الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عميق في النفوس؛ لأن الخبر ليس كالعيان، وليس من سمع كمن رأى، فكل منهم له درجته في الإحساس ودرجته في التأثير.
وقد استخدم الصحابة رضي الله عنهم هذه الأساليب في كثير من مواقف الدعوة، وذلك لتقريب المدعو من الواقع وتسهيل إيصال المعلومة لديه بشيء يستطيع إدراكه مهما كان مستوى المدعو الفكري أو الاجتماعي أو العلمي، فالجميع أمام المحسوس متساوون.
وسوف نتطرق هنا إلى بعض الأساليب الحسية التي استخدمها الصحابة رضي الله عنهم في دعوتهم للمشركين.
أولاً: بيان خطأ المعتقد بالحس:
إن من أقوى الأساليب تأثيراً في أصحاب الاعتقادات الخاطئة هو نقض ذلك الاعتقاد بالحس الواضح لدى من يعتقده، كما فعل إبراهيم عليه السلام مع الأصنام وتكسيرها، وإثبات عجزها وعدم قدرتها مقارنة بمن يعبدونها، فكيف يعبدون من هم أقوى وأقدر منهم، بل ويستطيعون التعبير والأصنام لا تستطيع ذلك.
فاستخدام الحس مقابل هذه الاعتقادات هو بمثابة مزيل للغشاوة والتلبيس التي فرضها إبليس على حواس بني آدم ليضلهم عن عبادة الله، قال تعالى:{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}
(1)
.
(1)
سورة الأعراف، الآية:179.
وقد استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم الأسلوب الحسي في إثبات كثير من الأمور العقدية، فمثلاً في إثبات البعث: عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه أنه قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: (أما مررت بوادي أَهْلِكَ مَحْلاً؟ (قال: بلى، قال: (ثم مررت به يهتز خضراً (قال: بلى، قال: (فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه (
(1)
.
فوصف البعث غير المدرك من قبل البشر بالأرض الميتة عندما تخضرُّ وهي محسوسة تستوعبها حواس البشر، وهو أسلوب حسي لإثبات عقيدة البعث.
ومن الشواهد التي أثبت بها الصحابة بالأسلوب الحسي خطأ ما يعتقده المشركون في بعض الأمور ما سنورد ذكره هنا:
أ) بعدما عرض مصعب بن عمير الإسلام على عمرو بن الجموح، وقرأ عليه القرآن خرج من عنده دون أن يسلم، بل عاد إلى صنم عنده ليشاوره في الأمر، فعند ذلك علم ابنه معاذ بن عمرو ومعاذ بن جبل أن عمرو بن الجموح لن يفلح معه إلا الأسلوب الحسي، وذلك بإثبات خطأ معتقده في إلهه الذي يعبد ويستشير، فلجؤوا إلى إلقاء ذلك الصنم في حفرة فيها عذرة للناس منكساً على رأسه، فيبحث عنه عمرو بن الجموح فيجده في هذه الحفرة فيأخذه فيغسله ويطيبه ولا يزال ينظر إليه أنه إله له، ومع
(1)
المستدرك على الصحيحين، الحاكم، كتاب الأهوال، رقم 8860، ص 458. حديث حسن (الألباني، صحيح الجامع، رقم 1334، 1/ 284).
تكرار ذلك علق السيف عليه وقال له: "امتنع فهذا السيف معك"، ثم جاؤوا فأخذوا السيف وقرنوا الصنم بكلب ميت وألقوه في بئر فيها عذرة، فلما بحث عنه عمرو وجده منكساً وقد قرن بكلب ميت، فكان في ذلك إحساس بعدم قدرة هذا الإله وأن شأنه أهون مما كان يعتقد فأسلم وحسن إسلامه، ولولا أن يسَّر الله له ابنه معاذاً ومعاذ بن جبل وآخرين معهم بهذه الفكرة التي تثير إحساس عمرو بن الجموح ليتعلم خطأ ما كان يعتقد فيه وما يعبد لما عرف الحق.
ب) كان عبدالله بن رواحة أخاً لأبي الدرداء في الجاهلية، وكان يدعوه إلى الإسلام، إلا أن أبا الدرداء يأبى أن يستجيب حتى كان آخر أهل بيته إسلاماً، ومع كثرة دعوة ابن رواحة له لم يغير ذلك من تعلقه بصنم عنده، وقد وضع عليه منديلاً من شدة اهتمامه به، وتقديسه له، فعند ذلك لم يجد ابن رواحة بدَّاً من استعمال الأسلوب الحسي الذي يستطيع به أن يغير اعتقاد أبي الدرداء في إلهه هذا، فقام في أحد الأيام لما رأى أبا الدرداء خرج من منزله فخالفه عليه وقام بتكسير صنمه بالقدُّوم حتى قدَّده فلذاً فلذاً ثم خرج، وعندما عاد أبو الدرداء أخبرته امرأته بما فعل ابن رواحة فغضب غضباً شديداً ثم فكر في نفسه فقال:"لو كان عند هذا خير لدفعه عن نفسه"، وانطلق إلى رسول الله ومعه ابن رواحة وأسلم، فالنظر إلى الصنم مكسراً ولم يستطيع أن يدافع عن نفسه فيه
بيان لصاحب العقل، فلا يقبل التردد أن هذا الصنم لا يصلح أن يكون إلهاً يُعبد، ولولا إثبات ذلك أمام ناظريه كسبب يحيي قلبه ويخرجه من ظلماته وجهله لما تبين له خطأ رأيه.
جـ) من بيان خطأ الاعتقاد في الأصنام ما قام به الطفيل بن عمرو الدوسي عندما أمر زوجته بأن تغتسل من حمى ذي الشرى وهو ماء حمى لصنم دوس ذي الشرى، وقد كانوا يخشون على أنفسهم من أن يعتدوا على حمى إلههم؛ لأن ذلك يغضبه ويتسبب لهم بالسوء، إلا أن الطفيل بن عمرو رضي الله عنه قال لها:"أنا ضامن لك"، فاغتسلت فكان ذلك أول ما انكسر من اعتقادها بذي الشرى، ثم عرض عليها الإسلام فأسلمت. فاغتسالها وعدم إصابتها بسوء أثبت خطأ اعتقادها؛ لأنها وجدت أن كل ما كانت تعتقده غير صحيح، وذلك لما لمسته وأحست به بما أعطاها الله من حواس.
د) ضمام بن ثعلبه رضي الله عنه هو أفضل وافد قوم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما، فعندما خرج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه وقدم عليهم كان أول ما تكلم به أن قال:"بئست اللات والعزى"، واللات والعزى هما آلهتهم التي يعبدون ويخشون، فما كان منهم إلا أن قالوا له: مه يا ضمام، اتق البرص والجذام واتق الجنون، فقال لهم: ويلكم، إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، فبيان ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه لقومه أن اللات والعزى لا يضران ولا ينفعان وأن ما كانوا يعتقدونه فيها من أنها سوف تصيبه بالبرص والجذام والجنون هو أمر