الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاستدلال بالآيات الكونية وغيرها على وجود الله سبحانه وتعالى
.
وهذا من أعظم الأدلة فائدةً، وأسهلها طريقةً، وأسرعها نتيجةً، وأسلمها وأبعدها عن الخطأ.
ولذلك لما سئل بعض الأعراب عن وجود الرب تبارك وتعالى؟ فقال: يا سبحان الله، إن البعرة لتدل على البعير، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج؟ ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟
وقال أبو نواس وقد سئل عن ذلك:
تأمل في نبات الأرض وانظر
…
إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لُجين شاخصات
…
بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات
…
بأن الله ليس له شريك
وقال آخر:
سل الواحة الخضراء والماء جاريا
…
وهذي الصحاري والجبال الرواسيا
سل الروض مزدانًا سل الزهر والندى
…
سل الليل والإصباح والطير شاديا
وسل هذه الآنام والأرض والسما
…
وسل كل شيء تسمع الحمد ساريا
فلو جن هذا الليل وامتد سرمدًا
…
فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيًا
وأول سورة نزلت في القرآن ذكرت هذا حيث يقول سبحانه: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)} (العلق: 1 - 2). فذكر الخلق مطلقًا ومقيدًا؛ ليذكر أن هذا الخلق لابد له من خالق، وهذا ما يسميه دليل الخلق والآيات في هذا المعنى كثيرة.
قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)} (الطارق: 5 - 6).
وقال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)} (الغاشية 17: 20).
وقال تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35)} (الطور: 35).
وقال تعالى: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)} (النمل: 64)(1).
الركن الثاني: الإيمان بالملائكة.
الإيمان بالملائكة أصل من أصول الاعتقاد، لا يتم الإيمان إلا به، والملائكة عالم من عوالم الغيب التي امتدح الله بها المؤمنين تصديقًا لخبر الله سبحانه وإخبار رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهي أجسام لطيفة أعطيت قدرة على التشكل بأشكال مختلفة ومسكنها السموات، وخلقهم الله من النور فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"خُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُور"(2).
ولهم أجنحة كما قال الله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)} (فاطر: 1).
ولا يأكلون ولا يشربون. ويدل على هذا قصة الملائكة مع إبراهيم عليه السلام لما جاؤوا إليه في صورة بشر، فقدَّم لهم الطعام، فلم تمتد أيديهم إليه، فأوجس منهم خيفة قال تعالى:{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالوا سَلَامًا قَال سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَال أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28)} (الذاريات: 24 - 28).
ولا يملون ولا يتعبون من عبادة الله. لقوله تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)} (الأنيياء: 20).
فهم دائبون في العمل ليلًا ونهارًا، مطيعون قصدًا وعملًا، قادرون عليه (3).
وأعدادهم كثيرة لا يعلمه إلا الله. لقوله صلى الله عليه وسلم: "أَطَّتْ السَّمَاءُ وَحَقَّ لهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيْهَا مَوْضِعُ
(1) تفسير ابن كثير (1/ 59)، وعقيدة المسلمين للبليهي (1/ 125)، وتلبس إبليس (1/ 174)، والملل والنحل (3/ 79)، والإيمان لعبد المجيد الزنداني (ص 22)، ودرء تعارض العقل مع النقل (7/ 305).
(2)
مسلم (2996).
(3)
تفسير ابن كثير (9/ 396).
أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ" (1).
وحديث النبي صلى الله عليه وسلم في وصف البيت المعمور "هَذَا الْبَيْتُ المُعْمُورُ يُصَلِّي فِيهِ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، إِذَا خَرَجُوا لَمْ يَعُودُوا إِلَيْهِ آخِرَ مَا عَلَيْهِمْ". (2)
ولهم أعمال موكلون بها. وقد دل الكتاب والسنة على أصناف الملائكة، وأنها موكلة بأصناف المخلوقات، وأنه سبحانه وكل بالجبال ملائكة، ووكل بالسحاب والمطر ملائكة، ووكل بالرحم ملائكة تدبر أمر النطفة حتى يتم خلقها، ثم وكل بالعبد ملائكة لحفظ ما يعمله وإحصائه وكتابته، ووكل بالموت ملائكة، ووكل بالسؤال في القبر ملائكة، ووكل بالأفلاك ملائكة يحركونها، ووكل بالشمس والقمر ملائكة، ووكل بالنار وإيقادها وتعذيب أهلها وعمارتها ملائكة، ووكل بالجنة وعمارتها وغرسها وعمل آلاتها ملائكة، فالملائكة أعظم جنود الله، ولهم علاقة طيبة بالصالحين من بني آدم. وأما مع غيرهم فهي علاقة بغض وشدة.
وإليك بعض هذه الصور الطيبة للعلاقة الصالحة:
1 -
استغفارهم للصالحين: قال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} (غافر: 7)، وقال تعالى:{وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5]، وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"صَلَاةُ الرَّجُلِ فِي جَمَاعَةٍ تَزِيدُ عَلَى صَلَاتِهِ فِي بَيْتِهِ وَصَلَاِتهِ فِي سُوقِهِ بِضْعًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً ..... "، وفيه "وَالْمَلَائِكَةُ يُصَلُّونَ عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ يَقُولُونَ اللهمَّ ارْحَمْهُ اللهمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ تُبْ عليهِ مَا لَمْ يُؤْذِ فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ"(3).
2 -
شفاعتهم للموحدين عند الله: قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26](النجم: 26)، وفي حديث أبي سعيد الخدري
(1) أحمد (5/ 173)، الترمذي (2312)، وغيرهما. وصححه الألباني في الصحيحة (1722).
(2)
البخاري (3207)، مسلم (162).
(3)
البخاري (477)، مسلم (649) واللفظ له.
عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث الرؤية الطويل وفيه "
…
فيشفع النبيون والملائكة والمؤمنون" (1).
3 -
محبتهم للمؤمنين: كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا أَحَبَّ الله الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جبرِيلُ فَيُنَادِي جبرِيلُ فِي أَهْلِ المَاءِ إِنَّ الله يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ"(2).
4 -
وهم يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} (الأحزاب: 56).
5 -
التأمين على دعاء المؤمنين: وبهذا يكون الدعاء أقرب إلي الله تعالى. لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم. ففي حديث أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَنْ دَعَا لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ قَال المُلَكُ المُوَكَّلُ بِهِ آمِينَ وَلَكَ بِمِثْلٍ"(3).
وهذا قليل من كثير من أعمال الملائكة وخصوصًا مع المؤمنين وإلا فالأعمال كثيرة.
ولذا فإن واجب المؤمن تجاه الملائكة هو عدم إيذاء الملائكة والبعد عن كل ما يؤذي الملائكة من الذنوب والمعاصي وموالاة الملائكة كلهم.
الركن الثالث: الإيمان بالكتب.
وهذا هو الركن الثالث من أركان الإيمان ومعناه: أنَّ تؤمن بما سمى الله من كتبه في كتابه، من التوراة، والإنجيل، والزبور، وتؤمن بأن لله سوى ذلك كتبا أنزلها على أنبيائه، لا يعرف أسماءها وعددها إلا الذي أنزلها، وتؤمن بالفرقان. (4) قال تعالى:{قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)} (البقرة: 136).
ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأنها كلام الله عز وجل كلام غيره وأن الله تعالى تكلم بها حقيقة
(1) البخاري (7439)، مسلم (183).
(2)
البخاري (3209)، مسلم (2637).
(3)
مسلم (2733، 2732).
(4)
تعظيم قدر الصلاة (1/ 393)، شرح الطحاوية (312).
كما شاء وعلى الوجه الذي أراد، فمنها المسموع منه من وراء حجاب بدون واسطة، ومنها ما يسمعه الرسولُ الملكي ويأمره بتبليغه منه إلى الرسول البشري، ومنها ما خطه الله بيده عز وجل.
ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأن جميعها يصدق بعضها بعضًا لا يكذبه.
ومن الإيمان بالكتب الإيمان بأن نسخ الكتب الأولى بعضها ببعض حق كما نسخ بعض شرائع التوارة بالإنجيل، وكما نسخ كثير من شرائع التوراة والإنجيل بالقرآن.
ونؤمنُ بأن القرآن لا يأتي كتاب بعده ولا مغير ولا مبدِّل لشيء من شرائعه بعده، وأنه ليس لأحدٍ الخروج عن شيء من أحكامه، وأن من كذب بشيء منه من الأمم الأولى فقد كذب بكتابه، كما أن من كذب بما أخبر عنه القرآن من الكتب فقد كذب به، وأن من اتبع غير سبيله ولم يقتف أثره ضل.
وأخيرًا نقول: إن الإيمان بكتب الله عز وجل يجب إجمالًا فيما أجمل وتفصيلًا فيما فصل كما قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285).
فقد سمى الله تعالى من كتبه التوراة على موسى والإنجيل على عيسى والزبور على داود والقرآن على محمد، صلى الله عليه وسلم وذكر صحف إبراهيم وموسى، وقد أخبر تعالى عن التنزيل على رسله مجملًا في قوله:{وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]. (1)
الركن الرابع: الإيمان بالرسل
إن الإيمان بالرسل أصل من أصول الإيمان، ومن لم يؤمن بالرسل ضلَّ ضلالًا بعيدًا، قال تعالى:{قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)} (آل عمران: 84).
(1) معارج القبول (2/ 673 - 675) باختصار.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا} (النساء: 136)، ومن شعب الإيمان: الإيمان برسل الله عز وجل صلى الله عليهم أجمعين وسلم لقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} (البقرة: 285).
ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في سؤال جبريل عليه السلام له عن الإيمان: "الْإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَاِئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ". (1)
ويجب الإيمان بجميع الرسل، والكفر برسول واحد هو كفرٌ بجميع الرسل، قال تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105)} (الشعراء: 105). وقال تعالى: ({كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123)} [الشعراء: 123]. وقال تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141)} (الشعراء: 141). وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160)} (الشعراء: 160).
ومن هاهنا تعلم اضطرار العباد فوق كل ضرورة إلى معرفة الرسول وما جاء به وتصديقه فيما أخبر به وطاعته فيما أمر، فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين فسد قلبك وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال بل أعظم ولكن لا يحس بهذا إلا قلب حي.
وإذا كانت سعادة العبد في الدارين معلَّقة بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجب على كل من نصح
(1) مسلم (8).
نفسه وأحب نجاتها وسعادتها أن يعرف من هديه وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل به في عداد أتباعه وشيعته وحزبه، والناس في هذا بين مستقل ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم (1).
الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر.
إن الإيمان باليوم الآخر هو الركن الخامس من أركان الإيمان وعمود من أعمدة هذا الإيمان. وهو الاعتقاد الجازم الذي لا يدخله شكٌّ ولا ريب بكل ما أخبر به الله عز وجل كتابه العزيز، أو جاء على لسان نبينا محمد صلى الله عليه وسلم عن ذلك اليوم، وما يحدث فيه بما في ذلك من الساعة وعلاماتها، والقبر ونعيمه وعذابه، والصراط ومحنته، والصحف وتطايرها، والميزان وانتصابه، والجنة ونعيمها، والنار وعذابها.
ومعناه التصديق بأن لأيام الدنيا آخرًا أي أن هذه الدنيا منقضية، وهذا العالم منقض.
وفي الاعتراف بانقضائه اعتراف بابتدائه لأن القديم لا يفنى ولا يتغير، وفي اعتقاده وانشراح الصدر به ما يبعث على فضل الرهبة من الله عز وجل، وقلة الركون إلى الدينا والتهاون بأحزانها ومصائبها، والصبر عليها وعلى مضض الشهوات احتسابًا وثقةً بما عند الله عز وجل عنها من حسن الجزاء والثواب (2).
قال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (البقرة: 177)، وقال صلى الله عليه وسلم في تعريف الإيمان:"أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلَاِئكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَتُؤْمنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" والإيمان باليوم الآخر يتضمن الإيمان بأشراط الساعة وهي علاماتها الدالة عليها والمقدمة إليها، والإيمان بالموت وما يعقبه من غيبيات. حتى يصل فريق إلى الجَنَّة وفريق إلى السعير (3).
الركن السادس: الإيمان بالقدر:
(1) زاد المعاد (1/ 69).
(2)
فتاوى ابن تيمية (7/ 313)، وشعب الإيمان للبيهقي (1/ 235).
(3)
الاعتقاد للبيهقي (ص 269).
الإيمان بالقدر أصل من أصول الإيمان التي لا يتم الإيمان إلا بها، قال تعالى:{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)} (القمر: 49). والآيات في ذلك كثيرة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان: "أَنْ تُؤْمنَ بِاللهِ، وَمَلَائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ"(1)، فمن السنة اللازمة التي من ترك منها خصلة لم يقبلها ولم يؤمن بها لم يكن من أهلها. الإيمان بالقدر خيره وشره والتصديق بالأحاديث فيه، والإيمان بها لا يقال كيف ولا لم؛ إنما هو التصديق والإيمان بها، ومن لم يعرف تفسير الحديث ولم يبلغه عقله فقد كفى ذلك وأحكم له، فعليه الإيمان به والتسليم (2). ويقول أهل السنة والجماعة إن الخير والشر والحلو والمر، بقضاء من الله عز وجل، أمضاه وقدره، لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا إلا ما شاء الله، وإنهم فقراء إلى الله عز وجل، لا غنى لهم عنه في كل وقت (3). عَنْ طَاوُس أَنَّهُ قَال أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُونَ كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، قَال: وَسَمِعْتُ عَبْدَ الله بْنَ عُمَرَ يَقُولُ قَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيْء بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ أَوْ الْكَيْسِ وَالْعَجْزِ"(4). واعلم أن مذهب أهل الحق إثبات القدر ومعناه: أنَّ الله تبارك وتعالى قدر الأشياء في القدم، وعلم الله أنَّها ستقع في أوقات معلومة عنده - وتعالى - وعلى صفات مخصوصة فهي تقع على حسب ما قدرها سبحانه وتعالى (5).
ومراتب القضاء أربعة من لم يؤمن بها لم يؤمن بالقضاء والقدر:
المرتبة الأولى: علم الرب سبحانه بالأشياء قبل كونها.
المرتبة الثانية: كتابته له قبل كونها.
(1) مسلم (8).
(2)
أصول السنة للإمام أحمد (17).
(3)
اعتقاد أئمة الحديث للإسماعيلي (61). وانظر: أيضًا مجموع فتاوى ابن تيمية (7/ 313)، ومختصر شعب الإيمان (24).
(4)
مسلم (2655).
(5)
شرح مسلم للنووي (1/ 190).