الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهم وسط بين المتفلتين المتتبعين لرخص العلماء بزعم التيسير والتخفيف على العباد وبين المتشددين المحرمين لكل شيء.
وهم وسط في مسألة التقليد بين من يحرم الاجتهاد ويوجب التقليد على كل أحدٍ وبين من يحرم التقليد على إطلاقه دون تفصيل (1).
وكذلك في سائر "أبواب السنة" هم وسط. لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان (2).
الإسلام بين الغلو واليسر: تعريفُ اليُسْرِ: لغة: نقيض العسر. وهو السهولة
. (3)
اصطلاحًا: هو تطبيق الأحكام الشرعية بصورة معتدلة كما جاءت في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، من غير تشدد يحرم الحلال ولا تميع يحلل الحرام، ويدخل تحت هذا المصطلح: السعة، ورفع الحرج، وغيرها من المصطلحات التي تحمل المدلول نفسه (4).
الدين الإسلامي قائم على اليسر ورفع الحرج: إن الدين الإسلامي قائم بمجمله على اليسر ورفع الحرج ابتداءً من العقيدة وانتهاءً بأصغر أمور الأحكام والعبادات بشكل يتوافق مع الفطرة الإنسانية وتتقبله النفس البشرية من غير تكلف أو تعنت، "فإن الشارع لم يقصد إلى التكليف بالمشاق الإعنات فيه والدليل على ذلك أمور" (5):
أولًا: الآيات الكثيرة التي تثبت التيسير وتنفي العسر والحرج والمشقة عن الدين الإسلامي منها: قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} (الحج: 78).
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (البقرة: 158). وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)} (النساء: 28).
(1) الغلو في الدين، لجلال بن بعد الرحمن عارف صـ 21، 22.
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (3/ 373).
(3)
الصحاح للجوهري (2/ 730)، القاموس المحيط (1/ 691).
(4)
اليسر والسماحة في الإسلام. تأليف/ فالح بن محمد الصغير تحت فصل بعنوان (مفهوم اليسر).
(5)
انظر: الموافقات للشاطبي (2/ 81)، اليسر والسماحة في الإسلام.
وكذلك الأحاديث الكثيرة التي تحمل معاني اليسر في أمور الدين وعدم التنطع والتشدد في العبادات والطاعات، فقد أشار عليه الصلاة والسلام إلى أن أهم ما تميزت به رسالة الإسلام عن غيرها من الرسالات السماوية السابقة هي اليسر ورفع الحرج والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصر ولكن نكتفي منها بالإشارة.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: "إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنْ الدُّلجةِ"(1).
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الدِّينِ إِلَى الله الحنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ"(2).
والمتمعن في السيرة النبوية يجد أن سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وتعامله مع صحابته مبنى على منهج التيسير والسماحة، والشواهدُ أكثر من أن تعد أو تحصى، ولكن نكتفي بسرد حادثة وقعت لأحد الصحابة وجاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، يريدُ مخرجًا لها وهو صحابي فقير لا يملك قوت يومه.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَال: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَال: يَا رَسُولَ الله هَلَكْتُ قَال: "مَا لَكَ" قَال وَقَعْتُ عَلَى امْرَأَتِي وَأَنَا صَائِمٌ فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "هَلْ تَجِدُ رَقَبَةً تُعْتِقُهَا" قَال: لَا قَال: "فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَال: لَا فَقَال: "فَهَلْ تَجِدُ إِطْعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا" قَال: لَا قَال: فَمَكَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيْنَا نَحْنُ عَلَى ذَلِكَ أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِعَرَقٍ فِيهَا تَمْرٌ وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ قَال: "أَيْنَ السَّائِلُ" فَقَال: أَنَا قَال: "خُذْهَا فَتَصَدَّقْ بِهِ" فَقَال الرَّجُلُ: أَعَلَى أَفْقَرَ مِنِّي يَا رَسُولَ الله، فَوَالله مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا -يُرِيدُ الْحَرَّتَيْنِ- أَهْلُ بَيْتٍ أَفْقَرُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي، فَضَحِكَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَى بَدَتْ أَنْيَاُبهُ ثُمَّ قَال:"أَطْعِمْهُ أَهْلَكَ"(3).
ثانيًا: اعتماد الشريعة الإسلامية على عدة أسس في التيسير.
(1) البخاري (39).
(2)
ذكره البخاري في صحيحه معلقًا (1/ 116)، ووصله في الأدب المفرد (287)، ورواه أحمد (1/ 236)، وصححه الألباني في الصحيحة (881).
(3)
البخاري (1936)، مسلم (1111).
فإن الشريعة الإسلامية - كما سبق - اعتمادها الأساسي على التيسير ورفع الحرج وللتحقيق فقد اعتمدت على عدة أسس أو مرتكزات مثل:
1) الرُخْصَة: ومعناها لغة: ترخيصُ الله للعبد فيها يخففه عليه، والتسهيلُ (1).
واصطلاحًا: ما ثبت على خلاف دليلٍ شرعي لمعارض راجح (2).
والرخصة قاعدة عظيمة من قواعد هذا الدين حيث تشمل جميع أمور الدين وجوانبه في العقيدة والعبادة والمعاملة والعقوبات وغيرها، وهي منحة وصدقة من الله تعالى لعباده، كما قال عليه الصلاة والسلام "صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ الله بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَةُ"(3).
والرخصة من أهم معالم اليسر في هذا الدين، وأن الله - تعالى - إنما أجازها ليخفف عن عباده وطأة بعض التكاليف، ويعذرهم عما لا يطيقونه لذلك يستحب إتيان هذه المنحة والعمل بها في مواضع الجواز، يقول صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ الله يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ تُؤْتَى مَعْصِيَتُهُ"(4).
ونسوق بعض الأمثلة التي توضح تيسير الشرع الحنيف في هذا الجانب وهو الرخص.
أ) الرخصة في السفر: وذلك بقصر الصلاة الرباعية المفروضة وصلاتها ركعتين، والجمع بين صلاتي الظهر والعصر وكذا المغرب والعشاء جمع تقديم أو تأخير.
وكذلك الإفطار للصائم لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} (البقرة: 184). وقال صلى الله عليه وسلم: "لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ"(5).
ب) التيمم بالتراب عند عدم وجود الماء أو عند تعذر استعماله لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ
(1) القاموس المحيط (1/ 843).
(2)
شرح الكوكب المنير (1/ 478)، روضة الناظر (1/ 190).
(3)
مسلم (686).
(4)
أحمد (2/ 108)، وابن خزيمة في صحيحة (2027)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب (1059).
(5)
البخاري (1946)، مسلم (1115).
حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (المائدة: 6).
جـ) الرخصة في الحيض والنفاس، وهما عذران للصلاة والصيام والطواف بالنسبة للمرأة (1).
2) الأصل في الأشياء الإباحة: وهذا من أهم المرتكزات والأسس التي قام عليها منهج التيسير في الإسلام وهو أن الأصل في الأشياء حلها وإباحتها، وليس منعها وحرمتها، فكل ما خلق في هذا الكون مسخرٌ للإنسان ومهيأ للاستمتاع به، ما لم يكن فيه نهي صريحٌ، فقال تعالى:{وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} (الجاثية: 13). وبما أن الشارع قد بين ذلك فلا يحق لأحد أن يحرم هذا المباح، فإنه بذلك يدخل في نطاق التنطع والتعنت المنهي عنه، ومن أجل ذلك جاء التحذير الرباني بالنهي عن تحريم الأمور المباحة أو تحليل المحرم، فقد كان هذا السؤال سببًا لإخراج الناس من الدين الحق، وإحلال غضب الله عليهم، كما حدث لبعض الأمم السابقة، فقال تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} (المائدة: 101، 102).
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ أَعْظَمَ المُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ"(2).
3) عدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان والإكراه: وفي هذا الأمر تظهر سماحة الإسلام ويسره في توافقه مع الفطرة الإنسانية السليمة التي خلقها الله في نفس الإنسان، ومن هذه الفطرة الخطأ الذي يقع فيه الإنسان في معظم أحواله من غير قصد، وكذلك ما يعتريه من نسيان - وهو ما ذكره الله تعالى - على لسان المؤمنين الذين قالوا:{رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} "قَال قَدْ فَعَلْتُ"(3).
وما كان يجيب به صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على من أخطأ أو نسي فقدم أو أخر فكان الجواب دائمًا"
(1) انظر: المنثور في القواعد للإمام الزركشي تحت فصل بعنوان (الرخص).
(2)
البخاري (7289)، مسلم (2358).
(3)
مسلم (126).
افْعَلْ وَلَا حَرَجَ" (1).
فما كان هذا الجواب إلا سماحة الإسلام وتيسيره ورفعه الحرج على أتباعه.
وأما الاستكراه فهو أمرٌ خارجٌ عن إرادة الإنسان، لا يستطيع كل إنسان أن يتحمل ما قد يتعرض له من أذى أو ضرر أو تهديد بالقتل أو قطع عضو وغيره، فحينها رخص له الشارع أن يتنازل عن بعض مفاهيمه الدينية تخلصًا من الحال التي يعاينها والعذاب الواقع عليه كما حصل لعمار بن ياسر رضي الله عنهما حينما ذكر آلهة قريش بخير ونال من رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت وطأة التعذيب، وقتل أبواه أمام عينه، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:"كيف تجد قلبك؟ " قال: مطمئنًا بالإيمان، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"إن عادوا فعد"(2).
وما ذلك إلا رحمة وتيسيرًا لهم، لأن الخطأ والنسيان من الأمور الفطرية التي لا يسلم منها أحد، وأما الإكراه فلأن قوة التحمل تختلف من إنسانٍ لآخر، من أجل ذلك جاء هذا التشريع الرباني بهذه الصورة الميسرة التي تناسب أطباع الناس وفطرهم (3).
4) التوبة: والتوبة من الأسس المتينة التي يرتكز عليها منهج التيسير في الإسلام وهي سبب من أسباب ثبات المؤمن وبقائه على دين الله تعالى، حيث تزيل عن كاهله هموم المعاصي وأثقال المخالفات، وتدفعه للعمل دومًا نحو الأفضل، يقول الله تعالى:{قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} (الزمر: 53).
والتوبة سبب لمحبة الله تعالى للإنسان عندما ينيب إليه بعد أن عصاه ويندم على فعله:
(1) البخاري (83)، مسلم (1306).
(2)
المستدرك (2/ 357)، وقال: صحيح على شرط الشيخين، ورواه البيهقي في الكبرى (8/ 208/ 16673). وقال الحافظ في الفتح (12/ 327): وهو مرسل ورجاله ثقات، وذكر مراسيل أخرى في المعنى نفسه ثم قال: وهذه المراسيل تقوي بعضها بعضًا.
(3)
اليسر والسماحة في الإسلام: تأليف/ فالح بن محمد الصغير تحت فصل بعنوان: مرتكزات منهج التيسير.
وانظر أيضًا: المنثور في القواعد للزركشي عنوان "الخطأ يرفع الإثم".