الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي: هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلام هو الحق الذي في أعلى رتب الصدق، لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك ولأمتك أن قص عليكم ما قص من أخبار الأنبياء عليهم السلام، {فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} أي: الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك، وفي هذه الآية وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الأدلة على أنه حق وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها، فإنّه يجب أن يجزم بأن كل ما عارضه فهو باطل، وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة، سواء قدر العبد على حلها أم لا فلا يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه، لأن ما خالف الحق فهو باطل، قال تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَال} وبهذه القاعدة تنحل عن الإنسان إشكالات كثيرة يوردها المتكلمون ويرتبها المنطقيون، إن حلها الإنسان فهو تبرع منه، وإلا فوظيفته أن يبين الحق بأدلته ويدعو إليه.
الدليل التاسع عشر: يثبت أن عيسى من الأنبياء الذين أوحى الله إليهم
. قال تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا} [النساء: 163]. ووجه الاستدلال من الآية: أنه لما ذكر عيسى عليه السلام بين هؤلاء الرسل دل على أنه من جنس هؤلاء الرسل، فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين، فدعوته دعوتهم، وأخلاقهم متفقة، ومصدرهم واحد، وغايتهم واحدة. وهو كقوله تعالى:{وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 85] وقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [الأحزاب: 7]. وقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13].
الدليل العشرون: يذكر أن عيسى عليه السلام جاء على آثار من سبقه من الرسل:
قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا
عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46)} [المائدة: 46]. فقوله: {وَقَفَّيْنَا} أي: أتبعنا، أي جعلنا عيسى ابن مريم يقفوا آثارهم، أي آثار النبيين الذين أسلموا من بني إسرائيل، يقال قفيته مثل عقبته إذا اتبعته {عَلَى آثَارِهِمْ} يعني: أنبياء بني إسرائيل {بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: مؤمنًا بها حاكمًا بما فيها {وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} أي: هدى إلى الحق، ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات، {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} أي: متبعًا لها، غير مخالف لما فيها، إلا في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه، كما قال تعالى إخبارًا عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل:{وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عمران: 50]؛ ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بَعْضَ أحكام التوراة. وقوله: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أي: وجعلنا الإنجيل {وَهُدًى} يهتدى به، {وَمَوْعِظَةٌ} أي: وزاجرًا عن ارتكاب المحارم والمآثم {لِلْمُتَّقِينَ} أي: لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه.
وقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قُرئ {وَلْيَحْكُمْ} بالنصب على أن اللام لام كي، أي: وآتيناه الإنجيل {فِيهِ هُدًى وَنُورٌ} ليحكم أهل ملته به في زمانهم. وقرئ: {وَلْيَحْكُمْ} بالجزم اللام لام الأمر، أي: ليؤمنوا بجميع ما فيه، وليقيموا ما أمروا به فيه، ومما فيه البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم ولأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد، كما قال تعالى:{قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 68]، وقال هاهنا:{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الخارجون عن طاعة ربهم، المائلون إلى الباطل، التاركون للحق. (1)
(1) تفسير ابن كثير 2/ 90.