الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَلَكِنْ هَاهُنَا أَمْرٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ إِقْرَارَ مَنْ حَازَ الْمِيرَاثَ وَاسْتِلْحَاقَهُ هَلْ هُوَ إِقْرَارُ خِلَافَةٍ عَنِ الْمَيِّتِ أَوْ إِقْرَارُ شَهَادَةٍ؟ هَذَا فِيهِ خِلَافٌ، فَمَذْهَبُ أحمد وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إِقْرَارُ خِلَافَةٍ، فَلَا تُشْتَرَطُ عَدَالَةُ الْمُسْتَلْحِقِ، بَلْ وَلَا إِسْلَامُهُ، بَلْ يَصِحُّ ذَلِكَ مِنَ الْفَاسِقِ وَالدَّيِّنِ، وَقَالَتِ الْمَالِكِيَّةُ: هُوَ إِقْرَارُ شَهَادَةٍ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الشَّهَادَةِ، وَحَكَى ابن القصار عَنْ مَذْهَبِ مالك: أَنَّ الْوَرَثَةَ إِذَا أَقَرُّوا بِالنَّسَبِ لَحِقَ، وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا عُدُولًا، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ مَذْهَبِ مالك خِلَافُهُ.
[فصل الْبَيِّنَةُ]
فَصْلٌ الثَّالِثُ: الْبَيِّنَةُ بِأَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ ابْنُهُ، أَوْ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ، وَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ اثْنَانِ مِنَ الْوَرَثَةِ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِنْكَارِ بَقِيَّتِهِمْ وَثَبَتَ نَسَبُهُ، وَلَا يُعْرَفُ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ.
[فصل الْقَافَةُ]
فَصْلٌ الرَّابِعُ: الْقَافَةُ، حُكْمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَضَاؤُهُ بِاعْتِبَارِ الْقَافَةِ وَإِلْحَاقُ النَّسَبِ بِهَا.
ثَبَتَ فِي " الصَّحِيحَيْنِ ": مِنْ حَدِيثِ عائشة رضي الله عنها قَالَتْ: ( «دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ مَسْرُورًا تَبْرُقُ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ فَقَالَ: " أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ مجززا المدلجي نَظَرَ آنِفًا إِلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ وَعَلَيْهِمَا قَطِيفَةٌ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا، فَقَالَ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْدَامَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ» ) فَسُرَّ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِقَوْلِ الْقَائِفِ، وَلَوْ كَانَتْ كَمَا يَقُولُ الْمُنَازِعُونَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ كَالْكِهَانَةِ وَنَحْوِهَا لَمَا سُرَّ بِهَا وَلَا أُعْجِبَ بِهَا، وَلَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْكِهَانَةِ. وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ وَعِيدُ مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَثْبَتَهُ عِلْمًا وَلَمْ يُنْكِرْهُ، وَلَوْ كَانَ خَطَأً لَأَنْكَرَهُ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ قَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ وَنَفْيَ الْأَنْسَابِ، انْتَهَى.
كَيْفَ وَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَدْ صَرَّحَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ بِصِحَّتِهَا وَاعْتِبَارِهَا، فَقَالَ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ:( «إِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لهلال بن أمية، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لشريك ابن سحماء» ) فَلَمَّا جَاءَتْ بِهِ عَلَى شَبَهِ الَّذِي رُمِيَتْ بِهِ قَالَ: ( «لَوْلَا الْأَيْمَانُ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ» ) وَهَلْ هَذَا إِلَّا اعْتِبَارٌ لِلشَّبَهِ وَهُوَ عَيْنُ الْقَافَةِ، فَإِنَّ الْقَائِفَ يَتْبَعُ أَثَرَ الشَّبَهِ وَيَنْظُرُ إِلَى مَنْ يَتَّصِلُ، فَيَحْكُمُ بِهِ لِصَاحِبِ الشَّبَهِ، وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الشَّبَهَ وَبَيَّنَ سَبَبَهُ، وَلِهَذَا لَمَّا قَالَتْ لَهُ أم سلمة: أَوَتَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ " مِمَّ يَكُونُ الشَّبَهُ؟ ".
وَأَخْبَرَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ( «أَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ إِذَا سَبَقَ مَاءَ الْمَرْأَةِ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا مَاءَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهَا» )
فَهَذَا اعْتِبَارٌ مِنْهُ لِلشَّبَهِ شَرْعًا وَقَدْرًا، وَهَذَا أَقْوَى مَا يَكُونُ مِنْ طُرُقِ الْأَحْكَامِ، أَنْ يَتَوَارَدَ عَلَيْهِ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وَالشَّرْعُ وَالْقَدْرُ، وَلِهَذَا تَبِعَهُ خُلَفَاؤُهُ الرَّاشِدُونَ فِي الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ: حَدَّثَنَا سفيان، عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ عمر فِي امْرَأَةٍ وَطِئَهَا رَجُلَانِ فِي طُهْرٍ، فَقَالَ الْقَائِفُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ جَمِيعًا، فَجَعَلَهُ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الشَّعْبِيُّ: وعلي يَقُولُ: (هُوَ ابْنُهُمَا وَهُمَا أَبَوَاهُ يَرِثَانِهِ) ذَكَرَهُ سعيد أَيْضًا.
وَرَوَى الأثرم بِإِسْنَادِهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ (فِي رَجُلَيْنِ اشْتَرَكَا فِي طُهْرِ امْرَأَةٍ فَحَمَلَتْ فَوَلَدَتْ غُلَامًا يُشْبِهُهُمَا، فَرُفِعَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَدَعَا الْقَافَةَ فَنَظَرُوا فَقَالُوا: نَرَاهُ يُشْبِهُهُمَا، فَأَلْحَقَهُ بِهِمَا وَجَعَلَهُ يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ) وَلَا يُعْرَفُ قَطُّ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ خَالَفَ عمر وعليا رضي الله عنهما فِي ذَلِكَ، بَلْ حَكَمَ عمر بِهَذَا فِي الْمَدِينَةِ وَبِحَضْرَتِهِ الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَارُ فَلَمْ يُنْكِرْهُ مِنْهُمْ مُنْكِرٌ.
قَالَتِ الْحَنَفِيَّةُ: قَدْ أَجْلَبْتُمْ عَلَيْنَا فِي الْقَافَةِ بِالْخَيْلِ وَالرَّجِلِ، وَالْحُكْمُ بِالْقِيَافَةِ تَعْوِيلٌ عَلَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ وَالظَّنِّ وَالتَّخْمِينِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الشَّبَهَ قَدْ يُوجَدُ مِنَ الْأَجَانِبِ وَيَنْتَفِي عَنِ الْأَقَارِبِ، وَذَكَرْتُمْ قِصَّةَ أسامة وزيد وَنَسِيتُمْ قِصَّةَ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ يُخَالِفُ لَوْنَهُمَا فَلَمْ يُمَكِّنْهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ نَفْيِهِ وَلَا جَعَلَ لِلشَّبَهِ وَلَا لِعَدَمِهِ أَثَرًا، وَلَوْ كَانَ لِلشَّبَهِ أَثَرٌ لَاكْتَفَى بِهِ فِي وَلَدِ الْمُلَاعَنَةِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى اللِّعَانِ، وَلَكَانَ يَنْتَظِرُ وِلَادَتَهُ ثُمَّ يُلْحَقُ بِصَاحِبِ الشَّبَهِ، وَيَسْتَغْنِي بِذَلِكَ عَنِ اللِّعَانِ، بَلْ كَانَ لَا يَصِحُّ نَفْيُهُ مَعَ وُجُودِ الشَّبَهِ بِالزَّوْجِ، وَقَدْ دَلَّتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ عَلَى نَفْيِهِ عَنِ الْمُلَاعِنِ، وَلَوْ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:( «أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ لهلال بن أمية» ) وَهَذَا قَالَهُ بَعْدَ اللِّعَانِ وَنَفْيِ النَّسَبِ عَنْهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ لَوْ جَاءَ عَلَى الشَّبَهِ الْمَذْكُورِ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ مَجِيئُهُ عَلَى شَبَهِهِ دَلِيلًا عَلَى كَذِبِهِ، لَا عَلَى لُحُوقِ الْوَلَدِ بِهِ. قَالُوا: وَأَمَّا قِصَّةُ أسامة وزيد فَالْمُنَافِقُونَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي نَسَبِهِ مِنْ زيد
لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لَوْنَ أَبِيهِ، وَلَمْ يَكُونُوا يَكْتَفُونَ بِالْفِرَاشِ وَحُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَنَّهُ ابْنُهُ، فَلَمَّا شَهِدَ بِهِ الْقَائِفُ وَافَقَتْ شَهَادَتُهُ حُكْمَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَسُرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُوَافَقَتِهَا حُكْمَهُ وَلِتَكْذِيبِهَا قَوْلَ الْمُنَافِقِينَ، لَا أَنَّهُ أَثْبَتَ نَسَبَهُ بِهَا، فَأَيْنَ فِي هَذَا إِثْبَاتُ النَّسَبِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ؟ قَالُوا: وَهَذَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا اعْتِبَارُ الشَّبَهِ، فَإِنَّهَا إِنَّمَا اعْتَبَرَتْ فِيهِ الشَّبَهَ بِنَسَبٍ ثَابِتٍ بِغَيْرِ الْقَافَةِ وَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ ذَلِكَ.
قَالُوا: وَأَمَّا حُكْمُ عمر وعلي، فَقَدِ اخْتُلِفَ عَلَى عمر، فَرُوِيَ عَنْهُ مَا ذَكَرْتُمْ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّ الْقَائِفَ لَمَّا قَالَ لَهُ: قَدِ اشْتَرَكَا فِيهِ قَالَ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ. فَلَمْ يَعْتَبِرْ قَوْلَ الْقَائِفِ. قَالُوا: وَكَيْفَ تَقُولُونَ بِالشَّبَهِ وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ وَالشَّبَهُ مَوْجُودٌ لَمْ تُثْبِتُوا النَّسَبَ بِهِ وَقُلْتُمْ: إِنْ لَمْ تَتَّفِقِ الْوَرَثَةُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ لَمْ يَثْبُتِ النَّسَبُ؟
قَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ: مِنَ الْعَجَبِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْنَا الْقَوْلَ بِالْقَافَةِ وَيَجْعَلَهَا مِنْ بَابِ الْحَدْسِ وَالتَّخْمِينِ مَنْ يُلْحِقُ وَلَدَ الْمَشْرِقِيِّ بِمَنْ فِي أَقْصَى الْمَغْرِبِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُمَا لَمْ يَتَلَاقَيَا طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُلْحِقُ الْوَلَدَ بِاثْنَيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّهُ لَيْسَ ابْنًا لِأَحَدِهِمَا، وَنَحْنُ إِنَّمَا أَلْحَقْنَا الْوَلَدَ بِقَوْلِ الْقَائِفَ الْمُسْتَنِدِ إِلَى الشَّبَهِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا وَقَدْرًا، فَهُوَ اسْتِنَادٌ إِلَى ظَنٍّ غَالِبٍ وَرَأْيٍ رَاجِحٍ وَأَمَارَةٍ ظَاهِرَةٍ، بِقَوْلِ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْخِبْرَةِ، فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ مِنْ قَوْلِ الْمُقَوِّمِينَ، وَهَلْ يُنْكَرُ مَجِيءُ كَثِيرٍ مِنَ الْأَحْكَامِ مُسْتَنِدًا إِلَى الْأَمَارَاتِ الظَّاهِرَةِ وَالظَّنُونِ الْغَالِبَةِ؟
وَأَمَّا وُجُودُ الشَّبَهِ بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَانْتِفَاؤُهُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَإِنْ كَانَ وَاقِعًا
فَهُوَ مِنْ أَنْدَرِ شَيْءٍ وَأَقَلِّهِ، وَالْأَحْكَامُ إِنَّمَا هِيَ لِلْغَالِبِ الْكَثِيرِ، وَالنَّادِرُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ. وَأَمَّا قِصَّةُ مَنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ؛ لِأَنَّهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَادَةَ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّاسَ اعْتِبَارُ الشَّبَهِ، وَأَنَّ خِلَافَهُ يُوجِبُ رِيبَةً، وَأَنَّ فِي طِبَاعِ الْخَلْقِ إِنْكَارَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمَّا عَارَضَ ذَلِكَ دَلِيلٌ أَقْوَى مِنْهُ وَهُوَ الْفِرَاشُ كَانَ الْحُكْمُ لِلدَّلِيلِ الْقَوِيِّ، وَكَذَلِكَ نَقُولُ نَحْنُ وَسَائِرُ النَّاسِ: إِنَّ الْفِرَاشَ الصَّحِيحَ إِذَا كَانَ قَائِمًا فَلَا يُعَارَضُ بِقَافَةٍ وَلَا شَبَهٍ، فَمُخَالَفَةُ ظَاهِرِ الشَّبَهِ لِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ - وَهُوَ الْفِرَاشُ - غَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ، وَإِنَّمَا الْمُسْتَنْكَرُ مُخَالَفَةُ هَذَا الدَّلِيلِ الظَّاهِرِ بِغَيْرِ شَيْءٍ.
وَأَمَّا تَقْدِيمُ اللِّعَانِ عَلَى الشَّبَهِ وَإِلْغَاءُ الشَّبَهِ مَعَ وُجُودِهِ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا هُوَ مِنْ تَقْدِيمِ أَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ عَلَى أَضْعَفِهِمَا، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّبَهِ مَعَ عَدَمِ مَا يُعَارِضُهُ، كَالْبَيِّنَةِ تُقَدَّمُ عَلَى الْيَدِ وَالْبَرَاءَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَيُعْمَلُ بِهِمَا عِنْدَ عَدَمِهِمَا.
وَأَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِ أسامة مِنْ زيد بِدُونِ الْقِيَافَةِ، فَنَحْنُ لَمْ نُثْبِتْ نَسَبَهُ بِالْقِيَافَةِ، وَالْقِيَافَةُ دَلِيلٌ آخَرُ مُوَافِقٌ لِدَلِيلِ الْفِرَاشِ، فَسُرُورُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَفَرَحُهُ بِهَا وَاسْتِبْشَارُهُ لِتَعَاضُدِ أَدِلَّةِ النَّسَبِ وَتَضَافُرِهَا، لَا لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِقَوْلِ الْقَائِفِ وَحْدَهُ، بَلْ هُوَ مِنْ بَابِ الْفَرَحِ بِظُهُورِ أَعْلَامِ الْحَقِّ وَأَدِلَّتِهِ وَتَكَاثُرِهَا، وَلَوْ لَمْ تَصْلُحِ الْقِيَافَةُ دَلِيلًا لَمْ يَفْرَحْ بِهَا وَلَمْ يُسَرَّ، وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَفْرَحُ وَيُسَرُّ إِذَا تَعَاضَدَتْ عِنْدَهُ أَدِلَّةُ الْحَقِّ، وَيُخْبِرُ بِهَا الصَّحَابَةَ، وَيُحِبُّ أَنْ يَسْمَعُوهَا مِنَ الْمُخْبِرِ بِهَا؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ تَزْدَادُ تَصْدِيقًا بِالْحَقِّ إِذَا تَعَاضَدَتْ أَدِلَّتُهُ وَتُسَرُّ بِهِ وَتَفْرَحُ، وَعَلَى هَذَا فَطَرَ اللَّهُ عِبَادَهُ، فَهَذَا حُكْمٌ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْفِطْرَةُ وَالشِّرْعَةُ. وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عمر أَنَّهُ قَالَ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَلَا تُعْرَفُ صِحَّتُهُ عَنْ
عمر، وَلَوْ صَحَّ عَنْهُ لَكَانَ قَوْلًا عَنْهُ، فَإِنَّ مَا ذَكَرْنَا عَنْهُ فِي غَايَةِ الصِّحَّةِ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالِ أَيَّهُمَا شِئْتَ لَيْسَ بِصَرِيحٍ فِي إِبْطَالِ قَوْلِ الْقَائِفِ، وَلَوْ كَانَ صَرِيحًا فِي إِبْطَالِ قَوْلِهِ لَكَانَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ إِذَا أَلْحَقَهُ بِاثْنَيْنِ،، كَمَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ.
وَأَمَّا إِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْوَرَثَةِ بِأَخٍ وَأَنْكَرَهُ الْبَاقُونَ، فَإِنَّمَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ لِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ هُنَاكَ شَبَهٌ يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ الْقَائِفُ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إِنْكَارُ الْبَاقِينَ، وَنَحْنُ لَا نَقْصُرُ الْقَافَةَ عَلَى بَنِي مُدْلِجٍ، وَلَا نَعْتَبِرُ تَعَدُّدَ الْقَائِفِ، بَلْ يَكْفِي وَاحِدٌ عَلَى الصَّحِيحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ، وَعَنْ أحمد رِوَايَةٌ أُخْرَى: أَنَّهُ شَهَادَةٌ فَلَا بُدَّ مِنَ اثْنَيْنِ، وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ بِنَاءٌ عَلَى اشْتِرَاطِ اللَّفْظِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَالْمَنْقُولُ عَنْ عمر أَنَّهُ أَلْحَقَهُ بِأَبَوَيْنِ فَمَا تَقُولُونَ فِيمَا إِذَا أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِأَبَوَيْنِ هَلْ تُلْحِقُونَهُ بِهِمَا أَوْ لَا تُلْحِقُونَهُ إِلَّا بِوَاحِدٍ، وَإِذَا أَلْحَقْتُمُوهُ بِأَبَوَيْنِ فَهَلْ يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِاثْنَيْنِ أَمْ يَلْحَقُ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا، وَهَلْ حُكْمُ الِاثْنَيْنِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الْأَبَوَيْنِ أَمْ مَاذَا حُكْمُهُمَا؟
قِيلَ: هَذِهِ مَسَائِلُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ: لَا يَلْحَقُ بِأَبَوَيْنِ، وَلَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ إِلَّا أَبٌ وَاحِدٌ، وَمَتَى أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِاثْنَيْنِ سَقَطَ قَوْلُهَا. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: بَلْ يَلْحَقُ بِاثْنَيْنِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا، فَنَصَّ أحمد فِي رِوَايَةِ مهنا بن يحيى: أَنَّهُ يَلْحَقُ بِثَلَاثَةٍ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمُغْنِي: وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّهُ يَلْحَقُ بِمَنْ أَلْحَقَتْهُ الْقَافَةُ بِهِ وَإِنْ كَثُرُوا؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَ إِلْحَاقُهُ بِاثْنَيْنِ جَازَ إِلْحَاقُهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَهَذَا مَذْهَبُ أبي حنيفة، لَكِنَّهُ لَا يَقُولُ بِالْقَافَةِ، فَهُوَ يُلْحِقُهُ بِالْمُدَّعِينَ وَإِنْ كَثُرُوا، وَقَالَ الْقَاضِي: يَجِبُ أَنْ لَا يَلْحَقَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَهُوَ قَوْلُ محمد بن الحسن، وَقَالَ ابن حامد: لَا يَلْحَقُ بِأَكْثَرَ مِنَ
اثْنَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ أبي يوسف، فَمَنْ لَمْ يُلْحِقْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ قَالَ: قَدْ أَجْرَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَادَتَهُ أَنَّ لِلْوَلَدِ أَبًا وَاحِدًا وَأُمًّا وَاحِدَةً، وَلِذَلِكَ يُقَالُ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، وَفُلَانُ بْنُ فُلَانَةَ فَقَطْ.
وَلَوْ قِيلَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَفُلَانٍ لَكَانَ ذَلِكَ مُنْكَرًا وَعُدَّ قَذْفًا، وَلِهَذَا إِنَّمَا يُقَالُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَيْنَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ؟ وَهَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ، وَلَمْ يُعْهَدْ قَطُّ فِي الْوُجُودِ نِسْبَةُ وَلَدٍ إِلَى أَبَوَيْنِ قَطُّ، وَمَنْ أَلْحَقَهُ بِاثْنَيْنِ احْتَجَّ بِقَوْلِ عمر وَإِقْرَارِ الصَّحَابَةِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ، وَبِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ يَنْعَقِدُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ كَمَا يَنْعَقِدُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، ثُمَّ قَالَ أبو يوسف: إِنَّمَا جَاءَ الْأَثَرُ بِذَلِكَ فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْقَاضِي: لَا يُتَعَدَّى بِهِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ أَحْمَدَ إِنَّمَا نَصَّ عَلَى الثَّلَاثَةِ، وَالْأَصْلُ أَلَّا يُلْحَقَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَقَدْ دَلَّ قَوْلُ عمر عَلَى إِلْحَاقِهِ بِاثْنَيْنِ مَعَ انْعِقَادِهِ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ، فَدَلَّ عَلَى إِمْكَانِ انْعِقَادِهِ مِنْ مَاءِ ثَلَاثَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَمَشْكُوكٌ فِيهِ.
قَالَ الْمُلْحِقُونَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِذَا جَازَ تَخْلِيقُهُ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ وَثَلَاثَةٍ جَازَ خَلْقُهُ مِنْ مَاءِ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسَةٍ، وَلَا وَجْهَ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ فَقَطْ، بَلْ إِمَّا أَنْ يُلْحَقَ بِهِمْ وَإِنْ كَثُرُوا، وَإِمَّا أَنْ لَا يُتَعَدَّى بِهِ أَحَدٌ، وَلَا قَوْلَ سِوَى الْقَوْلَيْنِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: إِذَا اشْتَمَلَ الرَّحِمُ عَلَى مَاءِ الرَّجُلِ وَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ مِنْهُ الْوَلَدَ انْضَمَّ عَلَيْهِ أَحْكَمَ انْضِمَامٍ وَأَتَمَّهُ حَتَّى لَا يَفْسُدَ، فَكَيْفَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مَاءٌ آخَرُ؟
قِيلَ: لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَصِلَ الْمَاءُ الثَّانِي إِلَى حَيْثُ وَصَلَ الْأَوَّلُ فَيَنْضَمَّ عَلَيْهِمَا، وَهَذَا كَمَا أَنَّ الْوَلَدَ يَنْعَقِدُ مِنْ مَاءِ الْأَبَوَيْنِ، وَقَدْ سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ الْمَرْأَةِ أَوْ بِالْعَكْسِ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَمْتَنِعُ وُصُولُ الْمَاءِ الثَّانِي إِلَى حَيْثُ وَصَلَ الْأَوَّلُ، وَقَدْ عُلِمَ بِالْعَادَةِ أَنَّ الْحَامِلَ إِذَا تُوبِعَ وَطْؤُهَا جَاءَ الْوَلَدُ عَبْلَ
الْجِسْمِ مَا لَمْ يُعَارِضْ ذَلِكَ مَانِعٌ؛ وَلِهَذَا أَلْهَمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الدَّوَابَّ إِذَا حَمَلَتْ أَنْ لَا تُمَكِّنَ الْفَحْلَ أَنْ يَنْزُوَ عَلَيْهَا، بَلْ تَنْفِرُ عَنْهُ كُلَّ النِّفَارِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: إِنَّ الْوَطْءَ الثَّانِيَ يَزِيدُ فِي سَمْعِ الْوَلَدِ وَبَصَرِهِ، وَقَدْ شَبَّهَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِسَقْيِ الزَّرْعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ سَقْيَهُ يَزِيدُ فِي ذَاتِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ دَلَّ الْحَدِيثُ عَلَى حُكْمِ اسْتِلْحَاقِ الْوَلَدِ، وَعَلَى أَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ، فَمَا تَقُولُونَ لَوِ اسْتَلْحَقَ الزَّانِي وَلَدًا لَا فِرَاشَ هُنَاكَ يُعَارِضُهُ، هَلْ يَلْحَقُهُ نَسَبُهُ وَيَثْبُتُ لَهُ أَحْكَامُ النَّسَبِ؟
قِيلَ: هَذِهِ مَسْأَلَةٌ جَلِيلَةٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيهَا، فَكَانَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ يَذْهَبُ إِلَى أَنَّ الْمَوْلُودَ مِنَ الزِّنَى إِذَا لَمْ يَكُنْ مَوْلُودًا عَلَى فِرَاشٍ يَدَّعِيهِ صَاحِبُهُ، وَادَّعَاهُ الزَّانِي - أُلْحِقَ بِهِ، وَأُوِّلَ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:( «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ) عَلَى أَنَّهُ حَكَمَ بِذَلِكَ عِنْدَ تَنَازُعِ الزَّانِي وَصَاحِبِ الْفِرَاشِ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، رَوَاهُ عَنْهُ إسحاق بِإِسْنَادِهِ فِي رَجُلٍ زَنَى بِامْرَأَةٍ، فَوَلَدَتْ وَلَدًا، فَادَّعَى وَلَدَهَا فَقَالَ: يُجْلَدُ وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ. وَهَذَا مَذْهَبُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ، ذَكَرَ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا:(أَيُّمَا رَجُلٍ أَتَى إِلَى غُلَامٍ يَزْعُمُ أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ، وَأَنَّهُ زَنَى بِأُمِّهِ، وَلَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْغُلَامَ أَحَدٌ، فَهُوَ ابْنُهُ) . وَاحْتَجَّ سليمان بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُلِيطُ أَوْلَادَ الْجَاهِلِيَّةِ بِمَنِ ادَّعَاهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ كَمَا تَرَاهُ قُوَّةً وَوُضُوحًا، وَلَيْسَ مَعَ الْجُمْهُورِ أَكْثَرُ مِنْ ( «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» ) وَصَاحِبُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَوَّلُ قَائِلٍ بِهِ، وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ يَقْتَضِيهِ، فَإِنَّ الْأَبَ أَحَدُ الزَّانِيَيْنِ، وَهُوَ إِذَا كَانَ يُلْحَقُ بِأُمِّهِ، وَيُنْسَبُ إِلَيْهَا، وَتَرِثُهُ وَيَرِثُهَا، وَيَثْبُتُ النَّسَبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَقَارِبِ أُمِّهِ مَعَ كَوْنِهَا زَنَتْ بِهِ، وَقَدْ