَّقْدِيرِ فِيهِمَا كَقَوْلِ مالك وأبي حنيفة وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ. وَالتَّقْدِيرُ فِي الْكَفَّارَةِ دُونَ النَّفَقَةِ كَالرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ.
قَالَ مَنْ نَصَرَ هَذَا الْقَوْلَ: الْفَرْقُ بَيْنَ النَّفَقَةِ وَالْكَفَّارَةِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَلَا هِيَ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَلَا أَوْجَبَهَا الشَّارِعُ بِالْمَعْرُوفِ، كَنَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْخَادِمِ، وَالْإِطْعَامُ فِيهَا حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِآدَمِيٍّ مُعَيَّنٍ، فَيَرْضَى بِالْعِوَضِ عَنْهُ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَخْرَجَ الْقِيمَةَ لَمْ يَجْزِهِ، وَرُوِيَ التَّقْدِيرُ فِيهَا عَنِ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ القاضي إسماعيل: حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ، حَدَّثَنَا أبو عوانة، عَنْ منصور، عَنْ أبي وائل، عَنْ يسار بن نمير، قَالَ: قَالَ عمر: (إِنَّ نَاسًا يَأْتُونِي يَسْأَلُونِي، فَأَحْلِفُ أَنِّي لَا أُعْطِيهِمْ، ثُمَّ يَبْدُو لِي أَنْ أُعْطِيَهُمْ، فَإِذَا أَمَرْتُكَ أَنْ تُكَفِّرَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ صَاعًا مَنْ تَمْرٍ، أَوْ شَعِيرٍ، أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ) .
حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ الْمِنْهَالِ وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، عَنْ يحيى بن عباد، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ:(يَا يرفا، إِذَا حَلَفْتُ فَحَنِثْتُ، فَأَطْعِمْ عَنِّي لِيَمِينِي خَمْسَةَ أَصْوُعٍ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ) .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى، عَنْ عمر بن أبي مرة، عَنْ عبد الله بن سلمة، عَنْ علي قَالَ:(كَفَّارَةُ الْيَمِينِ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ) .
حَدَّثَنَا عبد الرحيم وَأَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، عَنْ حجاج، عَنْ قرط، عَنْ جَدَّتِهِ،
عَنْ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: (إِنَّا نُطْعِمُ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ) .
وَقَالَ إسماعيل: حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ أبي سلمة، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:(يُجْزِئُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدُّ حِنْطَةٍ) .
حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أيوب، عَنْ نافع، أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رضي الله عنه كَانَ إِذَا ذَكَرَ الْيَمِينَ أَعْتَقَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مُدٌّ.
وَصَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: (فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُدٌّ وَمَعَهُ أُدْمُهُ) .
وَأَمَّا التَّابِعُونَ فَثَبَتَ ذَلِكَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، ومجاهد وَقَالَ: كُلُّ طَعَامٍ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ لِلْمَسَاكِينِ فَهُوَ نِصْفُ صَاعٍ، وَكَانَ يَقُولُ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ كُلِّهَا: مُدَّانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ.
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ: أَدْرَكْتُ النَّاسَ وَهُمْ يُعْطُونَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُدًّا بِالْمُدِّ الْأَوَّلِ. وَقَالَ القاسم وسالم وأبو سلمة: مُدٌّ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ، وَقَالَ عطاء: فَرْقًا بَيْنَ عَشَرَةٍ، وَمَرَّةً قَالَ: مُدٌّ مُدٌّ.
قَالُوا: وَقَدْ ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ "( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ فِي كَفَّارَةِ فِدْيَةِ الْأَذَى: أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ نِصْفَ صَاعٍ نِصْفَ صَاعٍ، طَعَامًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ» ) . فَقَدَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِدْيَةَ الْأَذَى، فَجَعَلْنَا تَقْدِيرَهَا أَصْلًا، وَعَدَّيْنَاهَا إِلَى سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ. ثُمَّ قَالَ مِنْ قَدْرِ طَعَامِ الزَّوْجَةِ: ثُمَّ رَأَيْنَا النَّفَقَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ قَدِ اشْتَرَكَا فِي الْوُجُوبِ، فَاعْتَبَرْنَا إِطْعَامَ النَّفَقَةِ بِإِطْعَامِ الْكَفَّارَةِ، وَرَأَيْنَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ
قَدْ قَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} [المائدة: 95][الْمَائِدَةِ: 95] ، وَمَا أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ أَنَّ الطَّعَامَ مُقَدَّرٌ فِيهَا، وَلِهَذَا لَوْ عَدِمَ الطَّعَامَ، صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا، كَمَا أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالنَّاسُ بَعْدَهُ، فَهَذَا مَا احْتَجَّتْ بِهِ هَذِهِ الطَّائِفَةُ عَلَى تَقْدِيرِ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ.
قَالَ الْآخَرُونَ: لَا حُجَّةَ فِي أَحَدٍ دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَدْ أَمَرَنَا تَعَالَى أَنْ نَرُدَّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ، وَذَلِكَ خَيْرٌ لَنَا حَالًا وَعَاقِبَةً، وَرَأَيْنَا اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا قَالَ فِي الْكَفَّارَةِ:{إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89]، وَ {فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] ، فَعَلَّقَ الْأَمْرَ بِالْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ الْإِطْعَامُ، وَلَمْ يُحِدَّ لَنَا جِنْسَ الطَّعَامِ وَلَا قَدْرَهُ، وَحَدَّ لَنَا جِنْسَ الْمُطْعَمِينَ وَقَدْرَهُمْ، فَأَطْلَقَ الطَّعَامَ وَقَيَّدَ الْمَطْعُومِينَ، وَرَأَيْنَاهُ سُبْحَانَهُ حَيْثُ ذَكَرَ إِطْعَامَ الْمِسْكِينِ فِي كِتَابِهِ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِطْعَامَ الْمَعْهُودَ الْمُتَعَارَفَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ - فَكُّ رَقَبَةٍ - أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ - يَتِيمًا} [البلد: 12 - 15][الْبَلَدِ: 12] . وَقَالَ: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8][الْإِنْسَانِ: 8] وَكَانَ مِنَ الْمَعْلُومِ يَقِينًا، أَنَّهُمْ لَوْ غَدَّوْهُمْ أَوْ عَشَّوْهُمْ أَوْ أَطْعَمُوهُمْ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ خُبْزًا وَمَرَقًا وَنَحْوَهُ لَكَانُوا مَمْدُوحِينَ دَاخِلِينَ فِيمَنْ أَثْنَى عَلَيْهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ عَدَلَ عَنِ الطَّعَامِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ لِلْمَأْكُولِ إِلَى الْإِطْعَامِ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ صَرِيحٌ، وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّهُ إِذَا أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ، وَلَمْ يُمْلِكْهُمْ، فَقَدِ امْتَثَلَ مَا أُمِرَ بِهِ، وَصَحَّ فِي كُلِّ لُغَةٍ وَعُرْفٍ: أَنَّهُ أَطْعَمَهُمْ.
قَالُوا: وَفِي أَيِّ لُغَةٍ لَا يَصْدُقُ لَفْظُ الْإِطْعَامِ إِلَّا بِالتَّمْلِيكِ؟ وَلَمَّا قَالَ أنس رضي الله عنه ( «إِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَطْعَمَ الصَّحَابَةَ فِي وَلِيمَةِ زينب خُبْزًا وَلَحْمًا» ) . كَانَ قَدِ اتَّخَذَ طَعَامًا وَدَعَاهُمْ إِلَيْهِ عَلَى عَادَةِ الْوَلَائِمِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي وَلِيمَةِ صفية (أَطْعَمَهُمْ حَيْسًا) ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ أَنْ نَذْكُرَ شَوَاهِدَهُ، قَالُوا: وَقَدْ زَادَ ذَلِكَ
إِيضَاحًا وَبَيَانًا بِقَوْلِهِ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89][الْمَائِدَةِ: 89] ، وَمَعْلُومٌ يَقِينًا أَنَّ الرَّجُلَ إِنَّمَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ وَاللَّحْمَ وَالْمَرَقَ وَاللَّبَنَ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَإِذَا أَطْعَمَ الْمَسَاكِينَ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ أَوْسَطِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ بِلَا شَكٍّ، وَلِهَذَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فِي إِطْعَامِ الْأَهْلِ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِطَعَامِ الْكَفَّارَةِ، فَدَلَّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى عَلَى أَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ غَيْرُ مُقَدَّرٍ.
وَأَمَّا مَنْ قَدَّرَ طَعَامَ الْأَهْلِ، فَإِنَّمَا أَخَذَ مِنْ تَقْدِيرِ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، فَيُقَالُ: هَذَا خِلَافُ مُقْتَضَى النَّصِّ، فَإِنَّ اللَّهَ أَطْلَقَ طَعَامَ الْأَهْلِ وَجَعَلَهُ أَصْلًا لِطَعَامِ الْكَفَّارَةِ، فَعُلِمَ أَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ لَا يَتَقَدَّرُ كَمَا لَا يَتَقَدَّرُ أَصْلُهُ، وَلَا يُعْرَفُ عَنْ صَحَابِيٍّ أَلْبَتَّةَ تَقْدِيرُ طَعَامِ الزَّوْجَةِ مَعَ عُمُومِ هَذِهِ الْوَاقِعَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ.
قَالُوا: فَأَمَّا الْفُرُوقُ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا، فَلَيْسَ فِيهَا مَا يَسْتَلْزِمُ تَقْدِيرَ طَعَامِ الْكَفَّارَةِ، وَحَاصِلُهَا خَمْسَةُ فُرُوقٍ، أَنَّهَا لَا تَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ، وَأَنَّهَا لَا تَتَقَدَّرُ بِالْكِفَايَةِ، وَلَا أَوْجَبَهَا الشَّارِعُ بِالْمَعْرُوفِ، وَلَا يَجُوزُ إِخْرَاجُ الْعِوَضِ عَنْهَا، وَهِيَ حَقٌّ لِلَّهِ لَا تَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، فَيُقَالُ: نَعَمْ لَا شَكَّ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْفَرُوقِ، وَلَكِنْ مِنْ أَيْنَ يَسْتَلْزِمُ وُجُوبُ تَقْدِيرِهَا بِمُدٍّ وَمُدَّيْنِ؟ بَلْ هِيَ إِطْعَامٌ وَاجِبٌ مِنْ جِنْسِ مَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ، وَمَعَ ثُبُوتِ هَذِهِ الْأَحْكَامِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيرِهَا بِوَجْهٍ.
وَأَمَّا مَا ذَكَرْتُمْ عَنِ الصَّحَابَةِ مِنْ تَقْدِيرِهَا، فَجَوَابُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّا قَدْ ذَكَرْنَا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ: علي وأنس وأبو موسى وَابْنُ
مَسْعُودٍ رضي الله عنهم أَنَّهُمْ قَالُوا: يُجْزِئُ أَنْ يُغَدِّيَهُمْ وَيُعَشِّيَهُمْ.
الثَّانِي: أَنَّ مَنْ رُوِيَ عَنْهُمُ الْمُدُّ وَالْمُدَّانِ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ تَقْدِيرًا وَتَحْدِيدًا، بَلْ تَمْثِيلًا، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ رُوِيَ عَنْهُ الْمُدُّ، وَرُوِيَ عَنْهُ مُدَّانِ، وَرُوِيَ عَنْهُ مَكُّوكٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ جَوَازُ التَّغْدِيَةِ وَالتَّعْشِيَةِ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَكْلَةٌ، وَرُوِيَ عَنْهُ رَغِيفٌ أَوْ رَغِيفَانِ، فَإِنْ كَانَ هَذَا اخْتِلَافًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ بِحَسَبِ حَالِ الْمُسْتَفْتِي وَبِحَسَبِ حَالِ الْحَالِفِ وَالْمُكَفِّرِ فَظَاهِرٌ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ فَكَذَلِكَ. فَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا حُجَّةَ فِيهِ عَلَى التَّقْدِيرَيْنِ.
قَالُوا: وَأَمَّا الْإِطْعَامُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى فَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196][الْبَقَرَةِ: 196] ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ أَطْلَقَ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ وَلَمْ يُقَيِّدْهَا. وَصَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَقْيِيدُ الصِّيَامِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَتَقْيِيدُ النُّسُكِ بِذَبْحِ شَاةٍ، وَتَقْيِيدُ الْإِطْعَامِ بِسِتَّةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ، وَلَمْ يَقُلْ سُبْحَانَهُ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: فَإِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ، وَلَكِنْ أَوْجَبَ صَدَقَةً مُطْلَقَةً وَصَوْمًا مُطْلَقًا وَدَمًا مُطْلَقًا فَعَيَّنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْفَرَقِ، وَالثَّلَاثَةِ الْأَيَّامِ، وَالشَّاةِ.
وَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مِنْ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ، فَإِنَّ الْمُخْرِجَ إِنَّمَا يُخْرِجُ قِيمَةَ الصَّيْدِ مِنَ الطَّعَامِ، وَهِيَ تَخْتَلِفُ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ، فَإِنَّهَا بَدَلُ مُتْلَفٍ لَا يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى عَدَدِ الْمَسَاكِينِ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِيهَا إِلَى مَبْلَغِ الطَّعَامِ، فَيُطْعِمُهُ الْمَسَاكِينَ عَلَى مَا يَرَى مِنْ إِطْعَامِهِمْ وَتَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ، فَتَقْدِيرُ الطَّعَامِ فِيهَا عَلَى حَسَبِ الْمُتْلَفِ، وَهُوَ يَقِلُّ وَيَكْثُرُ، وَلَيْسَ مَا يُعْطَاهُ كُلُّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرًا.
ثُمَّ إِنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَبِّ يَسْتَلْزِمُ أَمْرًا بَاطِلًا بَيِّنَ الْبُطْلَانِ، فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ الْوَاجِبُ لَهَا عَلَيْهِ شَرْعًا الْحَبَّ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ إِنَّمَا يُطْعِمُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ، فَإِنْ جَعَلْتُمْ هَذَا مُعَاوَضَةً كَانَ رِبًا ظَاهِرًا، وَإِنْ لَمْ تَجْعَلُوهُ مُعَاوَضَةً فَالْحَبُّ ثَابِتٌ لَهَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ تَعْتَضْ عَنْهُ فَلَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ إِلَّا بِإِسْقَاطِهَا وَإِبْرَائِهَا، فَإِذَا لَمْ تُبْرِئْهُ طَالَبَتْهُ بِالْحَبِّ مُدَّةً طَوِيلَةً مَعَ إِنْفَاقِهِ عَلَيْهَا كُلَّ يَوْمٍ حَاجَتَهَا مِنَ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا