الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عِوَضًا، وَهِيَ لَيْسَتْ مُحَرَّمَةً فِي نَفْسِهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ بِقَصْدِ الْمُعْتَصِرِ وَالْمُسْتَحْمِلِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ عِنَبًا وَعَصِيرًا لِمَنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا، وَفَاتَ الْعَصِيرُ وَالْخَمْرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي، فَإِنَّ مَالَ الْبَائِعِ لَا يَذْهَبُ مَجَّانًا، بَلْ يُقْضَى لَهُ بِعِوَضِهِ. كَذَلِكَ هُنَا الْمَنْفَعَةُ الَّتِي وَفَّاهَا الْمُؤَجَّرُ، لَا تَذْهَبُ مَجَّانًا، بَلْ يُعْطَى بَدَلَهَا، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الِانْتِفَاعِ بِهَا إِنَّمَا كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْمُؤَجَّرِ، فَإِنَّهُ لَوْ حَمَلَهَا لِلْإِرَاقَةِ، أَوْ لِإِخْرَاجِهَا إِلَى الصَّحْرَاءِ خَشْيَةَ التَّأَذِّي بِهَا، جَازَ. ثُمَّ نَحْنُ نُحَرِّمُ الْأُجْرَةَ عَلَيْهِ لِحَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَا لِحَقِّ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُشْتَرِي، بِخِلَافِ مَنِ اسْتُؤْجِرَ لِلزِّنَى أَوِ التَّلَوُّطِ أَوِ الْقَتْلِ أَوِ السَّرِقَةِ، فَإِنَّ نَفْسَ هَذَا الْعَمَلِ مُحَرَّمٌ لِأَجْلِ قَصْدِ الْمُسْتَأْجِرِ، فَهُوَ كَمَا لَوْ بَاعَ مَيْتَةً أَوْ خَمْرًا، فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِثَمَنِهَا؛ لِأَنَّ نَفْسَ هَذِهِ الْعَيْنِ مُحَرَّمَةٌ، وَكَذَلِكَ لَا يُقْضَى لَهُ بِعِوَضِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ الْمُحَرَّمَةِ.
قَالَ شَيْخُنَا: وَمِثْلُ هَذِهِ الْإِجَارَةِ، وَالْجَعَالَةِ، يَعْنِي الْإِجَارَةَ عَلَى حَمْلِ الْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ، لَا تُوصَفُ بِالصِّحَّةِ مُطْلَقًا، وَلَا بِالْفَسَادِ مُطْلَقًا، بَلْ يُقَالُ: هِيَ صَحِيحَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُسْتَأْجِرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعِوَضُ، وَفَاسِدَةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَجِيرِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِالْأَجْرِ، وَلِهَذَا فِي الشَّرِيعَةِ نَظَائِرُ. قَالَ: وَلَا يُنَافِي هَذَا نَصَّ أحمد عَلَى كَرَاهَةِ نِطَارَةِ كَرْمِ النَّصْرَانِيِّ، فَإِنَّا نَنْهَاهُ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ وَعَنْ عِوَضِهِ، ثُمَّ نَقْضِي لَهُ بِكِرَائِهِ، قَالَ: وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا، لَكَانَ فِي هَذَا مَنْفَعَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْعُصَاةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنِ اسْتَأْجَرُوهُ عَلَى عَمَلٍ يَسْتَعِينُونَ بِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ قَدْ حَصَّلُوا غَرَضَهُمْ مِنْهُ، فَإِذَا لَمْ يُعْطُوهُ شَيْئًا، وَوَجَبَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَ مِنْهُمْ، كَانَ ذَلِكَ أَعْظَمَ الْعَوْنِ لَهُمْ، وَلَيْسُوا بِأَهْلٍ أَنْ يُعَاوِنُوا عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ مَنْ سَلَّمَ إِلَيْهِمْ عَمَلًا لَا قِيمَةَ لَهُ بِحَالٍ، يَعْنِي كَالزَّانِيَةِ، وَالْمُغَنِّي، وَالنَّائِحَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُقْضَى لَهُمْ بِأُجْرَةِ، وَلَوْ قَبَضُوا مِنْهُمُ الْمَالَ، فَهَلْ يَلْزَمُهُمْ رَدُّهُ عَلَيْهِمْ، أَمْ يَتَصَدَّقُونَ بِهِ؟ فَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ مُسْتَوْفًى فِي ذَلِكَ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُمْ رَدُّهُ، وَلَا يَطِيبُ لَهُمْ أَكْلُهُ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
[فصل تَحْرِيمُ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ]
فَصْلٌ.
الْحُكْمُ الْخَامِسُ: حُلْوَانُ الْكَاهِنِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا خِلَافَ فِي
حُلْوَانِ الْكَاهِنِ أَنَّهُ مَا يُعْطَاهُ عَلَى كَهَانَتِهِ، وَهُوَ مِنْ أَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، وَالْحُلْوَانُ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ: الْعَطِيَّةُ. قَالَ علقمة:
فَمَنْ رَجُلٌ أَحْلُوهُ رَحْلِي وَنَاقَتِي
…
يُبَلِّغُ عَنِّي الشِّعْرَ إِذْ مَاتَ قَائِلُهُ
انْتَهَى.
وَتَحْرِيمُ حُلْوَانِ الْكَاهِنِ تَنْبِيهٌ عَلَى تَحْرِيمِ حُلْوَانِ الْمُنَجِّمِ، وَالزَّاجِرِ، وَصَاحِبِ الْقُرْعَةِ الَّتِي هِيَ شَقِيقَةُ الْأَزْلَامِ، وَضَارِبَةِ الْحَصَا، وَالْعَرَّافِ، وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ تُطْلَبُ مِنْهُمُ الْأَخْبَارُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ، وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ إِتْيَانِ الْكُهَّانِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ ( «مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم» ) وَلَا رَيْبَ أَنَّ الْإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَبِمَا يَجِيءُ بِهِ هَؤُلَاءِ، لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ قَدْ يَصْدُقُ أَحْيَانًا، فَصِدْقُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَذِبِهِ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ، وَشَيْطَانُهُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْأَخْبَارِ لَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَصْدُقَهُ أَحْيَانًا لِيُغْوِيَ بِهِ النَّاسَ، وَيَفْتِنَهُمْ بِهِ.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ مُسْتَجِيبُونَ لِهَؤُلَاءِ مُؤْمِنُونَ بِهِمْ وَلَا سِيَّمَا ضُعَفَاءُ الْعُقُولِ، كَالسُّفَهَاءِ وَالْجُهَّالِ وَالنِّسَاءِ، وَأَهْلِ الْبَوَادِي، وَمَنْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِحَقَائِقِ الْإِيمَانِ، فَهَؤُلَاءِ هُمُ الْمَفْتُونُونَ بِهِمْ، وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِأَحَدِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مُشْرِكًا كَافِرًا بِاللَّهِ مُجَاهِرًا بِذَلِكَ، وَيَزُورُهُ، وَيَنْذِرُ لَهُ، وَيَلْتَمِسُ دُعَاءَهُ. فَقَدْ رَأَيْنَا وَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ كَثِيرًا؛ وَسَبَبُ هَذَا كُلِّهِ خَفَاءُ مَا بَعَثَ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ مِنَ الْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ عَلَى هَؤُلَاءِ وَأَمْثَالِهِمْ، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40] وَقَدْ قَالَ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحَدِّثُونَنَا أَحْيَانًا بِالْأَمْرِ، فَيَكُونُ كَمَا
قَالُوا، فَأَخْبَرَهُمْ: أَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الشَّيَاطِينِ، يُلْقُونَ إِلَيْهِمُ الْكَلِمَةَ تَكُونُ حَقًّا، فَيَزِيدُونَ هُمْ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ فَيُصَدَّقُونَ مِنْ أَجْلِ تِلْكَ الْكَلِمَةِ.
وَأَمَّا أَصْحَابُ الْمَلَاحِمِ فَرَكَّبُوا مَلَاحِمَهُمْ مِنْ أَشْيَاءَ.
أَحَدُهَا: مِنْ أَخْبَارِ الْكُهَّانِ.
وَالثَّانِي: مِنْ أَخْبَارٍ مَنْقُولَةٍ عَنِ الْكُتُبِ السَّالِفَةِ مُتَوَارَثَةٍ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَالثَّالِثُ: مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم بِهَا جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا.
وَالرَّابِعُ: مِنْ أُمُورٍ أَخْبَرَ بِهَا مَنْ لَهُ كَشْفٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَالْخَامِسُ: مِنْ مَنَامَاتٍ مُتَوَاطِئَةٍ عَلَى أَمْرٍ كُلِّيٍّ وَجُزْئِيٍّ. فَالْجُزْئِيُّ: يَذْكُرُونَهُ بِعَيْنِهِ، وَالْكُلِّيُّ: يُفَصِّلُونَهُ بِحَدْسٍ وَقَرَائِنَ تَكُونُ حَقًّا أَوْ تُقَارِبُ.
وَالسَّادِسُ: مِنِ اسْتِدْلَالٍ بِآثَارِ عُلْوِيَّةٍ جَعَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَامَاتٍ وَأَدِلَّةً وَأَسْبَابًا لِحَوَادِثَ أَرْضِيَّةٍ لَا يَعْلَمُهَا أَكْثَرُ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئًا سُدًى وَلَا عَبَثًا. وَرَبَطَ سُبْحَانَهُ الْعَالَمَ الْعُلْوِيَّ بِالسُّفْلِيِّ، وَجَعَلَ عُلْوِيَّهُ مُؤَثِّرًا فِي سُفْلِيِّهِ دُونَ الْعَكْسِ، فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ كُسُوفُهُمَا لِسَبَبِ شَرٍّ يَحْدُثُ فِي الْأَرْضِ؛ وَلِهَذَا شَرَعَ سُبْحَانَهُ تَغْيِيرَ الشَّرِّ عِنْدَ كُسُوفِهِمَا بِمَا يَدْفَعُ ذَلِكَ الشَّرَّ الْمُتَوَقَّعَ مِنَ الصَّلَاةِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْعِتْقِ، فَإِنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ تُعَارِضُ أَسْبَابَ الشَّرِّ، وَتُقَاوِمُهَا وَتَدْفَعُ مُوجِبَاتِهَا إِنْ قَوِيَتْ عَلَيْهَا.
وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ حَرَكَةَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاخْتِلَافَ مَطَالِعِهِمَا سَبَبًا لِلْفُصُولِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَمَا يَحْدُثُ فِيهِمَا مِمَّا يَلِيقُ بِكُلِّ فَصْلٍ مِنْهَا، فَمَنْ لَهُ اعْتِنَاءٌ بِحَرَكَاتِهِمَا، وَاخْتِلَافِ مَطَالِعِهِمَا، يَسْتَدِلُّ
بِذَلِكَ عَلَى مَا يَحْدُثُ فِي النَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا أَمْرٌ يَعْرِفُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْفِلَاحَةِ وَالزِّرَاعَةِ، وَنَوَاتِيُّ السُّفُنِ لَهُمُ اسْتِدْلَالَاتٌ بِأَحْوَالِهِمَا، وَأَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ عَلَى أَسْبَابِ السَّلَامَةِ وَالْعَطَبِ مِنِ اخْتِلَافِ الرِّيَاحِ وَقُوَّتِهَا وَعُصُوفِهَا، لَا تَكَادُ تَخْتَلُّ.
وَالْأَطِبَّاءُ لَهُمُ اسْتِدْلَالَاتٌ بِأَحْوَالِ الْقَمَرِ وَالشَّمْسِ عَلَى اخْتِلَافِ طَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ وَتَهَيُّئِهَا لِقَبُولِ التَّغَيُّرِ، وَاسْتِعْدَادِهَا لِأُمُورٍ غَرِيبَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَوَاضِعُو الْمَلَاحِمِ لَهُمْ عِنَايَةٌ شَدِيدَةٌ بِهَذَا، وَأُمُورٌ مُتَوَارَثَةٌ عَنْ قُدَمَاءِ الْمُنَجِّمِينَ، ثُمَّ يَسْتَنْتِجُونَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ قِيَاسَاتٍ وَأَحْكَامًا تُشْبِهُ مَا تَقَدَّمَ وَنَظِيرَهُ. وَسُنَّةُ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ جَارِيَةٌ عَلَى سَنَنٍ اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، فَحُكْمُ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، وَهَؤُلَاءِ صَرَفُوا قُوَى أَذْهَانِهِمْ إِلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، وَاعْتِبَارِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، كَمَا صَرَفَ أَئِمَّةُ الشَّرْعِ قُوَى أَذْهَانِهِمْ إِلَى أَحْكَامِ الْأَمْرِ وَالشَّرْعِ، وَاعْتِبَارِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَالِاسْتِدْلَالِ بِبَعْضِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَمَصْدَرُ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ عَنْ حِكْمَةٍ لَا تَخْتَلُّ وَلَا تَتَعَطَّلُ وَلَا تَنْتَقِضُ، وَمَنْ صَرَفَ قُوَى ذِهْنِهِ وَفِكْرِهِ، وَاسْتَنْفَدَ سَاعَاتِ عُمْرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَعِلْمِهِ، كَانَ لَهُ فِيهِ مِنَ النُّفُوذِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالِاطِّلَاعِ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ.
وَيَكْفِي الِاعْتِبَارُ بِفَرْعٍ وَاحِدٍ مِنْ فُرُوعِهِ، وَهُوَ عِبَارَةُ الرُّؤْيَا، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا نَفَذَ فِيهَا، وَكَمُلَ اطِّلَاعُهُ جَاءَ بِالْعَجَائِبِ. وَقَدْ شَاهَدْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ ذَلِكَ أُمُورًا عَجِيبَةً، يَحْكُمُ فِيهَا الْمُعَبِّرُ بِأَحْكَامٍ مُتَلَازِمَةٍ صَادِقَةٍ سَرِيعَةٍ وَبَطِيئَةٍ، وَيَقُولُ سَامِعُهَا: هَذِهِ عِلْمُ غَيْبٍ.
وَإِنَّمَا هِيَ مَعْرِفَةُ مَا غَابَ عَنْ غَيْرِهِ بِأَسْبَابٍ انْفَرَدَ هُوَ بِعِلْمِهَا، وَخَفِيَتْ عَلَى غَيْرِهِ وَالشَّارِعُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حَرَّمَ مِنْ تَعَاطِي ذَلِكَ مَا مَضَرَّتُهُ رَاجِحَةٌ عَلَى مَنْفَعَتِهِ، أَوْ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، أَوْ مَا يُخْشَى عَلَى صَاحِبِهِ أَنْ يَجُرَّهُ إِلَى الشِّرْكِ، وَحَرَّمَ بَذْلَ الْمَالِ فِي ذَلِكَ، وَحَرَّمَ أَخْذَهُ بِهِ؛ صِيَانَةً لِلْأُمَّةِ عَمَّا يُفْسِدُ عَلَيْهَا الْإِيمَانَ أَوْ يَخْدِشُهُ، بِخِلَافِ عِلْمِ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا، فَإِنَّهُ حَقٌّ لَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَا