الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْإِسْنَادِ بِعَيْنِهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم رَدَّ زينب عَلَى زَوْجِهَا أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ، وَلَمْ يُحْدِثْ شَيْئًا.
وَأَمَّا دَاوُدُ بْنُ الْحُصَيْنِ، عَنْ عكرمة، فَلَمْ تَزَلِ الْأَئِمَّةُ تَحْتَجُّ بِهِ وَقَدِ احْتَجُّوا بِهِ فِي حَدِيثِ الْعَرَايَا فِيمَا شَكَّ فِيهِ، وَلَمْ يَجْزِمْ بِهِ مِنْ تَقْدِيرِهَا بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ دُونَهَا مَعَ كَوْنِهَا عَلَى خِلَافِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نَهَى فِيهَا عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، فَمَا ذَنْبُهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ سِوَى رِوَايَةِ مَا لَا يَقُولُونَ بِهِ، وَإِنْ قَدَحْتُمْ فِي عكرمة - وَلَعَلَّكُمْ فَاعِلُونَ - جَاءَكُمْ مَا لَا قِبَلَ لَكُمْ بِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ فِيمَا احْتَجَجْتُمْ بِهِ أَنْتُمْ وَأَئِمَّةُ الْحَدِيثِ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَارْتِضَاءِ الْبُخَارِيِّ لِإِدْخَالِ حَدِيثِهِ فِي " صَحِيحِهِ ".
[فَصْلٌ الْمَسَالِكُ الْوَعِرَةُ فِي حَدِيثِ أَبِي الصَّهْبَاءِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا]
فَصْلٌ وَأَمَّا تِلْكَ الْمَسَالِكُ الْوَعِرَةُ الَّتِي سَلَكْتُمُوهَا فِي حَدِيثِ أبي الصهباء، فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا.
أَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ انْفِرَادُ مسلم بِرِوَايَتِهِ وَإِعْرَاضُ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ، فَتِلْكَ شَكَاةٌ ظَاهِرٌ عَنْكَ عَارُهَا، وَمَا ضَرَّ ذَلِكَ الْحَدِيثَ انْفِرَادُ مسلم بِهِ شَيْئًا، ثُمَّ هَلْ تَقْبَلُونَ أَنْتُمْ، أَوْ أَحَدٌ مِثْلَ هَذَا فِي كُلِّ حَدِيثٍ يَنْفَرِدُ بِهِ مسلم عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَهَلْ قَالَ الْبُخَارِيُّ قَطُّ: إِنَّ كُلَّ حَدِيثٍ لَمْ أُدْخِلْهُ فِي كِتَابِي، فَهُوَ بَاطِلٌ، أَوْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ، أَوْ ضَعِيفٌ، وَكَمْ قَدِ احْتَجَّ الْبُخَارِيُّ بِأَحَادِيثَ خَارِجَ الصَّحِيحِ لَيْسَ لَهَا ذِكْرٌ فِي " صَحِيحِهِ "، وَكَمْ صَحَّحَ مِنْ حَدِيثٍ خَارِجٍ عَنْ صَحِيحِهِ فَأَمَّا مُخَالَفَةُ سَائِرِ الرِّوَايَاتِ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَلَا رَيْبَ أَنَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رِوَايَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ بِلَا شَكٍّ. إِحْدَاهُمَا: تُوَافِقُ هَذَا الْحَدِيثَ، وَالْأُخْرَى: تُخَالِفُهُ، فَإِنْ أَسْقَطْنَا رِوَايَةً
بِرِوَايَةٍ، سَلِمَ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ بِحَمْدِ اللَّهِ سَالِمٌ.
وَلَوِ اتَّفَقَتِ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ عَلَى مُخَالَفَتِهِ، فَلَهُ أُسْوَةُ أَمْثَالِهِ، وَلَيْسَ بِأَوَّلِ حَدِيثٍ خَالَفَهُ رَاوِيهِ، فَنَسْأَلُكُمْ: هَلِ الْأَخْذُ بِمَا رَوَاهُ الصَّحَابِيُّ عِنْدَكُمْ أَوْ بِمَا رَآهُ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: الْأَخْذُ بِرِوَايَتِهِ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِكُمْ بَلْ جُمْهُورُ الْأُمَّةِ عَلَى هَذَا، كَفَيْتُمُونَا مَئُونَةَ الْجَوَابِ. وَإِنْ قُلْتُمُ: الْأَخْذُ بِرَأْيِهِ أَرَيْنَاكُمْ مِنْ تُنَاقِضُكُمْ مَا لَا حِيلَةَ لَكُمْ فِي دَفْعِهِ، وَلَا سِيَّمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَفْسِهِ، فَإِنَّهُ رَوَى حَدِيثَ بريرة وَتَخْيِيرِهَا، وَلَمْ يَكُنْ بَيْعُهَا طَلَاقًا، وَرَأَى خِلَافَهُ، وَأَنَّ بَيْعَ الْأَمَةِ طَلَاقُهَا، فَأَخَذْتُمْ - وَأَصَبْتُمْ - بِرِوَايَتِهِ، وَتَرَكْتُمْ رَأْيَهُ، فَهَلَّا فَعَلْتُمْ ذَلِكَ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، وَقُلْتُمْ: الرِّوَايَةُ مَعْصُومَةٌ، وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَمُخَالَفَتُهُ لِمَا رَوَاهُ يَحْتَمِلُ احْتِمَالَاتٍ عَدِيدَةً مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ تَأْوِيلٍ، أَوِ اعْتِقَادٍ مُعَارِضٍ رَاجِحٍ فِي ظَنِّهِ، أَوِ اعْتِقَادِ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ أَوْ مَخْصُوصٌ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، فَكَيْفَ يَسُوغُ تَرْكُ رِوَايَتِهِ مَعَ قِيَامِ هَذِهِ الِاحْتِمَالَاتِ؟ وَهَلْ هَذَا إِلَّا تَرْكُ مَعْلُومٍ لِمَظْنُونٍ، بَلْ مَجْهُولٍ؟ قَالُوا: وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رضي الله عنه حَدِيثَ التَّسْبِيعِ مِنْ وُلُوغِ الْكَلْبِ، وَأَفْتَى بِخِلَافِهِ، فَأَخَذْتُمْ بِرِوَايَتِهِ، وَتَرَكْتُمْ فَتْوَاهُ. وَلَوْ تَتَبَّعْنَا مَا أَخَذْتُمْ فِيهِ بِرِوَايَةِ الصَّحَابِيِّ دُونَ فَتْوَاهُ، لَطَالَ.
قَالُوا: وَأَمَّا دَعْوَاكُمْ نَسْخَ الْحَدِيثِ، فَمَوْقُوفَةٌ عَلَى ثُبُوتِ مُعَارِضٍ مُقَاوِمٍ مُتَرَاخٍ، فَأَيْنَ هَذَا؟
وَأَمَّا حَدِيثُ عكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي نَسْخِ الْمُرَاجَعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، فَلَوْ صَحَّ، لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ وَيُرَاجِعُهَا بِغَيْرِ عَدَدٍ، فَنُسِخَ ذَلِكَ وَقُصِرَ عَلَى ثَلَاثٍ، فِيهَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ، فَأَيْنَ فِي ذَلِكَ الْإِلْزَامُ بِالثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ كَيْفَ يَسْتَمِرُّ الْمَنْسُوخُ
عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عمر، لَا تَعْلَمُ بِهِ الْأَمَةُ، وَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِحِلِّ الْفُرُوجِ، ثُمَّ كَيْفَ يَقُولُ عمر:(إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ) ، وَهَلْ لِلْأَمَةِ أَنَاةٌ فِي الْمَنْسُوخِ بِوَجْهٍ مَا؟ ! ثُمَّ كَيْفَ يُعَارَضُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ بِهَذَا الَّذِي فِيهِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، وَضَعْفُهُ مَعْلُومٌ؟
وَأَمَّا حَمْلُكُمُ الْحَدِيثَ عَلَى قَوْلِ الْمُطَلِّقِ: أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، أَنْتِ طَالِقٌ، وَمَقْصُودُهُ التَّأْكِيدُ بِمَا بَعْدَ الْأَوَّلِ، فَسِيَاقُ الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ يَرُدُّهُ، فَإِنَّ هَذَا الَّذِي أَوَّلْتُمُ الْحَدِيثَ عَلَيْهِ لَا يَتَغَيَّرُ بِوَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَا يَخْتَلِفُ عَلَى عَهْدِهِ وَعَهْدِ خُلَفَائِهِ، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ، وَمَنْ يَنْوِيهِ فِي قَصْدِ التَّأْكِيدِ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، وَصَادِقٍ وَكَاذِبٍ، بَلْ يَرُدُّهُ إِلَى نِيَّتِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَا يَقْبَلُهُ فِي الْحُكْمِ لَا يَقْبَلُهُ مُطْلَقًا بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ قَوْلَهُ: إِنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا وَتَتَايَعُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، (فَلَوْ أَنَّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ) . إِخْبَارٌ مِنْ عمر بِأَنَّ النَّاسَ قَدِ اسْتَعْجَلُوا مَا جَعَلَهُمُ اللَّهُ فِي فُسْحَةٍ مِنْهُ، وَشَرَعَهُ مُتَرَاخِيًا بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ رَحْمَةً بِهِمْ، وَرِفْقًا وَأَنَاةً لَهُمْ، لِئَلَّا يَنْدَمَ مُطَلِّقٌ، فَيَذْهَبَ حَبِيبُهُ مِنْ يَدَيْهِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ، فَيَعِزُّ عَلَيْهِ تَدَارُكُهُ، فَجُعِلَ لَهُ أَنَاةً وَمُهْلَةً يَسْتَعْتِبُهُ فِيهَا، وَيُرْضِيهِ وَيَزُولُ مَا أَحْدَثَهُ الْعَتَبُ الدَّاعِي إِلَى الْفِرَاقِ، وَيُرَاجِعُ كُلٌّ مِنْهُمَا الَّذِي عَلَيْهِ بِالْمَعْرُوفِ، فَاسْتَعْجَلُوا فِيمَا جُعِلَ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ وَمُهْلَةٌ، وَأَوْقَعُوهُ بِفَمٍ وَاحِدٍ، فَرَأَى عمر رضي الله عنه أَنَّهُ يَلْزَمُهُمْ مَا الْتَزَمُوهُ عُقُوبَةً لَهُمْ، فَإِذَا عَلِمَ الْمُطَلِّقُ أَنَّ زَوْجَتَهُ وَسَكَنَهُ تَحْرُمُ عَلَيْهِ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِجَمْعِهِ الثَّلَاثَ، كَفَّ عَنْهَا، وَرَجَعَ إِلَى الطَّلَاقِ الْمَشْرُوعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ تَأْدِيبِ عمر لِرَعِيَّتِهِ لَمَّا أَكْثَرُوا مِنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ، كَمَا سَيَأْتِي مَزِيدُ تَقْرِيرِهِ عِنْدَ الِاعْتِذَارِ عَنْ عمر رضي الله عنه فِي إِلْزَامِهِ بِالثَّلَاثِ،
هَذَا وَجْهُ الْحَدِيثِ الَّذِي لَا وَجْهَ لَهُ غَيْرُهُ، فَأَيْنَ هَذَا مِنْ تَأْوِيلِكُمُ الْمُسْتَكْرَهِ الْمُسْتَبْعَدِ الَّذِي لَا تُوَافِقُهُ أَلْفَاظُ الْحَدِيثِ، بَلْ تَنْبُو عَنْهُ، وَتُنَافِرُهُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ مَعْنَاهُ كَانَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ الْآنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَاحِدَةً، فَإِنَّ حَقِيقَةَ هَذَا التَّأْوِيلِ: كَانَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً، وَعَلَى عَهْدِ عمر صَارُوا يُطَلِّقُونَ ثَلَاثًا وَالتَّأْوِيلُ، إِذَا وَصَلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ، كَانَ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتَّحْرِيفِ، لَا مِنْ بَابِ بَيَانِ الْمُرَادِ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ بِوَجْهٍ مَا، فَإِنَّ النَّاسَ مَا زَالُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً وَثَلَاثًا، وَقَدْ طَلَّقَ رِجَالٌ نِسَاءَهُمْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثَلَاثًا، فَمِنْهُمْ مَنْ رَدَّهَا إِلَى وَاحِدَةٍ، كَمَا فِي حَدِيثِ عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ، وَغَضِبَ وَجَعَلَهُ مُتَلَاعِبًا بِكِتَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يُعْرَفْ مَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَفِيهِمْ مَنْ أَقَرَّهُ لِتَأْكِيدِ التَّحْرِيمِ الَّذِي أَوْجَبَهُ اللِّعَانُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَلْزَمَهُ بِالثَّلَاثِ، لِكَوْنِ مَا أَتَى بِهِ مِنَ الطَّلَاقِ آخِرَ الثَّلَاثِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ النَّاسَ مَا زَالُوا يُطَلِّقُونَ وَاحِدَةً إِلَى أَثْنَاءِ خِلَافَةِ عمر، فَطَلَّقُوا ثَلَاثًا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَعْجَلُوا فِي شَيْءٍ كَانَتْ لَهُمْ فِيهِ أَنَاةٌ، فَنُمْضِيهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا يُلَائِمُ هَذَا الْكَلَامُ الْفَرْقَ بَيْنَ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَبَيْنَ عَهْدِهِ بِوَجْهٍ مَا، فَإِنَّهُ مَاضٍ مِنْكُمْ عَلَى عَهْدِهِ وَبَعْدَ عَهْدِهِ.
ثُمَّ إِنَّ فِي بَعْضِ أَلْفَاظِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحَةِ: ( «أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّهُ مَنْ طَلَّقَ ثَلَاثًا جُعِلَتْ وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم» ) .
وَفِي لَفْظٍ: ( «أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عمر، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلَى كَانَ الرَّجُلُ إِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا جَعَلُوهَا وَاحِدَةً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأبي بكر، وَصَدْرًا مِنْ إِمَارَةِ عمر،
فَلَمَّا رَأَى النَّاسَ - يَعْنِي عمر - قَدْ تَتَايَعُوا فِيهَا، قَالَ: أَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ» ) ، هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَهُوَ بِأَصَحِّ إِسْنَادٍ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ مَا ذَكَرْتُمْ مِنَ التَّأْوِيلِ بِوَجْهٍ مَا، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ عَمَلُ مَنْ جَعَلَ الْأَدِلَّةَ تَبَعًا لِلْمَذْهَبِ، فَاعْتَقَدَ ثُمَّ اسْتَدَلَّ. وَأَمَّا مَنْ جَعَلَ الْمَذْهَبَ تَبَعًا لِلدَّلِيلِ، وَاسْتَدَلَّ ثُمَّ اعْتَقَدَ، لَمْ يُمْكِنْهُ هَذَا الْعَمَلُ.
وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ هُوَ الَّذِي يَجْعَلُ ذَلِكَ، وَلَا أَنَّهُ عَلِمَ بِهِ، وَأَقَرَّهُ عَلَيْهِ، فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ أَنْ يَسْتَمِرَّ هَذَا الْجَعْلُ الْحَرَامُ الْمُتَضَمِّنُ لِتَغْيِيرِ شَرْعِ اللَّهِ وَدِينِهِ، وَإِبَاحَةِ الْفَرْجِ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَرَامٌ، وَتَحْرِيمِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ حَلَالٌ، عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ خَيْرِ الْخَلْقِ، وَهُمْ يَفْعَلُونَهُ، وَلَا يَعْلَمُونَهُ، وَلَا يَعْلَمُهُ هُوَ، وَالْوَحْيُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ، وَهُوَ يُقِرُّهُمْ عَلَيْهِ، فَهَبْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُهُ، وَكَانَ الصَّحَابَةُ يَعْلَمُونَهُ، وَيُبَدِّلُونَ دِينَهُ وَشَرْعَهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ ذَلِكَ، وَلَا يُوحِيهِ إِلَى رَسُولِهِ، وَلَا يُعْلِمُهُ بِهِ، ثُمَّ يَتَوَفَّى اللَّهُ رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم وَالْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، فَيَسْتَمِرُّ هَذَا الضَّلَالُ الْعَظِيمُ، وَالْخَطَأُ الْمُبِينُ عِنْدَكُمْ مُدَّةَ خِلَافَةِ الصِّدِّيقِ كُلَّهَا يُعْمَلُ بِهِ وَلَا يُغَيَّرُ إِلَى أَنْ فَارَقَ الصِّدِّيقُ الدُّنْيَا، وَاسْتَمَرَّ الْخَطَأُ وَالضَّلَالُ الْمُرَكَّبُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عمر، حَتَّى رَأَى بَعْدَ ذَلِكَ بِرَأْيِهِ أَنْ يُلْزِمَ النَّاسَ بِالصَّوَابِ، فَهَلْ فِي الْجَهْلِ بِالصَّحَابَةِ، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي عَهْدِ نَبِيِّهِمْ وَخُلَفَائِهِ أَقْبَحُ مِنْ هَذَا، وَتَاللَّهِ لَوْ كَانَ جَعْلُ الثَّلَاثِ وَاحِدَةً خَطَأً مَحْضًا، لَكَانَ أَسْهَلَ مِنْ هَذَا الْخَطَأِ الَّذِي ارْتَكَبْتُمُوهُ، وَالتَّأْوِيلِ الَّذِي تَأَوَّلْتُمُوهُ، وَلَوْ تَرَكْتُمُ الْمَسْأَلَةَ بِهَيْئَتِهَا، لَكَانَ أَقْوَى لِشَأْنِهَا مِنْ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَجْوِبَةِ.
قَالُوا: وَلَيْسَ التَّحَاكُمُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إِلَى مُقَلِّدٍ مُتَعَصِّبٍ، وَلَا هَيَّابٍ لِلْجُمْهُورِ، وَلَا مُسْتَوْحِشٍ مِنَ التَّفَرُّدِ إِذَا كَانَ الصَّوَابُ فِي جَانِبِهِ، وَإِنَّمَا
التَّحَاكُمُ فِيهَا إِلَى رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ قَدْ طَالَ مِنْهُ بَاعُهُ، وَرَحُبَ بِنَيْلِهِ ذِرَاعُهُ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الشُّبْهَةِ وَالدَّلِيلِ، وَتَلَقَّى الْأَحْكَامَ مِنْ نَفْسِ مِشْكَاةِ الرَّسُولِ، وَعَرَفَ الْمَرَاتِبَ، وَقَامَ فِيهَا بِالْوَاجِبِ، وَبَاشَرَ قَلْبُهُ أَسْرَارَ الشَّرِيعَةِ وَحِكَمَهَا الْبَاهِرَةَ، وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْبَاطِنَةِ وَالظَّاهِرَةِ، وَخَاضَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَضَايِقِ لُجَجَهَا، وَاسْتَوْفَى مِنَ الْجَانِبَيْنِ حُجَجَهَا، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
قَالُوا: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ: إِذَا اخْتَلَفَتْ عَلَيْنَا الْأَحَادِيثُ، نَظَرْنَا فِيمَا عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رضي الله عنهم فَنَعَمْ وَاللَّهِ وَحَيَّهَلَا بِيَرَكِ الْإِسْلَامِ، وَعِصَابَةِ الْإِيمَانِ.
فَلَا تَطَلَّبْ لِيَ الْأَعْوَاضَ بَعْدَهُمُ
…
فَإِنَّ قَلْبِي لَا يَرْضَى بِغَيْرِهِمُ
وَلَكِنْ لَا يَلِيقُ بِكُمْ أَنْ تَدْعُونَا إِلَى شَيْءٍ، وَتَكُونُوا أَوَّلَ نَافِرٍ عَنْهُ، وَمُخَالِفٍ لَهُ، فَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَكْثَرِ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ عَيْنٍ كُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ وَسَمِعَ مِنْهُ، فَهَلْ صَحَّ لَكُمْ عَنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، أَوْ عُشْرِهِمْ، أَوْ عُشْرِ عُشْرِهِمْ، أَوْ عُشْرِ عُشْرِ عُشْرِهِمْ، الْقَوْلُ بِلُزُومِ الثَّلَاثِ بِفَمٍ وَاحِدٍ؟ هَذَا وَلَوْ جَهَدْتُمْ كُلَّ الْجَهْدِ لَمْ تُطِيقُوا نَقْلَهُ عَنْ عِشْرِينَ نَفْسًا مِنْهُمْ أَبَدًا مَعَ اخْتِلَافٍ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ، فَقَدَ صَحَّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْقَوْلَانِ، وَصَحَّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ الْقَوْلُ بِاللُّزُومِ، وَصَحَّ عَنْهُ التَّوَقُّفُ، وَلَوْ كَاثَرْنَاكُمْ بِالصَّحَابَةِ الَّذِينَ كَانَ الثَّلَاثُ عَلَى عَهْدِهِمْ وَاحِدَةً، لَكَانُوا أَضْعَافَ مَنْ نُقِلَ عَنْهُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَنَحْنُ نُكَاثِرُكُمْ بِكُلِّ صَحَابِيٍّ مَاتَ إِلَى صَدْرٍ مِنْ خِلَافَةِ عمر، وَيَكْفِينَا مُقَدَّمُهُمْ، وَخَيْرُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ عَلَى عَهْدِهِ، بَلْ لَوْ شِئْنَا لَقُلْنَا، وَلَصَدَقْنَا: إِنَّ هَذَا كَانَ إِجْمَاعًا قَدِيمًا لَمْ يَخْتَلِفْ فِيهِ عَلَى عَهْدِ الصِّدِّيقِ اثْنَانِ، وَلَكِنْ لَا يَنْقَرِضُ عَصْرُ الْمُجْمِعِينَ حَتَّى حَدَثَ الِاخْتِلَافُ، فَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِجْمَاعُ الْأَوَّلُ حَتَّى صَارَ الصَّحَابَةُ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَاسْتَمَرَّ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأُمَّةِ فِي ذَلِكَ إِلَى الْيَوْمِ، ثُمَّ نَقُولُ: لَمْ يُخَالِفْ عمر إِجْمَاعَ مَنْ تَقَدَّمَهُ، بَلْ رَأَى إِلْزَامَهُمْ
بِالثَّلَاثِ عُقُوبَةً لَهُمْ لَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ حَرَامٌ، وَتَتَايَعُوا فِيهِ، وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا سَائِغٌ لِلْأَئِمَّةِ أَنْ يُلْزِمُوا النَّاسَ بِمَا ضَيَّقُوا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَلَمْ يَقْبَلُوا فِيهِ رُخْصَةَ اللَّهِ عز وجل وَتَسْهِيلَهُ، بَلِ اخْتَارُوا الشِّدَّةَ وَالْعُسْرَ، فَكَيْفَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه، وَكَمَالِ نَظَرِهِ لِلْأُمَّةِ، وَتَأْدِيبِهِ لَهُمْ، وَلَكِنَّ الْعُقُوبَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ، وَالتَّمَكُّنِ مِنَ الْعِلْمِ بِتَحْرِيمِ الْفِعْلِ الْمُعَاقَبِ عَلَيْهِ وَخَفَائِهِ، وَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عمر رضي الله عنه لَمْ يَقُلْ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَإِنَّمَا هُوَ رَأْيٌ رَآهُ مَصْلَحَةً لِلْأُمَّةِ يَكُفُّهُمْ بَهْ عَنِ التَّسَارُعِ إِلَى إِيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَلِهَذَا قَالَ:(فَلَوْ أَنَّا أَمْضَيْنَاهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: " فَأَجِيزُوهُنَّ عَلَيْهِمْ) ، أَفَلَا يُرَى أَنَّ هَذَا رَأْيٌ مِنْهُ رَآهُ لِلْمَصْلَحَةِ لَا إِخْبَارٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَلَمَّا عَلِمَ رضي الله عنه أَنَّ تِلْكَ الْأَنَاةَ وَالرُّخْصَةَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى الْمُطَلِّقِ، وَرَحْمَةٌ بِهِ، وَإِحْسَانٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَابَلَهَا بِضِدِّهَا، وَلَمْ يَقْبَلْ رُخْصَةَ اللَّهِ، وَمَا جَعَلَهُ لَهُ مِنَ الْأَنَاةِ عَاقَبَهُ بِأَنْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا، وَأَلْزَمَهُ مَا أَلْزَمَهُ مِنَ الشِّدَّةِ وَالِاسْتِعْجَالِ، وَهَذَا مُوَافِقٌ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، بَلْ هُوَ مُوَافِقٌ لِحِكْمَةِ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ قَدَرًا وَشَرْعًا.
فَإِنَّ النَّاسَ إِذَا تَعَدَّوْا حُدُودَهُ، وَلَمْ يَقِفُوا عِنْدَهَا، ضَيَّقَ عَلَيْهِمْ مَا جَعَلَهُ لِمَنِ اتَّقَاهُ مِنَ الْمَخْرَجِ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى بِعَيْنِهِ مَنْ قَالَ مِنَ الصَّحَابَةِ لِلْمُطَلِّقِ ثَلَاثًا: إِنَّكَ لَوِ اتَّقَيْتَ اللَّهَ لَجَعَلَ لَكَ مَخْرَجًا، كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ.
فَهَذَا نَظَرُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الصَّحَابَةِ، لَا أَنَّهُ رضي الله عنه غَيَّرَ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَجَعَلَ حَلَالَهَا حَرَامًا، فَهَذَا غَايَةُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَفِعْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ مَعَهُ، وَأَنْتُمْ لَمْ يُمْكِنْكُمْ ذَلِكَ إِلَّا بِإِلْغَاءِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، فَهَذَا نِهَايَةُ أَقْدَامِ الْفَرِيقَيْنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ الضَّنْكِ وَالْمُعْتَرَكِ الصَّعْبِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.