الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عليه من عبادة حجر وذبح له، أهذا دين؟! "
(1)
، فقد بدأ عمير رضي الله عنه صفوان بالثناء عليه وذكر مكانته في قريش وأنه سيد من السادة، وفي هذا تهدئة للنفوس من الاشتحان بسبب إسلام عمير رضي الله عنه؛ وذلك حتى يستمع له، ويلقي له باله، وقد استمع له حتى انتهى من كلامه، ولم يجبه بكلمة إلا أنه استطاع تبليغ دعوته إلى صفوان في تلك الساعة بأسلوبه الذي كان فيه تقدير وثناء له بما هو فيه، وإن كان عمير رضي الله عنه سعى في إسلام صفوان لاحقاً وكان له الفضل في ذلك.
هـ) عندما ذهب العلاء بن الحضرمي رضي الله عنه إلى المنذر بن ساوى العبدي في البحرين بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له فيما قال: "يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا فلا تصغرن عن الآخرة
…
ولست بعديم عقل ولا رأي .. "
(2)
. وكان المنذر بن ساوى هو صاحب البحرين، وقد مدح العلاء عقله وأثنى على رأيه وهو يدعوه إلى الإسلام حتى إنه أسلم وأرسل وفداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره فيه بإسلامه وإسلام قومه.
رابعاً: أسلوب الرحمة والمودة:
الرحمة في اللغة هي "الرقة والعطف والرأفة"
(3)
، ويقول الجرجاني:"هي إرادة إيصال الخير"
(4)
، ويقول الكفوي: "إن الرحمة هي حالة وجدانية تعرض غالباً لمن
(1)
المغازي، الواقدي، ص 120.
(2)
الروض الأنف، السهيلي، 7/ 519 - 520.
(3)
مقاييس اللغة، ابن فارس، كتاب الراء، باب الراء والحاء وما يثلثهما، 2/ 498.
(4)
التعريفات، الجرجاني، باب الراء، ص 115.
به رقة القلب، وتكون مبدأ للانعطاف النفساني الذي هو مبدأ الإحسان"
(1)
، وقال الجاحظ عن الرحمة:"إنها خلق مركب من الود والجزع، والرحمة لا تكون إلا لمن تظهر منه لراحمه خلة مكروهة، إما نقيصة في نفسه وإما محبة عارضة، فالرحمة هي محبة للمرحوم مع جزع من الحال التي من أجلها رُحم"
(2)
.
والله سبحانه وتعالى هو الرحمن الرحيم، فالرحمة هي من صفات الله سبحانه وتعالى، وللإمام الغزالي كلام جميل في ذلك يكفي عن أي كلام، قال رحمه الله: ("الرحمن الرحيم" اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمة تستدعي مرحوماً، ولا مرحوم إلا وهو محتاج، وهو الذي ينقضي به حاجة المحتاج من غير قصد وإرادة وعناية، فالمحتاج لا يسمى رحيماً، والذي يريد قضاء حاجة ولا يقضيها فإن كان قادراً على قضائها لا يسمى رحيماً؛ إذ لو تمت الإرادة لوفى بها وإن كان عاجزاً، فقد يسمى رحيماً باعتبار ما اعتوره من الرقة ولكنه ناقص.
وإنما الرحمة التامة إضافة الخير على المحتاجين وإرادته لهم، عناية بهم، والرحمة العامة هي التي تتناول المستحق وغير المستحق، ورحمة الله تامة عامة، أما تمامها: فمن حيث أراد قضاء حاجات المحتاجين وقضاها، وأما عمومها فمن حيث شمولها المستحق وغير المستحق، وعم الدنيا والآخرة، وتناول الضرورات والحاجات والمزايا الخارجية منها فهو الرحيم المطلق حقاً"
(3)
.
(1)
الكليات، الكفوي، فصل الراء، 2/ 377.
(2)
تهذيب الأخلاق، الجاحظ، ص 24.
(3)
المقصد الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى، الغزالي، ص 61.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}
(1)
، وقال صلى الله عليه وسلم:"أنا محمد وأحمد والمقفي والحاشر ونبي التوبة ونبي الرحمة"
(2)
.
أما المسلمون فهم رحماء، والرحمة خلق من أخلاق المسلم؛ إذ منشأ الرحمة صفاء النفس وطهارة الروح، والمسلم بإتيانه الخير وعمله الصالح وابتعاده عن الشر واجتنابه المفاسد هو دائماً في طهارة نفس وطيب روح، ومن كان هذا حاله فإن الرحمة لا تفارق قلبه، ولهذا كان المسلم يحب الرحمة ويبذلها ويوصي بها ويدعو إليها، مصداقاً لقوله تعالى:{ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}
(3)
(4)
.
والداعي رحيم بدعوته؛ لأنه يعمل ليخرج الناس من طريق الهلاك إلى طريق النجاة، فمن شفقته عليهم يدعوهم للإسلام، ولأن الدعوة من مهام الرسل فكان من واجب الدعاة أن يتمثلوا بأخلاقهم والتي منها "الرحمة"، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يرحم الله من لا يرحم الناس"
(5)
.
والرحمة في الدعوة تكسر الحدة لدى المدعو، والغلظة والجفوة، وتكسبه السكينة والمودة تجاه الداعي، وفضل الرحمة عظيم ومنزلتها من الدعوة كبيرة،
(1)
سورة الأنبياء، الآية:107.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب في أسمائه صلى الله عليه وسلم، رقم 6108، ص 1035.
(3)
سورة البلد، الآيتان: 17 - 18.
(4)
انظر: منهاج المسلم، أبو بكر جابر الجزائري، ص 113.
(5)
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قوله:{قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} ، رقم 7376، ص 1269.
وسوف نقوم بذكر مواقف الصحابة التي تندرج تحت مجال الرحمة والمودة:
أ) عندما هرب عكرمة بن أبي جهل من مكة يوم الفتح خوفاً من أن يقتله الرسول صلى الله عليه وسلم قامت زوجته أم حكيم رضي الله عنها بطلب الأمان له من رسول الله ثم خرجت في طلبه حتى لحقت عليه وقد ركب السفينة يريد أن يفر، فلما رأته قامت تلح عليه وتقول:"يا ابن عم، جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس، لا تهلك نفسك"، فوقف لها حتى أدركته فكلمته وعاد معها وأسلم.
ففي هذه القصة تتبين لنا رحمة أم حكيم رضي الله عنها في عدة مواقف، فالموقف الأول هو لحاقها به ومكابدة عناء السفر من أجل أن تنقذه وهي امرأة، والثاني قولها له:"يا ابن عم"، ففي هذا تودد وتلطف وإظهار المحبة المقرونة بالرحمة؛ لأنها لو نادته باسمه مجرداً لما كان في ذلك أي جانب من العاطفة، أما بالكنية فهي تجمع احترام الزوج وإيضاح قربه منها وتلطفها وبيان رحمتها له لأنه قريب، الثالث: قولها له: "لا تهلك نفسك"، ففي ذلك بيان رحمتها له من الهلاك وأن حياته لها قيمة لديها.
كل ذلك كان مدعاة لاستجابة عكرمة بن أبي جهل لزوجته رضي الله عنهما.
ب) في تأمين أبي ذر الغفاري لحويطب بن عبدالعزى رضي الله عنهما جوانب من الرحمة التي كانت سبباً في إسلام حويطب، فبعد أن كان حويطب خائفاً وقد تشتت أبناؤه، إذ واجه أبا ذر رضي الله عنه فهرب منه فقال له أبو ذر: يا أبا
محمد، قال فقلت: لبيك، قال: مالك؟ قلت: الخوف، قال: لا خوف عليك أنت آمن بأمان الله عز وجل، ثم قال له بعد أن أمنه وعاد إلى منزله وأمن أبناءه: (يا أبا محمد، حتى متى وإلى متى؟ (.
فلو نظرنا إلى بداية اللقاء نجد أن أبا ذر رضي الله عنه كان هو الأقوى والمنتصر وبإمكانه استخدام الجفوة والغلظة مع حويطب، وأيضاً لم يكن بحاجة أن يدعوه، ولكنه في البداية ناداه بكنيته رحمة منه، وحتى يهدئ من روعه، والأمر الثاني قال له:"لا خوف عليك"، وذلك لما وجده عليه من رعب وخوف فرحمه من ذلك، وبعد أن اطمأن وعاد إلى أهله قال له أبو ذر مرة أخرى: (يا أبا محمد، حتى متى وإلى متى؟ (. وفيها من عاطفة الرحمة الكثير؛ فنداؤه بالكنية هو رحمة، وخصوصاً إذا كان ذلك من الأعز للأذل في ذلك الوقت، والأمر الآخر قوله: (حتى متى وإلى متى؟ (فيها رحمة لحاله وما هو عليه في الدنيا وما سينتهي به المآل في الآخرة، فرحم الله أبا ذر وحويطباً رضي الله عنهما.
جـ) الرحمة أكثر ما تكون تجاه ذوي القربى وأكثر ما تكون تجاه الوالدين والأبناء، فهذا طليب بن عمير رضي الله عنه عندما أسلم دخل على أمه أروى بنت عبدالمطلب ودعاها إلى الإسلام رحمة بها ومحبة لها، فأسلمت، وكذلك دعوة الطفيل بن عمرو الدوسي لوالده وزوجته فأسلما، ودعوة مصعب بن عمير لأمه، وأبو ذر أيضاً دعا أمه فأسلمت.
فدعوة الوالدين والأبناء لا تكون إلا من مودة ورحمة من الداعي؛ لأنه لا يوجد مبرر أقوى من ذلك، وذلك لقربهم ومحبتهم وعدم وجود مصالح أخرى يرجوها منهم أكثر من المحبة والرحمة، فلو نظرنا إلى مصعب بن عمير رضي الله عنه يدعو أمه وهي من حبسه وعاداه وأعرض عنه وآذاه إلا أنه رحمة بها لازال يدعوها، ولولا الرحمة لاعتزلها وابتعد عنها، ولكنها رحمة الابن بالوالد وأمر الله سبحانه بالإحسان، {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
(1)
.
د) من رحمة العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه بأهل مكة خروجه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما كان الرسول في مر الظهران قبل دخول مكة، فذهب يبحث عن أحد يخبر أهل مكة فيستأمنوا الرسول صلى الله عليه وسلم، فوجد أبا سفيان بن حرب فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلم أبو سفيان وآمنه، وآمن أهل مكة، فمن رحمته خروجه في الليل وخوفه على قومه وحب الإسلام لهم.
هـ) من رحمة الصحابة رضي الله عنهم حب الإسلام للناس على حب الدنيا لأنفسهم، ومن ذلك ما قام به الحارث بن مسلم التميمي عندما قدم هداية القوم المشركين على الغنيمة عندما قال لهم: قولوا لا إله إلا الله وحده تحرزوا، فقالوا وأسلموا فحسَّن الرسول صلى الله عليه وسلم ما صنع وقال له: (أما إن الله قد كتب لك من كل إنسان منهم كذا وكذا (.
(1)
سورة النساء، الآية:36.