الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فَصْلٌ فِي حُكْمِهِ صلى الله عليه وسلم فِي قِسْمَةِ الْأَمْوَالِ]
الْأَمْوَالُ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْسِمُهَا ثَلَاثَةٌ: الزَّكَاةُ، وَالْغَنَائِمُ، وَالْفَيْءُ.
فَأَمَّا الزَّكَاةُ وَالْغَنَائِمُ فَقَدْ تَقَدَّمَ حُكْمُهُمَا، وَبَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَسْتَوْعِبُ الْأَصْنَافَ الثَّمَانِيَةَ، وَأَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا وَضَعَهَا فِي وَاحِدٍ.
وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الْفَيْءِ فَثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَسَمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ فِي الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ مِنَ الْفَيْءِ، وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ شَيْئًا فَعَتَبُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمْ:( «أَلَا تَرْضَوْنَ أَنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بِالشَّاءِ وَالْبَعِيرِ، وَتَنْطَلِقُونَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَقُودُونَهُ إِلَى رِحَالِكُمْ، فَوَاللَّهِ لَمَا تَنْقَلِبُونَ بِهِ خَيْرٌ مِمَّا يَنْقَلِبُونَ بِهِ» ) وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْقِصَّةِ وَفَوَائِدُهَا فِي مَوْضِعِهَا.
وَالْقِصَّةُ هُنَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَبَاحَ لِرَسُولِهِ مِنَ الْحُكْمِ فِي مَالِ الْفَيْءِ مَا لَمْ يُبِحْهُ لِغَيْرِهِ، وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْهُ صلى الله عليه وسلم:( «إِنِّي لَأُعْطِي أَقْوَامًا، وَأَدَعُ غَيْرَهُمْ، وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي» ) .
وَفِي " الصَّحِيحِ " عَنْهُ ( «إِنِّي لَأُعْطِي أَقْوَامًا أَخَافُ ظَلْعَهُمْ وَجَزَعَهُمْ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، مِنْهُمْ: عمرو بن تغلب) . قَالَ عمرو بن تغلب: فَمَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُمْرَ النَّعَمِ» .
وَفِي " الصَّحِيحِ: ( «أَنَّ عليا بُعِثَ إِلَيْهِ بِذُهَيْبَةٍ مِنَ الْيَمَنِ، فَقَسَمَهَا أَرْبَاعًا، فَأَعْطَى الأقرع بن حابس، وَأَعْطَى زيد الخيل، وَأَعْطَى علقمة بن علاثة، وعيينة بن حصن، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اتَّقِ اللَّهَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَيْلَكَ أَوَلَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللَّهَ؟!» ) الْحَدِيثَ.
وَفِي " السُّنَنِ ": ( «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَضَعَ سَهْمَ ذِي الْقُرْبَى فِي بَنِي هَاشِمٍ، وَفِي بَنِي الْمُطَّلِبِ، وَتَرَكَ بَنِي نَوْفَلٍ، وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، فَانْطَلَقَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ إِلَيْهِ فَقَالَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَوْضِعِهِمْ مِنْكَ، فَمَا بَالُ إِخْوَانِنَا بَنِي الْمُطَّلِبِ أَعْطَيْتَهُمْ وَتَرَكَتْنَا، وَإِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: إِنَّا وَبَنُو الْمُطَّلِبِ لَا نَفْتَرِقُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا إِسْلَامٍ، إِنَّمَا نَحْنُ وَهُمْ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» ) .
وَذَكَرَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى يُصْرَفُ بَعْدَهُ فِي بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَبَنِي نَوْفَلٍ كَمَا يُصْرَفُ فِي بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، قَالَ: لِأَنَّ عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا إِخْوَةٌ، وَهُمْ أَوْلَادُ عبد مناف. وَيُقَالُ: إِنَّ عبد شمس وهاشما تَوْأَمَانِ.
وَالصَّوَابُ: اسْتِمْرَارُ هَذَا الْحُكْمِ النَّبَوِيِّ، وَأَنَّ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لِبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ، حَيْثُ خَصَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهِمْ، وَقَوْلُ هَذَا الْقَائِلِ: إِنَّ هَذَا خَاصٌّ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بَاطِلٌ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ مَوَاضِعَ الْخُمُسِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لِذَوِي الْقُرْبَى، فَلَا
يُتَعَدَّى بِهِ تِلْكَ الْمَوَاضِعُ، وَلَا يُقَصَّرُ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ يَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوَاءِ بَيْنَ أَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ، وَلَا كَانَ يَقْسِمُهُ قِسْمَةَ الْمِيرَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، بَلْ كَانَ يَصْرِفُهُ فِيهِمْ بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ، فَيُزَوِّجُ مِنْهُ عَزَبَهُمْ، وَيَقْضِي مِنْهُ عَنْ غَارِمِهِمْ، وَيُعْطِي مِنْهُ فَقِيرَهُمْ كِفَايَتَهُ.
وَفِي " سُنَنِ أبي داود ": عَنْ ( «عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: وَلَّانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خُمُسَ الْخُمُسِ فَوَضَعْتُهُ مَوَاضِعَهُ حَيَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَحَيَاةَ أبي بكر رضي الله عنه، وَحَيَاةَ عُمَرَ رضي الله عنه» ) .
وَقَدِ اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يُصْرَفُ فِي مَصَارِفِهِ الْخَمْسَةِ، وَلَا يَقْوَى هَذَا الِاسْتِدْلَالُ، إِذْ غَايَةُ مَا فِيهِ أَنَّهُ صَرَفَهُ فِي مَصَارِفِهِ الَّتِي كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُهُ فِيهَا، وَلَمْ يُعَدِّهَا إِلَى سِوَاهَا، فَأَيْنَ تَعْمِيمُ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ بِهِ؟ وَالَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ هَدْيُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَحْكَامُهُ أَنَّهُ كَانَ يَجْعَلُ مَصَارِفَ الْخُمُسِ كَمَصَارِفِ الزَّكَاةِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهَا عَنِ الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ، لَا أَنَّهُ يَقْسِمُهُ بَيْنَهُمْ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ، وَمَنْ تَأَمَّلَ سِيرَتَهُ وَهَدْيَهُ حَقَّ التَّأَمُّلِ لَمْ يَشُكَّ فِي ذَلِكَ.
وَفِي " الصَّحِيحَيْنِ ": عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: ( «كَانَتْ أَمْوَالُ بَنِي النَّضِيرِ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ، فَكَانَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَةٍ، وَفِي لَفْظٍ: " يَحْبِسُ لِأَهْلِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ، وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ» ) .
وَفِي " السُّنَنِ ": عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَتَاهُ الْفَيْءُ قَسَمَهُ مِنْ يَوْمِهِ، فَأَعْطَى الْآهِلَ حَظَّيْنِ، وَأَعْطَى الْعَزَبَ
حَظًّا» .
فَهَذَا تَفْضِيلٌ مِنْهُ لِلْآهِلِ بِحَسْبِ الْمَصْلَحَةِ وَالْحَاجَةِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجُهُ مِنْ ذَوِي الْقُرْبَى.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْفَيْءِ، هَلْ كَانَ مِلْكًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ يُشَاءُ، أَوْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أحمد وَغَيْرِهِ.
وَالَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ سُنَّتُهُ وَهَدْيُهُ أَنَّهُ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ بِالْأَمْرِ، فَيَضَعُهُ حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ، وَيَقْسِمُهُ عَلَى مَنْ أُمِرَ بِقِسْمَتِهِ عَلَيْهِمْ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ بِشَهْوَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، يُعْطِي مَنْ أَحَبَّ، وَيَمْنَعُ مَنْ أَحَبَّ، وَإِنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ يُنَفِّذُ مَا أَمَرَهُ بِهِ سَيِّدُهُ وَمَوْلَاهُ، فَيُعْطِي مَنْ أُمِرَ بِإِعْطَائِهِ، وَيَمْنَعُ مَنْ أُمِرَ بِمَنْعِهِ. وَقَدْ صَرَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا فَقَالَ:( «وَاللَّهِ إِنِّي لَا أُعْطِي أَحَدًا وَلَا أَمْنَعُهُ، إِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ أَضَعُ حَيْثُ أُمِرْتُ» ) ، فَكَانَ عَطَاؤُهُ وَمَنْعُهُ وَقَسَمُهُ بِمُجَرَّدِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَلِكًا رَسُولًا، فَاخْتَارَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا رَسُولًا.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْعَبْدَ الرَّسُولَ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِأَمْرِ سَيِّدِهِ وَمُرْسِلِهِ، وَالْمَلِكُ الرَّسُولُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ يُشَاءُ، وَيَمْنَعَ مَنْ يَشَاءُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى لِلْمَلِكِ الرَّسُولِ سُلَيْمَانَ:{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39][ص: 39] . أَيْ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ، وَامْنَعْ مَنْ شِئْتَ، لَا نُحَاسِبُكَ، وَهَذِهِ الْمَرْتَبَةُ هِيَ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَى نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَرَغِبَ عَنْهَا إِلَى مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَهِيَ مَرْتَبَةُ الْعُبُودِيَّةِ الْمَحْضَةِ الَّتِي تَصَرُّفُ صَاحِبُهَا فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى أَمْرِ السَّيِّدِ فِي كُلِّ دَقِيقٍ وَجَلِيلٍ.
وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْفَيْءِ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ، فَهُوَ مَلِكٌ يُخَالِفُ حُكْمَ
غَيْرِهِ مِنَ الْمَالِكِينَ، وَلِهَذَا كَانَ يُنْفِقُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِمَّا لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ بَخِيلٍ وَلَا رِكَابٍ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ، وَيَجْعَلُ الْبَاقِيَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللَّهِ عز وجل، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْأَمْوَالِ هُوَ السَّهْمُ الَّذِي وَقَعَ بَعْدَهُ فِيهِ مِنَ النِّزَاعِ مَا وَقَعَ إِلَى الْيَوْمِ.
فَأَمَّا الزَّكَوَاتُ وَالْغَنَائِمُ وَقِسْمَةُ الْمَوَارِيثِ فَإِنَّهَا مُعَيَّنَةٌ لِأَهْلِهَا لَا يَشْرُكُهُمْ غَيْرُهُمْ فِيهَا، فَلَمْ يُشْكِلْ عَلَى وُلَاةِ الْأَمْرِ بَعْدَهُ مِنْ أَمْرِهَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفَيْءِ، وَلَمْ يَقَعْ فِيهَا مِنَ النِّزَاعِ مَا وَقَعَ فِيهِ، وَلَوْلَا إِشْكَالُ أَمْرِهِ عَلَيْهِمْ لَمَا طَلَبَتْ فاطمة بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِيرَاثَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ، وَظَنَّتْ أَنَّهُ يُورَثُ عَنْهُ مَا كَانَ مَلِكًا لَهُ كَسَائِرِ الْمَالِكِينَ، وَخَفِيَ عَلَيْهَا رضي الله عنها حَقِيقَةُ الْمِلْكِ الَّذِي لَيْسَ مِمَّا يُورَثُ عَنْهُ، بَلْ هُوَ صَدَقَةٌ بَعْدَهُ، وَلَمَّا عَلِمَ ذَلِكَ خَلِيفَتُهُ الرَّاشِدُ الْبَارُّ الصِّدِّيقُ وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَجْعَلُوا مَا خَلَّفَهُ مِنَ الْفَيْءِ مِيرَاثًا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ، بَلْ دَفَعُوهُ إِلَى علي والعباس يَعْمَلَانِ فِيهِ عَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى تَنَازَعَا فِيهِ وَتَرَافَعَا إِلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وعمر وَلَمْ يَقْسِمْ أَحَدٌ مِنْهُمَا ذَلِكَ مِيرَاثًا، وَلَا مَكَّنَا مِنْهُ عباسا وعليا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:{مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ - لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ - وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ} [الحشر: 7 - 9] إِلَى قَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ [الْحَشْرِ: 7 - 10] .
فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ مَا أَفَاءَ عَلَى رَسُولِهِ بِجُمْلَتِهِ لِمَنْ ذَكَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلَمْ يَخُصَّ مِنْهُ خُمُسَهُ بِالْمَذْكُورِينَ، بَلْ عَمَّمَ وَأَطْلَقَ وَاسْتَوْعَبَ. وَيُصْرَفُ عَلَى الْمَصَارِفِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ، ثُمَّ عَلَى الْمَصَارِفِ الْعَامَّةِ، وَهُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَتْبَاعُهُمْ إِلَى
يَوْمِ الدِّينِ.
فَالَّذِي عَمِلَ بِهِ هُوَ وَخُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِيمَا رَوَاهُ أحمد رحمه الله وَغَيْرُهُ عَنْهُ:(مَا أَحَدٌ أَحَقَّ بِهَذَا الْمَالِ مِنْ أَحَدٍ، وَمَا أَنَا أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَحَدٍ، وَاللَّهِ مَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَحَدٌ إِلَّا وَلَهُ فِي هَذَا الْمَالِ نَصِيبٌ إِلَّا عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، وَلَكِنَّا عَلَى مَنَازِلِنَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَقَسَمِنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَالرَّجُلُ وَبَلَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَقِدَمُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَغِنَاؤُهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَالرَّجُلُ وَحَاجَتُهُ، وَوَاللَّهِ لَئِنْ بَقِيتُ لَهُمْ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ بِجَبَلِ صَنْعَاءَ حَظُّهُ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَهُوَ يَرْعَى مَكَانَهُ) . فَهَؤُلَاءِ الْمُسَمَّوْنَ فِي آيَةِ الْفَيْءِ هُمُ الْمُسَمَّوْنَ فِي آيَةِ الْخُمُسِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ وَأَتْبَاعُهُمْ فِي آيَةِ الْخُمُسِ؛ لِأَنَّهُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لِجُمْلَةِ الْفَيْءِ، وَأَهْلُ الْخُمُسِ لَهُمُ اسْتِحْقَاقَانِ: اسْتِحْقَاقٌ خَاصٌّ مِنَ الْخُمُسِ، وَاسْتِحْقَاقٌ عَامٌّ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ، فَإِنَّهُمْ دَاخِلُونَ فِي النَّصِيبَيْنِ.
وَكَمَا أَنَّ قِسْمَتَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْفَيْءِ بَيْنَ مَنْ جُعِلَ لَهُ لَيْسَ قِسْمَةَ الْأَمْلَاكِ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْمَالِكُونَ، كَقِسْمَةِ الْمَوَارِيثِ وَالْوَصَايَا وَالْأَمْلَاكِ الْمُطْلَقَةِ، بَلْ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ وَالنَّفْعِ وَالْغِنَاءِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْبَلَاءِ فِيهِ، فَكَذَلِكَ قِسْمَةُ الْخُمُسِ فِي أَهْلِهِ، فَإِنَّ مَخْرَجَهُمَا وَاحِدٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ يُفِيدُ تَحْقِيقَ إِدْخَالِهِمْ، وَأَنَّهُمْ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ بِحَالٍ، وَأَنَّ الْخُمُسَ لَا يَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَأَصْنَافِ الزَّكَاةِ لَا تَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّ الْفَيْءَ الْعَامَّ فِي آيَةِ الْحَشْرِ لِلْمَذْكُورِينَ فِيهَا لَا يَتَعَدَّاهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلِهَذَا أَفْتَى أَئِمَّةُ الْإِسْلَامِ كمالك وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا أَنَّ الرَّافِضَةَ لَا حَقَّ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَا مِنَ الْأَنْصَارِ، وَلَا مِنَ الَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِي سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَاخْتِيَارُ شَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَّةَ، وَعَلَيْهِ يَدُلُّ الْقُرْآنُ، وَفِعْلُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَخُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي آيَةِ الزَّكَاةِ وَآيَةِ الْخُمُسِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ قِسْمَةُ الزَّكَاةِ وَالْخُمُسِ عَلَى الْأَصْنَافِ كُلِّهَا، وَيُعْطِي مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مَنْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ.
وَقَالَ مالك رحمه الله وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ: بَلْ يُعْطِي فِي الْأَصْنَافِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِمَا، وَلَا يَعْدُوهُمْ إِلَى غَيْرِهِمْ، وَلَا تَجِبُ قِسْمَةُ الزَّكَاةِ وَلَا الْفَيْءِ فِي جَمِيعِهِمْ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وأبو حنيفة: بِقَوْلِ مالك رحمهم الله فِي آيَةِ الزَّكَاةِ، وَبِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رحمه الله فِي آيَةِ الْخُمُسِ.
وَمَنْ تَأَمَّلَ النُّصُوصَ وَعَمَلَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَخُلَفَائِهِ، وَجَدَهُ يَدُلُّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ أَهْلَ الْخُمُسِ هُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ، وَعَيَّنَهُمُ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِمْ وَتَقْدِيمًا لَهُمْ، وَلِمَّا كَانَتِ الْغَنَائِمُ خَاصَّةً بِأَهْلِهَا لَا يَشْرُكُهُمْ فِيهَا سِوَاهُمْ نَصَّ عَلَى خُمُسِهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَلَمَّا كَانَ الْفَيْءُ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ جَعَلَ جُمْلَتَهُ لَهُمْ وَلِلْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَتَابِعِيهِمْ، فَسَوَّى بَيْنَ الْخُمُسِ وَبَيْنَ الْفَيْءِ فِي الْمَصْرِفِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَصْرِفُ سَهْمَ اللَّهِ وَسَهْمَهُ فِي مَصَالِحِ الْإِسْلَامِ، وَأَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْخُمُسِ فِي أَهْلِهَا مُقَدِّمًا لِلْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ، وَالْأَحْوَجِ فَالْأَحْوَجِ، فَيُزَوِّجُ مِنْهُ عُزَّابَهُمْ، وَيَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُمْ، وَيُعِينُ ذَا الْحَاجَةِ مِنْهُمْ، وَيُعْطِي عَزَبَهُمْ حَظًّا، وَمُتَزَوِّجَهُمْ حَظَّيْنِ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ خُلَفَائِهِ يَجْمَعُونَ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَأَبْنَاءَ السَّبِيلِ وَذَوِي الْقُرْبَى، وَيَقْسِمُونَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْفَيْءِ بَيْنَهُمْ عَلَى السَّوِيَّةِ وَلَا عَلَى التَّفْضِيلِ، كَمَا لَمْ يَكُونُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ، فَهَذَا هَدْيُهُ وَسِيرَتُهُ، وَهُوَ فَصْلُ الْخِطَابِ، وَمَحْضُ الصَّوَابِ.