الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولك أن تقارن هذا الواقع قبل الرسالة وبعد ثلاثة وعشرين سنة بعد الرسالة كانت هذه الجزيرة أمة واحدة تحت لواء حاكم واحد وهو خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأصبحت هذه القبائل المتناحرة المتقاتلة من أجل المصالح الشخصية هي نفسها التي تحارب لنشر عدل ورحمة الإسلام في بقاع الأرض واختفت هذه الحروب القبلية البغيضة وحل محلها الجهاد في سبيل الله لإخراج الشعوب المضطهدة من ظلم الواقع إلى عدالة الإسلام ومن العبادة للعباد إلى عبادة رب العباد.
المحور الثاني: الوضع الديني والأخلاقي والاجتماعي
.
كما سبق وأن ذكرنا في التمهيد أن الأديان أصبحت فريسة للعابثين والمتلاعبين، ولعبة للمحرفين والمنافقين، حتى فقدت روحها وشكلها، وسنحاول في هذا المحور أن نلقي نظرة على
حالة بعض الملل قديمًا
.
أولًا: اليهودية:
وكانت في أوربا وآسيا وإفريقيا أمة هي أغنى أمم الأرض مادة في الدين، وأقربها فهمًا لمصطلحاته ومعانيه، أولئك هم اليهود، ولكن لم يكونوا عاملًا من عوامل الحضارة والسياسة أو الدين يؤثر في غيرهم، بل قُضي عليهم من قرون طويلة أن يتحكم فيهم غيرهم، وأن يكونوا عرضة للاضطهاد والاستبداد، والنفي والجلاء، والعذاب والبلاء، وقد أورثهم تاريخهم الخاص وما تفردوا به بين أمم الأرض من العبودية الطويلة والاضطهاد الفظيع، والإذلال، والجشع وشهوة المال وتعاطي الربا، أورثهم كل ذلك نفسية غريبة لم توجد في أمة وانفردوا بخصائص خلقية كانت لهم شعارًا على تعاقب الأعصار والأجيال، منها الخنوع عند الضعف، والبطش وسوء السيرة عند الغلبة، والختل والنفاق في عامة الأحوال، والقسوة والأثرة وأكل أموال الناس بالباطل، والصد عن سبيل الله. وقد وصفهم القرآن الكريم وصفًا دقيقًا عميقًا يصور ما كانوا عليه في القرنين السادس والسابع من تدهور خلقي، وانحطاط نفسي، وفساد اجتماعي، عزلوا بذلك عن إمامة الأمم وقيادة العالم.
ثانيًا: المسيحية:
لم تكن المسيحية في يوم من الأيام من التفصيل والوضوح ومعالجة مسائل الإنسان بحيث تقوم عليه حضارة، أو تسير في ضوئه دولة، ولكن كان فيها أثارة من تعليم المسيح، وعليها مسحة من دين التوحيد البسيط، فجاء بولس فطمس نورها، وطعّمها
بخرافات الجاهلية التي انتقل منها، والوثنية التي نشأ عليها، وقضى قسطنطين على البقية الباقية، حتى أصبحت النصرانية مزيجًا من الخرافات اليونانية والوثنية الرومية والأفلاطونية المصرية والرهبانية، اضمحلت في جنبها تعليم المسيح البسيطة كما تتلاشى القطرة من اليم، وعادت نسيجًا خشبيًا من معتقدات وتقاليد لا تغذي الروح، ولا تمد العقل ولا تشعل العاطفة، ولا تحل معضلات الحياة، ولا تنير السبيل، بل أصبحت بزيادات المحرفين، وتأويل الجاهلين، تحول بين الإنسان والعلم والفكر، وأصبحت على تعاقب العصور ديانة وثنية، يقول (sale) مترجم القرآن إلى الانكليزية عن نصارى القرن السادس الميلادي: وأسرف المسيحيون في عبادة القديسين والصور المسيحية حتى فاقوا في ذلك الكاثوليك في هذا العصر، وثارت حول الديانة في هذه الفترة حرب أهلية بين رعايا النصرانية، وانقسموا إلى فريقين الملكانية والمنوفيسية؛ أو نصارى الشام والدولة الرومية وبين نصارى مصر، فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح، وكان المنوفيسيون يعتقدون أن المسيح له طبيعة واحدة، وهي الإلهية التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية، كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له، وقد اشتد الخلاف بين الفريقين، حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين، أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى، كل طائفة تقول للأخرى: إنها ليست على شيء (1).
وأما الحال الاجتماعي والاقتصادي فقد بلغ الانحلال الاجتماعي غايته في الدولة الرومية والشرقية، وعلى كثرة مصائب الرعية ازدادت الإتاوات، وتضاعفت الضرائب. حتى أصبح أهل البلاد يتذمرون من الحكومات. ويمقتونها مقتًا شديدًا، ويفضلون عليها كل حكومة أجنبية. وذابت أسس الفضيلة، وانهارت دعائم الأخلاق، حتى صار الناس يفضلون العزوبة على الحياة الزوجية ليقضوا مآربهم في حرية. وكان العدل كما يقول (سيل) يباع ويساوم مثل السلع. وكانت الرشوة والخيانة تنالان من الأمة التشجيع.
يقول جيبون: وفي آخر القرن السادس وصلت الدولة في ترديها وهبوطها إلى آخر
(1) ماذا خسر العالم (ص 42 - 43) بتصرف.