الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القرطبي رحمه الله: وقد جاءنا على لسان من دلت المعجزة بصدقه أن الله تعالى إذا حشر الخلائق في صعيد واحد يعني يوم القيامة فيقال للنصارى: ما كنتم تعبدون فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله فيقول لهم: كذبتم ما اتخذ الله من صاحبه ولا ولد، ثم يقال لهم: ألا تردون فيحشرون إلى جهنم كأنها سراب يحطم بعضها بعضًا. فالله الله أدرك بقية نفسك قبل حلول رمسك، واستعمل سديد عقلك، ولا تعول على تقليد فاسد نقلك، واتبع الدين القويم دين الأب إبراهيم فما كان يهوديًّا ولا نصرانيًّا، ولكن كان حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين فالله يعلم أني انظر إليك وإلى كافّة خلق الله بعين الرحمة، وأسأله هداية من ضل من هذة الأمة وأتأسف على الأباطيل التي ينتحلون فإنا لله وإنا إليه راجعون. (1)
وإن ما ذكر عنهم في هذا الحديث، هو حال كل صاحب باطل؛ فإنّه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كاسمه باطل فإذا كان الاعتقاد غير مطابق، ولا حق كان متعلقه باطلًا، وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة كالعمل لغير الله، أو على غير أمره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبًا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع فلهذا قال تعالى ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب فهذا مثل الضَّال الذي يحسب أنه على هدى. (2)
الدليل التاسع: وفيه بشرى لكل مسلم بصفة عامة، ولكل نصراني دخل في الإسلام بصفة خاصة، وفيه أن عيسى عبد الله ورسوله:
عن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل من أي أبواب الجنة الثمانية شاء". (3)
(1) الإعلام بما في دين النصارى من الفساد والأوهام (101).
(2)
التفسير القيِّم لابن القيِّم (2/ 60).
(3)
البخاري (3252)، ومسلم (28).
قال النووي رحمه الله: هذا حديث عظيم الموقع، وهو أجمع أو من أجمع الأحاديث المشتملة على العقائد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم جمع فيه ما يخرج عن جميع ملل الكفر على اختلاف عقائدهم وتباعدهم، فاختصر صلى الله عليه وسلم في هذه الأحرف ما يباين به جميعهم وسمى عيسى عليه السلام كلمة لأنه كان بكلمة كن فحسب من غير أب، بخلاف غيره من بني آدم. قال الهروي: سمى كلمة لأنه كان عن الكلمة فسمى بها كما يقال للمطر رحمة، قال الهروي: وقوله تعالى {وَرُوحٌ مِنْهُ} أي رحمة قال: وقال ابن عرفة: أي ليس من أب إنما نفخ في أمه الروح، وقال غيره: وروح منه أي مخلوقة من عنده، وعلى هذا يكون إضافتها إليه إضافة تشريف كناقة الله، وبيت الله وإلا فالعالم له عز وجل ومن عنده. (1)
وقال ابن حجر: قال القرطبي: مقصود هذا الحديث التنبيه على ما وقع للنصارى من الضلال في عيسى، وأمه ويستفاد منه ما يلقنه النصراني إذا أسلم. وقال غيره: في ذكر عيسى تعريض بالنصارى وإيذان بأن إيمانهم مع قولهم بالتثليث شرك محض، وكذا قوله: عبده، وفي ذكر رسوله تعريض باليهود في إنكارهم رسالته، وقذفه بما هو منزه عنه وكذا أمه وفي قوله وابن أمته تشريف له وكذا تسميته بالروح ووصفه بأنه منه كقوله تعالى وسخر لكم ما في الأرض جميعًا منه فالمعنى أنه كائن منه كما أن معنى الآية الأخرى أنه سخر هذه الأشياء كائنة منه أي أنه مكون كل ذلك وموجده بقدرته وحكمته، وقوله: وكلمته إشارة إلى أنه حجة الله على عباده أبدعه من غير أب، وأنطقه في غير أوانه، وأحيى الموتى على يده، وقيل: سمي كلمة الله لأنه أوجده بقوله: فلما كان بكلامه سمي به كما يقال سيف الله وأسد الله وقيل لما قال في صغره إني عبد الله، وأما تسميته بالروح فلما كان أقدره عليه من إحياء الموتى، وقيل: لكونه ذا روح وجد من غير جزء من ذي روح. (2) ومن فوائد هذا الحديث عدم الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان، فقوله: "وأن عيسى عبد
(1) شرح مسلم للنووي (1/ 236).
(2)
فتح الباري 6/ 475.