الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كَتَلَاحُقِ أَجْزَاءِ الثِّمَارِ، وَجَعْلُ مَا لَمْ يُخْلَقْ مِنْهَا تَبَعًا لِمَا خُلِقَ فِي الصُّورَتَيْنِ وَاحِدٌ، فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا تَفْرِيقٌ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ.
وَلَمَّا رَأَى هَؤُلَاءِ مَا فِي بَيْعِهَا لُقْطَةً لُقْطَةً مِنَ الْفَسَادِ وَالتَّعَذُّرِ قَالُوا: طَرِيقُ رَفْعِ ذَلِكَ بِأَنْ يَبِيعَ أَصْلَهَا مَعَهَا، وَيُقَالُ: إِذَا كَانَ بَيْعُهَا جُمْلَةً مَفْسَدَةً عِنْدَكُمْ، وَهُوَ بَيْعُ مَعْدُومٍ وَغَرَرٍ، فَإِنَّ هَذَا لَا يَرْتَفِعُ بِبَيْعِ الْعُرُوقِ الَّتِي لَا قِيمَةَ لَهَا، وَإِنْ كَانَ لَهَا قِيمَةٌ فَيَسِيرَةٌ جِدًّا بِالنِّسْبَةِ إِلَى الثَّمَنِ الْمَبْذُولِ، وَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي قَصْدٌ فِي الْعُرُوقِ، وَلَا يَدْفَعُ فِيهَا الْجُمْلَةَ مِنَ الْمَالِ، وَمَا الَّذِي حَصَلَ بِبَيْعِ الْعُرُوقِ مَعَهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ لَهُمَا حَتَّى شَرَطَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْعُ أُصُولِ الثِّمَارِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ بَيْعِ الثَّمَرَةِ الْمُتَلَاحِقَةِ كَالتِّينِ وَالتُّوتِ وَهِيَ مَقْصُودَةٌ، فَكَيْفَ يَكُونُ بَيْعُ أُصُولِ الْمَقَاثِئِ شَرْطًا فِي صِحَّةِ بَيْعِهَا وَهِيَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ؟ وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الْمَعْدُومَ يَجُوزُ بَيْعُهُ تَبَعًا لِلْمَوْجُودِ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْمَعْدُومِ، وَهَذَا كَالْمَنَافِعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا فِي الْإِجَارَةِ، فَإِنَّهَا مَعْدُومَةٌ، وَهِيَ مَوْرِدُ الْعَقْدِ؛ لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُ أَنْ تَحْدُثَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَالشَّرَائِعُ مَبْنَاهَا عَلَى رِعَايَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ، وَلَا تَتِمُّ مَصَالِحُهُمْ فِي مَعَاشِهِمْ إِلَّا بِهِ.
[فصل التَّفْرِيقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السَّلَمِ]
فَصْلٌ.
الثَّالِثُ: مَعْدُومٌ لَا يُدْرَى يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ، وَلَا ثِقَةَ لِبَائِعِهِ بِحُصُولِهِ، بَلْ يَكُونُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ عَلَى خَطَرٍ، فَهَذَا الَّذِي مَنَعَ الشَّارِعُ بَيْعَهُ لَا لِكَوْنِهِ مَعْدُومًا، بَلْ لِكَوْنِهِ غَرَرًا، فَمِنْهُ صُورَةُ النَّهْيِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا حَدِيثُ حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما، فَإِنَّ الْبَائِعَ إِذَا بَاعَ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ، وَلَا لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ لِيَذْهَبَ وَيُحَصِّلُهُ، وَيُسَلِّمُهُ إِلَى الْمُشْتَرِي، كَانَ ذَلِكَ شَبِيهًا بِالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِمَا إِلَى هَذَا الْعَقْدِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ مَصْلَحَتُهُمَا عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ - وَهُوَ بَيْعُ حَمْلِ مَا تَحْمِلُ نَاقَتُهُ - وَلَا يَخْتَصُّ هَذَا النَّهْيُ بِحَمْلِ الْحَمْلِ، بَلْ لَوْ بَاعَهُ مَا تَحْمِلُ نَاقَتُهُ أَوْ بَقَرَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ، كَانَ مِنْ بُيُوعِ الْجَاهِلِيَّةِ الَّتِي يَعْتَادُونَهَا، وَقَدْ ظَنَّ طَائِفَةٌ أَنَّ بَيْعَ السَّلَمِ مَخْصُوصٌ مِنَ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَيْسَ هُوَ
كَمَا ظَنُّوهُ، فَإِنَّ السَّلَمَ يَرِدُ عَلَى أَمْرٍ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ، ثَابِتٍ فِيهَا، مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ مَحِلِّهِ، وَلَا غَرَرَ فِي ذَلِكَ وَلَا خَطَرَ، بَلْ هُوَ جَعْلُ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْمُسَلَمِ إِلَيْهِ، يَجِبُ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ عِنْدَ مَحِلِّهِ، فَهُوَ يُشْبِهُ تَأْجِيلَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي، فَهَذَا شَغْلٌ لِذِمَّةِ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الْمَضْمُونِ، وَهَذَا شَغْلٌ لِذِمَّةِ الْبَائِعِ بِالْمَبِيعِ الْمَضْمُونِ، فَهَذَا لَوْنٌ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لَوْنٌ، وَرَأَيْتُ لِشَيْخِنَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ فَصْلًا مُفِيدًا وَهَذِهِ سِيَاقَتُهُ.
قَالَ: لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَقْوَالٌ قِيلَ: الْمُرَادُ بِذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ السِّلْعَةَ الْمُعَيَّنَةَ الَّتِي هِيَ مَالُ الْغَيْرِ، فَيَبِيعُهَا، ثُمَّ يَتَمَلَّكُهَا، وَيُسَلِّمُهَا إِلَى الْمُشْتَرِي، وَالْمَعْنَى: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ مِنَ الْأَعْيَانِ، وَنُقِلَ هَذَا التَّفْسِيرُ عَنِ الشَّافِعِيِّ، فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ السَّلَمَ الْحَالَّ، وَقَدْ لَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُسَلَمِ إِلَيْهِ مَا بَاعَهُ، فَحَمَلَهُ عَلَى بَيْعِ الْأَعْيَانِ؛ لِيَكُونَ بَيْعُ مَا فِي الذِّمَّةِ غَيْرَ دَاخِلٍ تَحْتَهُ سَوَاءٌ كَانَ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ مَا كَانَ يَبِيعُ شَيْئًا مُعَيَّنًا هُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ فَيَشْتَرِيهِ مِنْهُ، وَلَا كَانَ الَّذِينَ يَأْتُونَهُ يَقُولُونَ: نَطْلُبُ عَبْدَ فُلَانٍ، وَلَا دَارَ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَنْ يَأْتِيَهُ الطَّالِبُ، فَيَقُولُ: أُرِيدُ طَعَامًا كَذَا وَكَذَا، أَوْ ثَوْبًا كَذَا وَكَذَا، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَيَقُولُ: نَعَمْ أُعْطِيكَ، فَيَبِيعُهُ مِنْهُ، ثُمَّ يَذْهَبُ، فَيُحَصِّلُهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَفْعَلُهُ مَنْ يَفْعَلُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ:" يَأْتِينِي فَيَطْلُبُ مِنِّي الْمَبِيعَ لَيْسَ عِنْدِي " لَمْ يَقُلْ يَطْلُبُ مِنِّي مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِي، فَالطَّالِبُ طَلَبَ الْجِنْسَ لَمْ يَطْلُبْ شَيْئًا مُعَيَّنًا، كَمَا جَرَتْ بِهِ عَادَةُ الطَّالِبِ لِمَا يُؤْكَلُ وَيُلْبَسُ وَيُرْكَبُ، إِنَّمَا يَطْلُبُ جِنْسَ ذَلِكَ، لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ فِي مِلْكِ شَخْصٍ بِعَيْنِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ، مِمَّا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلِهَذَا صَارَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَطَائِفَةٌ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي، فَقَالُوا: الْحَدِيثُ عَلَى عُمُومِهِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ بَيْعِ مَا فِي الذِّمَّةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، وَهُوَ يَتَنَاوَلُ النَّهْيَ عَنِ السَّلَمِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، لَكِنْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ بِجَوَازِ السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ، فَبَقِيَ هَذَا فِي السَّلَمِ الْحَالِّ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ - وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ -: إِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَرِدْ بِهِ النَّهْيُ عَنِ
السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ، وَلَا الْحَالِّ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا أُرِيدَ بِهِ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي الذِّمَّةِ مِمَّا لَيْسَ هُوَ مَمْلُوكًا لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَيَرْبَحُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ، وَيَضْمَنَهُ وَيَقْدِرَ عَلَى تَسْلِيمِهِ، فَهُوَ نَهْيٌ عَنِ السَّلَمِ الْحَالِّ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْمُسْتَسْلِفِ مَا بَاعَهُ، فَيُلْزِمُ ذِمَّتَهُ بِشَيْءِ حَالٍّ، وَيَرْبَحُ فِيهِ، وَلَيْسَ هُوَ قَادِرًا عَلَى إِعْطَائِهِ، وَإِذَا ذَهَبَ يَشْتَرِيهِ فَقَدْ يَحْصُلُ وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، فَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْغَرَرِ وَالْمُخَاطَرَةِ، وَإِذَا كَانَ السَّلَمُ حَالًّا وَجَبَ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ فِي الْحَالِّ، وَلَيْسَ بِقَادِرٍ عَلَى ذَلِكَ، وَيَرْبَحُ فِيهِ عَلَى أَنْ يَمْلِكَهُ وَيَضْمَنَهُ، وَرُبَّمَا أَحَالَهُ عَلَى الَّذِي ابْتَاعَ مِنْهُ، فَلَا يَكُونُ قَدْ عَمِلَ شَيْئًا، بَلْ أَكَلَ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ، وَعَلَى هَذَا فَإِذَا كَانَ السَّلَمُ الْحَالُّ وَالْمُسَلَمُ إِلَيْهِ قَادِرًا عَلَى الْإِعْطَاءِ، فَهُوَ جَائِزٌ، وَهُوَ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ: إِذَا جَازَ الْمُؤَجَّلُ، فَالْحَالُّ أَوْلَى بِالْجَوَازِ.
وَمِمَّا يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا مُرَادُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ السَّائِلَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ شَيْءٍ مُطْلَقٍ فِي الذِّمَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ، لَكِنْ إِذَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ ذَلِكَ، فَبَيْعُ الْمُعَيَّنِ الَّذِي لَمْ يَمْلِكْهُ أَوْلَى بِالْمَنْعِ، وَإِذَا كَانَ إِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِ شَيْءٍ فِي الذِّمَّةِ، فَإِنَّمَا سَأَلَهُ عَنْ بَيْعِهِ حَالًّا، فَإِنَّهُ قَالَ: أَبِيعُهُ، ثُمَّ أَذْهَبُ فَأَبْتَاعُهُ، فَقَالَ لَهُ:( «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» ) ، فَلَوْ كَانَ السَّلَفُ الْحَالُّ لَا يَجُوزُ مُطْلَقًا، لَقَالَ لَهُ ابْتِدَاءً: لَا تَبِعْ هَذَا سَوَاءٌ كَانَ عِنْدَهُ أَوْ لَيْسَ عِنْدَهُ، فَإِنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَقُولُ: بَيْعُ مَا فِي الذِّمَّةِ حَالًّا لَا يَجُوزُ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ مَا يُسَلِّمُهُ، بَلْ إِذَا كَانَ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ إِلَّا مُعَيَّنًا لَا يَبِيعُ شَيْئًا فِي الذِّمَّةِ، فَلَمَّا لَمْ يَنْهَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ مُطْلَقًا، بَلْ قَالَ:( «لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ» ) عَلِمَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم فَرَّقَ بَيْنَ مَا هُوَ عِنْدَهُ وَيَمْلِكُهُ وَيَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَمَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ كِلَاهُمَا فِي الذِّمَّةِ.
وَمَنْ تَدَبَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ هُوَ الصَّوَابُ، فَإِنْ قِيلَ: إِنَّ بَيْعَ الْمُؤَجَّلِ جَائِزٌ لِلضَّرُورَةِ وَهُوَ بَيْعُ الْمَفَالِيسِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ احْتَاجَ أَنْ يَبِيعَ إِلَى أَجَلٍ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَبِيعُهُ الْآنَ، فَأَمَّا الْحَالُّ، فَيُمْكِنُهُ أَنْ يَحْضُرَ الْمَبِيعَ فَيَرَاهُ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَيْعِ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ، أَوْ بَيْعِ عَيْنٍ غَائِبَةٍ مَوْصُوفَةٍ لَا يَبِيعُ شَيْئًا مُطْلَقًا؟ . قِيلَ:
لَا نُسَلِّمُ أَنَّ السَّلْمَ عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ، بَلْ تَأْجِيلُ الْمَبِيعِ كَتَأْجِيلِ الثَّمَنِ، كِلَاهُمَا مِنْ مَصَالِحِ الْعَالَمِ.
وَالنَّاسُ لَهُمْ فِي مَبِيعِ الْغَائِبِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ مُطْلَقًا، وَلَا يُجَوِّزُهُ مُعَيَّنًا مَوْصُوفًا كَالشَّافِعِيِّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُجَوِّزُهُ مُعَيَّنًا مَوْصُوفًا، وَلَا يُجَوِّزُهُ مُطْلَقًا كأحمد وأبي حنيفة، وَالْأَظْهَرُ جَوَازُ هَذَا وَهَذَا، وَيُقَالُ لِلشَّافِعِيِّ مِثْلَ مَا قَالَ هُوَ لِغَيْرِهِ: إِذَا جَازَ بَيْعُ الْمُطْلَقِ الْمَوْصُوفِ فِي الذِّمَّةِ، فَالْمُعَيَّنُ الْمَوْصُوفُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ، فَإِنَّ الْمُطْلَقَ فِيهِ مِنَ الْغَرَرِ وَالْخَطَرِ وَالْجَهْلِ أَكْثَرُ مِمَّا فِي الْمُعَيَّنِ، فَإِذَا جَازَ بَيْعُ حِنْطَةٍ مُطْلَقَةٍ بِالصِّفَةِ، فَجَوَازُ بَيْعِهَا مُعَيَّنَةً بِالصِّفَةِ أَوْلَى، بَلْ لَوْ جَازَ بَيْعُ الْمُعَيَّنِ بِالصِّفَةِ، فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إِذَا رَآهُ، جَازَ أَيْضًا، كَمَا نُقِلَ عَنِ الصَّحَابَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أبي حنيفة وأحمد فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَقَدْ جَوَّزَ الْقَاضِي وَغَيْرُهُ مِنْ أَصْحَابِ أحمد السَّلَمَ الْحَالَّ بِلَفْظِ الْبَيْعِ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ، فَالِاعْتِبَارُ فِي الْعُقُودِ بِحَقَائِقِهَا وَمَقَاصِدِهَا لَا بِمُجَرَّدِ أَلْفَاظِهَا، وَنَفْسُ بَيْعِ الْأَعْيَانِ الْحَاضِرَةِ الَّتِي يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا يُسَمَّى سَلَفًا إِذَا عَجَّلَ لَهُ الثَّمَنَ، كَمَا فِي " الْمُسْنَدِ " عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ نَهَى أَنْ يُسْلِمَ فِي الْحَائِطِ بِعَيْنِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ بَدَا صَلَاحُهُ، فَإِذَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَقَالَ: أَسْلَمْتُ إِلَيْكَ فِي عَشَرَةِ أَوْسُقٍ مِنْ تَمْرِ هَذَا الْحَائِطِ جَازَ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: ابْتَعْتُ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ مِنْ هَذِهِ الصَّبْرَةِ، وَلَكِنَّ الثَّمَنَ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ إِلَى كَمَالِ صَلَاحِهِ، فَإِذَا عَجَّلَ لَهُ الثَّمَنَ قِيلَ لَهُ: سَلَفٌ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ، وَالسَّالِفُ الْمُتَقَدِّمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56][الزُّخْرُفِ: 56] .
وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَوَّلَ الرَّوَاحِلِ السَّالِفَةَ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:( «الْحَقِي بِسَلَفِنَا الصَّالِحِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ» ) . وَقَوْلُ الصِّدِّيقِ رضي الله عنه: لَأُقَاتِلَنَّهُمْ حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي. وَهِيَ الْعُنُقُ.
وَلَفْظُ السَّلَفِ يَتَنَاوَلُ الْقَرْضَ وَالسَّلَمَ؛ لِأَنَّ الْمُقْرِضَ أَيْضًا أَسْلَفَ الْقَرْضَ، أَيْ: قَدَّمَهُ، وَمِنْهُ هَذَا الْحَدِيثُ:( «لَا يَحِلُّ سَلَفٌ وَبَيْعٌ» ) ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ الْآخَرُ ( «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَسْلَفَ بَكْرًا وَقَضَى جَمَلًا رَبَاعِيًا» ) وَالَّذِي يَبِيعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ لَا يَقْصِدُ إِلَّا الرِّبْحَ، وَهُوَ تَاجِرٌ، فَيَسْتَلِفُ بِسِعْرٍ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِي بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ قَدْ أَتْعَبَ نَفْسَهُ لِغَيْرِهِ بِلَا فَائِدَةٍ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا مَنْ يَتَوَكَّلُ لِغَيْرِهِ فَيَقُولُ: أَعْطِنِي، فَأَنَا أَشْتَرِي لَكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ، فَيَكُونُ أَمِينًا، أَمَّا أَنَّهُ يَبِيعُهَا بِثَمَنٍ مُعَيَّنٍ يَقْبِضُهُ، ثُمَّ يَذْهَبُ فَيَشْتَرِيهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فِي الْحَالِّ، فَهَذَا لَا يَفْعَلُهُ عَاقِلٌ، نَعَمْ إِذَا كَانَ هُنَاكَ تَاجِرٌ، فَقَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الثَّمَنِ فَيَسْتَسْلِفُهُ وَيَنْتَفِعُ بِهِ مُدَّةً إِلَى أَنْ يُحَصِّلَ تِلْكَ السِّلْعَةَ، فَهَذَا يَقَعُ فِي السَّلَمِ الْمُؤَجَّلِ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى بَيْعَ الْمَفَالِيسِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الثَّمَنِ وَهُوَ مُفْلِسٌ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ فِي الْحَالِّ مَا يَبِيعُهُ، وَلَكِنْ لَهُ مَا يَنْتَظِرُهُ مِنْ مَغَلٍّ أَوْ غَيْرِهِ، فَيَبِيعُهُ فِي الذِّمَّةِ، فَهَذَا يُفْعَلُ مَعَ الْحَاجَةِ، وَلَا يُفْعَلُ بِدُونِهَا إِلَّا أَنْ يَقْصِدَ أَنْ يَتَّجِرَ بِالثَّمَنِ فِي الْحَالِّ، أَوْ يَرَى أَنَّهُ يَحْصُلُ بِهِ مِنَ الرِّبْحِ أَكْثَرُ مِمَّا يَفُوتُ بِالسَّلَمِ، فَإِنَّ الْمُسْتَسْلِفَ يَبِيعُ السِّلْعَةَ فِي الْحَالِّ بِدُونِ مَا تُسَاوِي نَقْدًا، وَالْمُسَلِّفُ يَرَى أَنْ يَشْتَرِيَهَا إِلَى أَجَلٍ بِأَرْخَصَ مِمَّا يَكُونُ عِنْدَ حُصُولِهَا، وَإِلَّا فَلَوْ عَلِمَ أَنَّهَا عِنْدَ طَرْدِ الْأَصْلِ تُبَاعُ بِمِثْلِ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لَمْ يُسَلِّمْ
فِيهَا، فَيَذْهَبُ نَفْعُ مَالِهِ بِلَا فَائِدَةٍ، وَإِذَا قَصَدَ الْأَجْرَ أَقْرَضَهُ ذَلِكَ قَرْضًا، وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ سَلَمًا إِلَّا إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ فِي الْحَالِّ أَرْخَصُ مِنْهُ وَقْتَ حُلُولِ الْأَجَلِ، فَالسَّلَمُ الْمُؤَجَّلُ فِي الْغَالِبِ لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ حَاجَةِ الْمُسْتَسْلِفِ إِلَى الثَّمَنِ، وَأَمَّا الْحَالُّ، فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ فَقَدْ يَكُونُ مُحْتَاجًا إِلَى الثَّمَنِ، فَيَبِيعُ مَا عِنْدَهُ مُعَيَّنًا تَارَةً، وَمَوْصُوفًا أُخْرَى، وَأَمَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ، فَإِنَّهُ لَا يَفْعَلُهُ إِلَّا إِذَا قَصَدَ التِّجَارَةَ وَالرِّبْحَ، فَيَبِيعُهُ بِسِعْرٍ، وَيَشْتَرِيهِ بِأَرْخَصَ مِنْهُ.
ثُمَّ هَذَا الَّذِي قَدَّرَهُ قَدْ يَحْصُلُ كَمَا قَدَّرَهُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ تِلْكَ السِّلْعَةُ الَّتِي يُسْلِفُ فِيهَا إِلَّا بِثَمَنٍ أَغْلَى مِمَّا أَسْلَفَ فَيَنْدَمُ، وَإِنْ حَصَلَتْ بِسِعْرٍ أَرْخَصَ مِنْ ذَلِكَ، قَدَّمَ السَّلَفَ إِذْ كَانَ يُمْكِنُهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ هُوَ بِذَلِكَ الثَّمَنِ، فَصَارَ هَذَا مِنْ نَوْعِ الْمَيْسِرِ وَالْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ، كَبَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ يُبَاعُ بِدُونِ ثَمَنِهِ، فَإِنْ حَصَلَ نَدِمَ الْبَائِعُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَدِمَ الْمُشْتَرِي، وَكَذَلِكَ بَيْعُ حَبَلِ الْحَبَلَةِ، وَبَيْعُ الْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا قَدْ يَحْصُلُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ، فَبَائِعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ جِنْسِ بَائِعِ الْغَرَرِ الَّذِي قَدْ يَحْصُلُ، وَقَدْ لَا يَحْصُلُ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ.
وَالْمُخَاطَرَةُ مُخَاطَرَتَانِ: مُخَاطَرَةُ التِّجَارَةِ. وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِيَ السِّلْعَةَ بِقَصْدِ أَنْ يَبِيعَهَا وَيَرْبَحَ وَيَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ.
وَالْخَطَرُ الثَّانِي: الْمَيْسِرُ الَّذِي يَتَضَمَّنُ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ، فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَسُولُهُ مِثْلُ بَيْعِ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ، وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ وَالْمَلَاقِيحِ وَالْمَضَامِينِ، وَبَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ يَكُونُ أَحَدُهُمَا قَدْ قَمَرَ الْآخَرَ، وَظَلَمَهُ، وَيَتَظَلَّمُ أَحَدُهُمَا مِنَ الْآخَرِ بِخِلَافِ التَّاجِرِ الَّذِي قَدِ اشْتَرَى السِّلْعَةَ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا نَقَصَ سِعْرُهَا، فَهَذَا مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حِيلَةٌ، وَلَا يَتَظَلَّمُ مِثْلُ هَذَا مِنَ الْبَائِعِ، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ قِسْمِ الْقِمَارِ وَالْمَيْسِرِ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَرْبَحَ عَلَى هَذَا لَمَّا بَاعَهُ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَبِيعُهُ، ثُمَّ يَشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَوْ عَلِمُوا ذَلِكَ لَمْ يَشْتَرُوا مِنْهُ، بَلْ يَذْهَبُونَ وَيَشْتَرُونَ مِنْ حَيْثُ اشْتَرَى هُوَ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْمُخَاطَرَةُ مُخَاطَرَةَ التُّجَّارِ، بَلْ مُخَاطَرَةُ الْمُسْتَعْجِلِ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ، فَإِذَا اشْتَرَى