الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة العمل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادى له، ونشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 102]
أما بعد، فإن الإسلام أضخم حقيقة وأصلب عودًا وأعمق جذورًا من أن يجتثه الأعداء من على وجه الأرض.
ولقد تمت إرادة الله فظهر هذا الدين على الدين كله.
ظهر في ذاته كدين، فما يثبت له دين آخر في حقيقته وفي طبيعته، فأما الديانات الوثنية فليست في شيء من هذا.
وأما الديانات الكتابية فهذا الدين خاتمها والناسخ لها والمهمين عليها.
ولقد أدرك الغربيون هذه الحقيقة فبعد أن فشلت حملاتهم الصليبية ركَّزوا جهودهم على الغزو الفكري.
يقول المستشرق جاردنر: إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا.
ويقول أحد المبشرين: إن القوة الكامنة في الإسلام هي التي وقفت سدًّا منيعًا في وجه انتشار المسيحية.
وإن أعظم ما يواجه المسلمون اليوم هو الغزو الفكري الرهيب الذي استولى على عقول بعض النفوس فأفسدها حتى التبس عليهم الحق بالباطل، والخطأ بالصواب وراجت عليهم الأباطيل والمنكرات. وقد رأينا هجمة علمية وغارة فكرية من بعض القساوسة ورهبان الكنائس على الإسلام وذلك في مواعظهم وكتاباتهم وقنواتهم الإعلامية، وتطاولوا فيها على الإسلام وثوابته ورموزه ونبيه صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مستعجب إذ أنهم يعلمون أن ما في أيديهم من الدين محرف والتناقض فيه مخوف وأسفاره فيها عبارات وضعها كل مزيف، وليتهم يسكتون حتى لا نفضحهم ولكنهم يعلنون الحرب على الدين الإسلامي وأهله، مع أن البون بيننا وبينهم شاسع والحق واضح وتميزنا عليهم أمر ظاهر باهر عند من له مسكة من عقل زاجر.
"كَيْفَ لَا يُمَيِّزُ مَنْ لَهُ أَدْنَى عَقْلٍ يَرْجِعُ إِلَيْهِ بَيْنَ دِينٍ قَامَ أَسَاسُهُ وَارْتَفَعَ بِنَاؤُهُ عَلَى عِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، وَالْعَمَلِ بِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ مَعَ الْإِخْلَاصِ فِي السِّرِّ وَالْإِعْلَانِ، وَمُعَامَلَةِ خَلْقِهِ بِمَا أَمَرَ بِهِ مِنَ الْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، مَعَ إِيثَارِ طَاعَتِهِ عَلَى طَاعَةِ الشَّيْطَانِ، وَبَيْنَ دِينٍ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ، أُسِّسَ عَلَى عِبَادَةِ النِّيرَانِ، وَعَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الرَّحْمَنِ وَالشَّيْطَانِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوْثَانِ، أَوْ دِينٍ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى عِبَادَةِ الصُّلْبَانِ وَالصُّوَرِ المُدْهُونَةِ فِي السُّقُوفِ وَالحيطَانِ، وَأَنَّ رَبَّ الْعَالمِينَ نَزَلَ عَنْ كُرْسِيِّ عَظَمَتِهِ فَالْتَحَمَ بِبَطْنِ أُنْثَى، وَأَقَامَ هُنَاكَ مُدَّةً مِنَ الزَّمَانِ، بَيْنَ دَمِ الطَّمْثِ فِي ظُلُمَاتِ الْأَحْشَاءِ تَحْتَ مُلْتَقَى الْأَعْكَانِ، ثُمَّ خَرَجَ صَبِيًّا رَضِيعًا شَبَّ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَيَبْكِي وَيَأْكُلُ ويَشْرَبُ وَيَبُولُ وَيَنَامُ وَيَتَقَلَّبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، ثُمَّ أُودِعَ فِي المُكْتَبِ بَيْنَ صِبْيَانِ الْيَهُودِ يَتَعَلَّمُ مَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ، هَذَا وَقَدْ قُطِعَتْ مِنْهُ الْقُلْفَةُ حِينَ الْخِتَانِ. ثُمَّ جَعَلَ الْيَهُودُ يَطْرُدُونَهُ وَيُشَرِّدُونَهُ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، ثُمَّ قَبَضُوا عَلَيْهِ وَأَحَلُّوهُ أَصْنَافَ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ، فَعَقَدُوا عَلَى رَأْسِهِ مِنَ الشَّوْكِ تَاجًا مِنْ أَقْبَحِ التِّيجَانِ، وَأَرْكَبُوهُ قَصَبَةً لَيْسَ لَهَا لِجَامٌ وَلَا عِنَانٌ، ثُمَّ سَاقُوهُ إِلَى خَشَبَةِ الصَّلْبِ مَصْفُوعًا مَبْصُوقًا عَلَى وَجْهِهِ، وَهُمْ خَلْفَهُ وَأَمَامَهُ وَعَنْ شَمَائِلِهِ وَعَنِ الْأَيْمَانِ. ثُمَّ أَرْكَبُوهُ ذَلِكَ المَرْكَبَ الَّذِي تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ الْقُلُوبُ مَعَ الْأَبْدَانِ، ثُمَّ شُدَّتْ بِالْحِبَالِ يَدَاهُ وَالرِّجْلَانِ، ثُمَّ خَالطَهَا تِلْكَ المسَامِيرُ الَّتِي تَكْسِرُ الْعِظَامَ وَتُمَزِّقُ اللُّحْمَانَ، وَهُوَ يَسْتَغِيثُ: يَا قَوْمِ ارْحَمُونِي! فَلَا يَرْحَمُهُ مِنْهُمْ إِنْسَانٌ.
هَذَا وَهُوَ مُدَبِّرُ الْعَالمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفليِّ الَّذِي يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ. ثُمَّ مَاتَ وَدُفِنَ فِي التُّرَابِ تَحْتَ صُمِّ الجنَادِلِ وَالصَّوَّانِ، ثُمَّ قَامَ مِنَ الْقَبْرِ وَصَعِدَ إِلَى عَرْشِهِ وَمُلْكِهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَا كَانَ.
فَمَا ظَنُّكَ بِفُرُوعٍ هَذَا أَصْلُهَا الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْبُنْيَانُ، أَوْ دِينٍ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى عِبَادَةِ الْإِلَهِ المنْحُوتِ بِالْأَيْدِي بَعْدَ نَحْتِ الْأَفْكَارِ مِنْ سَائِرِ الْأَجْنَاسِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ وَالْأَصْنَافِ وَالْألوَانِ، وَالْخُضُوعِ لَهُ وَالتَّذَلُّلِ وَالْخُرُورِ سُجُودًا عَلَى الْأَذْقَانِ، لَا يُؤْمِنُ مَنْ يَدِينُ بِهِ بِالله وَلَا مَلَائِكَتِهِ وَلَا كُتُبِهِ وَلَا رُسُلِهِ وَلَا لِقَائِهِ يَوْمَ يَجْزِي المُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ وَالمُحْسِنَ بِالْإِحْسَانِ. أَوْ دِينِ الْأُمَّةِ الْغَضَبِيَّةِ الَّذِينَ انْسَلَخُوا مِنْ رِضْوَانِ اللهِ كَانْسِلَاخِ الْحَيَّةِ مِنْ قِشْرِهَا، وَبَاءُوا بِالْغَضَبِ وَالْخِزْيِ وَالْهَوَانِ، وَفَارَقُوا أَحْكَامَ التَّوْرَاةِ وَنَبَذُوهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، وَاشْتَرَوْا بِهَا الْقَلِيلَ مِنَ الْإِيمَانِ، فَتَرَحَّلَ عَنْهُمُ التَّوْفِيقُ وَقَارَنَهُمُ الْخِذْلَانُ، وَاسْتَبْدَلُوا بِوِلَايَةِ الله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَأَوْليَائِهِ وِلَايَةَ الشَّيْطَانِ (1).
أما وقد تمادوا في غيِّهم وضلالهم فليندموا على ما قدموا وليحزنوا على ما اقترفوا وشككوا؛ لأن الله تعالى قد حفظ هذا الدين وسد على الزائغين طرق التشكيك والتلبيس على المسلمين، ونصب في كل فترة من ينبري لصد عدوان الصائلين، وقد أمرنا نبينا أن نرد على الحاقدين والمارقين.
لما قال أبو سفيان يوم أحد: أفيكم محمد؟ أفيكم أبو بكر، أفيكم ابن الخطاب؟ قال لأصحابه:"لا تجيبوه". تهاونًا به وتحقيرًا لشأنه، فلما قال: أُعل هبل، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قولوا: الله أعلى وأجل". ولما قال: لنا العزى ولا عزى لكم، قال لهم:"قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم".
(1) هداية الحيارى لابن القيم 1/ 218 - 220.
وليت من تكلم الهذيان تنكب عن ميدان الفرسان، ليسلم من أسنة ألسنتهم عرضه، وينطوي من بساط المشاجرة طوله وعرضه، ولم يسمع ما يضيق به صدره، ولم ينتهك بين أفاضل الأمة ستره، وإذا أبى إلا المهارشة والمناقشة، والمواحشة والمفاحشة، فليصبر على حزّ الحلاقم، ونكز الأراقم، ونهش الضراغم، والبلاء المتراكم المتلاطم، ومتون الصوارم.
فوالذي نفسي بيده؛ ما بارز أهل الحق قط قرن إلا كسروا قرنه، فقرع من ندم سنه، ولا ناحرهم خصم إلا بشّروه بسوء منقلبه، وسدّوا عليه طريق مذهبه لمهربه، ولا فاصحهم أحد -ولو كان مثل خطباء إياد- إلا فصحوه وفضحوه، ولا كافحهم مقاتل -ولو كان من بقية قوم عاد- إلا كبُّوه على وجهه وبطحوه، هذا فعلهم مع الكماة الذين وردوا المنايا تبرعًا، وشربوا كؤوسها تطوعًا، وسعوا إلى الموت الزؤام سعيًا، وحسبوا طعم الحمام أريًا، والكفاة الذين استحقروا الأقران فلم يهلهم أمر نحوف، وجالوا في ميادين المناضلة واخترقوا الصفوف، وتجالدوا لدى المجادلة بقواطع السيوف (1).
فكان لزامًا على كل منابر الدعوة إلى الله أن تتصدى لهذه الحملات التي تسعى بكل طاقاتها إلى إطفاء نور الله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8)} [الصف: 8].
وها نحن ومن هذا المنطلق قد انبرينا وشمَّرنا وجاهدنا للصد عن حياض هذا الدين العظيم. ليحيا من حيَّ عن بينة ويهلك من هلك عن بينة، فوحَّدنا الجهود والطاقات، وضننَّا بالأنفاس واللحظات؛ لجمع موسوعة هي بحق منتهى الغايات، جمعت بين دفتيها أقوى ما يدعيه المخالفون من المتشابهات والمتناقضات والأغلوطات فيما أعلم، والرد عليها من كل الوجوه التي وقفنا عليها بشتى المسكتات:{فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (45)} [الأنعام: 45].
والله تعالى من حكمته يقيض في كل حقبة من الزمان حراسا لشريعته يذبون عنها كل باطل ودخيل، فلم يخل زمن من المجرمين ويسلط الله عليهم المؤمنين، فلما قام المبتدعة
(1) انظر: ما كتبه العلامة محمود شكري الآلوسي في مقدمة كتابه غاية الأماني في الرد على النبهاني.