الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية قال: فلما دنونا من الحصن سمعنا ضوضاء أهله، فاستحثثت فرسي فأتيتهم فقلت لهم: قولوا: لا إله إلا الله تحرزوا، فقالوا؛ فقال أصحابنا: حرمتنا الغنيمة بعد أن بردت في أيدينا، فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك فحسَّن لي ما صنعت وقال لي: (إن لك من الأجر بعدد كل إنسان منهم كذا وكذا (. ونجد هنا المراجعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قام به مسلم بن الحارث رضي الله عنهم أجمعين للوصول إلى الصواب ومعرفة الحق.
وإذا كانت المرجعية هي ما يُنطَلَق منه فهي أيضاً ما يُحتكَم إليه، وهذا ما حصل في قصة مسلم بن الحارث رضي الله عنه، قال الله تعالى:{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}
(1)
، فالرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم هو أمر إلهي مسلم به لكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، فكيف إذا كان الأمر متعلقاً بالدعوة إلى الله، فإن الرجوع إلى الرسول هو ضابط رئيس يجعل الدعوة في المسار الصحيح المحكوم بما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه.
الضابط الرابع: الإخلاص في دعوة المشركين وبذل الجهد في ذلك:
إن الإخلاص من أهم شروط قبول العمل، وبما أن الدعوة من الأعمال المقربة إلى الله وهي من الأعمال الصالحة فالإخلاص فيها آكد، قال تعالى:{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
(2)
؛
(1)
سورة النساء، الآية:59.
(2)
سورة فصلت، الآية:33.
فوجود الإخلاص فيها ضروري، ويجب أن يتحلى به صاحب الدعوة إلى الله، وذلك للفوز بالجنة، ولا يمكن ذلك إلا إذا وافق العمل بالدعوة إخلاص النية لوجه الله وحده، قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}
(1)
، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله:"الإخلاص هو إفراد الحق سبحانه بالقصد في الطاعة، وهو تصفية الفعل من ملاحظة المخلوقين"
(2)
. وإذا غاب الإخلاص حل محله الهوى، فأصبح الداعية عبداً لهواه مسيراً به حتى وإن كان يعتقد أنه يدعو إلى الحق، فيصبح داعية ضلال لا داعية هدى، قال تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ}
(3)
. ومن هذا كانت دعوة الصحابة رضي الله عنهم خالصة لوجه الله تعالى، ولا يريدون منها إلا رضاه سبحانه دون غيره، فها هو عروة بن مسعود رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبره أنهم قاتلوه فيصر رضي الله عنه أن يبلغ قومه الدعوة فيأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدعوهم ويرميه أحدهم بسهم فيصيبه في أكحله، فيتجهز قومه لقتال من قتلوه فيقول رضي الله عنه:"لا تقتتلوا فيَّ فإني قد تصدقت بدمي على صاحبه ليصلح بذلك بينكم، فهي كرامة أكرمني الله بها وشهادة ساقها الله إليَّ"
(4)
.
(1)
سورة البينة، الآية:5.
(2)
مدارج السالكين، ابن القيم، 2/ 95.
(3)
سورة الجاثية، الآية:23.
(4)
المغازي، الواقدي، ص 638.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عنه: (مثل عروة مثل صاحب ياسين دعا قومه إلى الله فقتلوه (. وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم بإخلاص نية عروة رضي الله عنه، فلو كان يريد السمعة والشهرة أو عرض الدنيا من الجاه والزعامة لاستطاع ذلك عن طريق طلبها من الرسول صلى الله عليه وسلم أو من قومه ولم يفضل الشهادة على ذلك كله.
ومن الإخلاص ما قام به أصحاب بيعة العقبة الثانية من دعوة عبدالله بن حرام إلى الإسلام وذلك في حديث كعب بن مالك رضي الله عنه قال: واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم العقبة أوسط أيام التشريق ونحن سبعون رجلاً للبيعة ومعنا عبدالله بن عمرو بن حرام أبو جابر وإنه لعلى شركه، فأخذناه فقلنا: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا وشريف من أشرافنا والله إنا لنرغب بك أن تموت على ما أنت عليه فتكون لهذه النار غداً حطباً، وإن الله قد بعث رسولاً يأمر بتوحيده وعبادته وقد أسلم رجال من قومك، وقد واعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للبيعة فأسلم وطهر ثيابه وحضرها معنا فكان نقيباً
(1)
. فكان إخلاصهم في الدعوة سبباً في قبول عبدالله بن حرام رضي الله عنه ودخوله الإسلام؛ لأن نيتهم كانت خالصة صالحة لا يرجون بها إلا وجهه الكريم، وقد أخلصوا دينهم لله، قال تعالى:{أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ}
(2)
، يقول ابن عاشور في معنى الإخلاص في هذه الآية: "أن يكون الداعي إلى إتيان المأمور وإلى ترك المنهي إرضاء لله تعالى، وأن لا يكون
(1)
انظر: سير أعلام النبلاء، الذهبي، المجلد الأول، الجزء الأول، ص 80.
(2)
سورة الزمر، الآية:3.
الحظ الدنيوي هو الباعث للعبادة"
(1)
.
ومن هنا كان الصحابة رضي الله عنهم مراقبين لربهم ومحاسبين أنفسهم ومجاهدين نياتهم في تصحيحها وإخلاصها لله تعالى، ومدافعة الشيطان من الدخول إلى أنفسهم ومخالطتها ليفسد أعمالهم، فهذا مصعب بن عمير رضي الله عنه باع الدنيا وزينتها واشترى ما عند الله بها، فأخلص في الدعوة حتى أسلم على يديه خلق كثير من أهل المدينة، وعندما عاد إلى مكة في العقبة الثانية جاء إلى منزل رسول الله قبل منزل أمه، فبعثت إليه: يا عاق، أتقدم بلداً أنا فيه لا تبدأ بي؟ فقال لرسولها: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما سلم على الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر ما أخبر، ذهب إلى أمه، فقالت: إنك لعلى ما أنت عليه من الصبأة بعد؟ قال: أنا على دين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الإسلام الذي رضي الله لنفسه ولرسوله، قالت: ما شكرت ما رثيتك مرة بأرض الحبشة ومرة بيثرب، فقال: أفر بديني أن تفتنوني، فأرادت حبسه، فهدد بقتل من يتعرض له، فقالت: اذهب لشأنك، وبعد ذلك يقوم مصعب بن عمير الصحابي الداعية بدعوة أمه فيقول لها: يا أمَّه، إني لك ناصح عليك شفيق فاشهدي أنه لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ولكن الأم المكابرة ترد على ابنها وتقول: والثواقب
(2)
لا أدخل في دينك فيزرى برأيي ويضعف عقلي، ولكن أدعك وما أنت عليه وأقيم على ديني
(3)
.
فمن محبة مصعب لربه ونبيه وإخلاصه في ذلك لم يجعل شيئاً يشاركهما قلبه، حتى لو كانت أمه،
(1)
التحرير والتنوير، ابن عاشور، المجلد التاسع، الجزء الثالث والعشرون، ص 318.
(2)
الثواقب: النجوم.
(3)
انظر: الطبقات الكبرى، ابن سعد، طبقات البدريين من المهاجرين، الطبقة الأولى، 3/ 119.
(1)
.
كما أن من الإخلاص بذل الجهد في حصول المقصود، وهو إسلام المدعو والحرص على ذلك، وهو ما حرص الصحابة رضي الله عنهم عليه وسعوا إلى تحقيقه في جميع المواقف التي دعا فيها الصحابة رضي الله عنهم المشركين إلى الإسلام، من بذل الجهد في الذهاب إلى المدعو، وبذل الجهد في تحمل المشاق والأذى، وبذل الجهد في نصح المدعو، وعدم التخاذل معه، والإصرار على ذلك، وجميع الأدلة في دعوة الصحابة للمشركين يتجلى فيها الإخلاص وبذل الجهد من أجل الحصول على استجابة المدعو للإسلام.
وبهذا نجد أن الإخلاص وبذل الجهد في الدعوة هو ضابط من ضوابط منهج الصحابة في دعوتهم بحيث يقف به الداعي عند حدود الشرع، وبه يكون العمل متقناً محفوظاً من الانحراف والشرك ومتقبلاً عند الله سبحانه الذي هو من يعلم السر، وما تخفي الصدور، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصاً وابتغي به وجهه (
(2)
.
(1)
سورة المجادلة، الآية:22.
(2)
السنن الصغرى، النسائي، كتاب الجهاد، رقم 3142، 24/ 432. حديث صحيح (الألباني، سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الأول، القسم الأول، رقم 52، ص 118).