الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أمرنا، وأوحينا، وأهلكنا، ودمرنا، مع نظائر لهذه كثيرة" (1) فحجتهم أن الله تكلم عن نفسه في القرآن بصيغة الجمع ومن ثم زعموا أن ذلك دليل على أن عيسى عليه السلام واحد من الذين تدل عليهم الضمائر المذكورة، وأن هذا الجمع إنما هو ثلاثة، وزعموا بذلك أن القرآن يدل على ألوهية المسيح عليه السلام.
أما الادعاء الثاني
، فهو: أن المسيح عليه السلام روح من الله بجعل (من) للتبعيض؛ إذ يرونه إلهًا من إله، وكلمة الله التي تجسدت - بزعمهم - وصارت إنسانًا أي أن كلمة الله هي عيسى عليه السلام، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذا الزعم. يقول عبد المسيح الكندي - مخاطبا عبد الله الهاشمي:(فافهم كيف أوجب (يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم وقد كذب عليه في ذلك) أن الله تبارك وتعالى ذو كلمة وروح، وصرح بأن المسيح كلمة الله تجسدت وصارت إنسانًا) (2).
أما الادعاء الثالث
، فهو زعمهم أن المعجزات التي أيد الله بها عيسى عليه السلام التي ذكرت في القرآن تدل على ألوهية عيسى عليه السلام ولا سيما إحياء الموتى. وقد كان وفد نصارى نجران الذين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم (يحتجون في قولهم (عن عيسى بأنه) هو الله بأنه كان يحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا) أي بالمعجزات التي أيد الله بها عيسى عليه السلام والتي ذكرت في القرآن.
الرد على هذه الشبهات
يدور الرد في محورين: الأول مجمل، والثاني مفصل.
الأول: المجمل، ويتكون من وجهين:
الأول: أن هذه العقيدة خالفت أصول الأنبياء في تقديس الله ووصفه بصفات الكمال، فكيف يدل عليها القرآن؟ وإليك التفصيل:
الأول: إن الله سبحانه وتعالى، هو الأول الواحد الأحد، لا شريك له في ملكه، ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ولا شافع إلا من بعد إذنه.
الثاني: أنه غنى بذاته فلا بأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه.
(1)"رسالة عبد المسيح الكندي إلى الهاشمي يرد بها عليه ويدعوه إلى النصرانية" صـ (38).
(2)
"رسالة عبد المسيح إلى الهاشمي يرد بها عليه ويدعوه إلى النصرانية" ص (42).
الثالث: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات، من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك.
الرابع: أنه لا يماثل شيئًا من مخلوقاته، بل ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. ومما يبين ذلك قوله تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)} (سورة الإخلاص). فهذه السورة متضمنة لتوحيد الاعتقاد والمعرفة، وما يجب إثباته للرب تعالى من الأحدية المنافية لمطلق المشاركة بوجه من الوجوه، والصمدية المثبتة له جميع صفات الكمال، التي لا يلحقها نقص بوجه من الوجوه، ونفي الولد والوالد، الذي هو من لوازم الصمدية وغناه وأحديته، ونفي الكفء المتضمن لنفي التشبيه والتمثيل والتنظير. فتضمنت هذه السورة إثبات كل كمال له، ونفي كل نقص عنه، ونفى إثبات شبيه أو مثيل له في كماله، ونفي مطلق الشريك عنه. وهذه الأصول هي مجامع التوحيد العلمي الاعتقادي الذي يباين صاحبه جميع فرق الضلال والشرك؛ ولذلك كانت تعدل ثلث القرآن؛ فإن القرآن مداره على الخبر والإنشاء، والإنشاء ثلاثة: أمر ونهي وإباحة، والخبر نوعان: خبر عن الخالق تعالى وأسمائه وصفاته وأحكامه، وخبر عن خلقه فأخلصت سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الخبر عنه، وعن أسمائه وصفاته؛ فعدلت ثلث القرآن، وخلصت قارئها المؤمن بها من الشرك العلمي، كما خلصت سورة {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} من الشرك العملي الإرادي القصدي (1).
الخامس: أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته، ولا يحل في ذاته منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السادس: أنه أعظم من كل شيء منها، بل هو بائن عن خلقه بذاته، والخلق بائنون عنه.
السابع: أنه أعظم من كل شيء، وأكبر من كل شيء، وفوق كل شيء وعال على كل شيء وليس فوقه شيء البتة.
(1) زاد المعاد (1/ 298).
فنحن نتبع طريقة المتبعين للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فما اعتقدوه اعتقدناه، فما اعتقدوه أن الأحاديث التي تثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في العرش واستواء الله علي يقولون بها ويثبتونها من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه وأن الله بائن عن خلقه والخلق بائنون منه لا يحل فيهم ولا يمتزج بهم وهو مستو على عرشه في سماواته من دون أرضه. وقال أبو أحمد الكرخي:(كان ربنا وحده ولا شيء معه ولا مكان يحويه فخلق كل شيء بقدرته وخلق العرش لا لحاجته إليه فاستوى على استواء استقرار كيف شاء وأراد لا استقرار راحة كما يستريح الخلق وهو يدبر السماوات والأرض ويدبر ما فيهما ومن في البر والبحر لا مدبر غيره ولا حافظ سواه يرزقهم ويمرضهم ويعافيهم ويميتهم والخلق كلهم عاجزون: الملائكة والنبيون والمرسلون وسائر الخلق أجمعين وهو القادر بقدرة والعلم بعلم أزلي غير مستفاد وهو السميع بسمع والبصير ببصر تعرف صفتهما من نفسه لا يبلغ كنهها أحد من خلقه متكلم بكلام يخرج منه لا بآلة مخلوق كآلة المخلوقين لا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به نبيه صلى الله عليه وسلم وكل صفة وصف بها نفسه أو وصف بها نبيه فهي صفة حقيقية لا صفة مجاز. (1)
الثامن: أنه قادر على كل شيء، فلا يعجزه شيء يريده، بل هو الفعال لما يريد.
التاسع: أنه عالم بكل شيء، يعلم السر وأخفى، ويعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن، لو كان كيف كان يكون، {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ} [الأنعام: 59] ولا متحرك إلا وهو يعلمه على حقيقته.
العاشر: أنه سميع بصير، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات، وبصره بجميع المبصرات، وعلمه بجميع المعلومات، وقدرته بجميع المقدورات، ونفذت مشيئته في جميع البريات، وعمت رحمته جميع المخلوقات،
(1) درء التعارض بين العقل والنقل 3/ 228.
ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب، ولا يستخلف أحدًا على تدبير ملكه، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده، أو يعاونه عليها، أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم.
الثاني عشر: أنه المتكلم الآمر الناهي، قائل الحق، وهادي السبيل، ومرسل الرسل ومنزل الكتب والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر، ومجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
الثالث: أنه الصادق في وعده وخبره، فلا أصدق منه قيلًا، ولا أصدق منه حديثًا، وهو لا يخلف الميعاد.
الرابع عشر: أنه تعالى صمد بجميع الصمدية، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته.
الخامس عشر: أنه قدوس سلام، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السدس عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
السابع عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم، ولا يخاف عباده منه ظلمًا.
فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه، ولا يخبر نبي بخلافه أصلًا، فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله، وتمسكوا بالمتشابهة من المعاني والمجمل من الألفاظ، وأقوال من ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل.
وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله أشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة (1).
والأدلة على هذا الفصل قد سبقت في هذا البحث؛ فلا نطيل بذكرها ثانية، والسؤال الآن هل في المسيح شيء من هذه الصفات في ضوء ما سبق بيانه في هذا البحث؟ والجواب: لا. فقل ما شئت في طائفة أصل عقيدتها أن الله ثالث ثلاثة، وأن مريم صاحبته، وأن المسيح ابنه، وأنه نزل عن كرسي عظمته، والتحم ببطن الصاحبة، وجرى له ما جرى
(1) هداية الحيارى (159).