الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك اليوم" (1).
الدليل التاسع:
وفيه أن عيسى عليه السلام ينطق في المهد؛ بأنه عبد جعله الله نبيًّا، وأخبر سبحانه وتعالى أن أول كلمة نطق بها المسيح وهو في المهد -هي الإقرار بعبوديته لله-.
قال تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَال إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)} ، ثم قال:{وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} (مريم 29 - 36).
قال الفخر الرازي: اعلم أنه وصف نفسه بصفات تسع: الصفة الأولى: قوله: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وفيه فوائد: الفائدة الأولى: أن الكلام منه في ذلك الوقت كان سببًا للوهم الذي ذهبت إليه إلنصارى، فلا جرم أول ما تكلم إنما تكلم بما يرفع ذلك الوهم فقال:{إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ} وكان ذلك الكلام وإن كان موهمًا من حيث إنه صدر عنه في تلك الحالة، ولكن ذلك الوهم يزول ولا يبقى من حيث إنه تنصيص على العبودية.
الفائدة الثانية: أنه لما أقر بالعبودية؛ فإن كان صادقًا في مقاله؛ فقد حصل الغرض، وإن كان كاذبًا لم تكن القوة قوة إلهية، بل قوة شيطانية فعلى التقديرين يبطل كونه إلهًا.
الفائدة الثالثة: أن الذي اشتدت الحاجة إليه في ذلك الوقت، إنما هو نفي تهمة الزنا عن مريم عليها السلام، ثم إن عيسى عليه السلام لم ينص على ذلك، وإنما نص على إثبات عبودية نفسه، كأنه جعل إزالة التهمة عن الله تعالى أولى من إزالة التهمة عن الأم، فلهذا أول ما تكلم إنما تكلم بها.
الفائدة الرابعة: وهي أن التكلم بإزالة هذه التهمة عن الله تعالى، يفيد إزالة التهمة عن الأم؛ لأن الله سبحانه لا يخص الفاجرة بولد في هذه الدرجة العالية والمرتبة العظيمة.
(1) تفسير السعدي لسورة الزخرف آية (58 - 61).
وأما التكلم بإزالة التهمة عن الأم، لا يفيد إزالة التهمة عن الله تعالى، فكان الاشتغال بذلك أولى، فهذا مجموع ما في هذا اللفظ من الفوائد.
واعلم أن مذهب النصارى متخبط جدًّا، وقد اتفقوا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا متحيز، ومع ذلك فإنا نذكر تقسيمًا حاصرًا يبطل مذهبهم على جميع الوجوه فنقول:
1 -
إما أن يعتقدوا كونه متحيزًا أو لا.
2 -
فإن اعتقدوا كونه متحيزًا في مكان، أبطلنا قولهم بإقامة الدلالة على حدوث الأجسام المتحيزة في الأمكنة، وحينئذ يبطل كل ما فرعوا عليه.
3 -
وإن اعتقدوا أنه ليس بمتحيز، يبطل ما يقوله بعضهم من أن الكلمة اختلطت بالناسوت اختلاط الماء بالخمر وامتزاج النار بالفحم؛ لأن ذلك لا يعقل إلا في الأجسام المتحيزة فإذا لم يكن جسمًا استحال ذلك.
ثم نقول للناس قولان في الإنسان:
1 -
منهم من قال: إنه هو هذه البنية أو جسم موجود في داخلها.
2 -
ومنهم من يقول: إنه جوهر مجرد عن الجسمية والحلول في الأجسام فنقول لهؤلاء النصارى:
1 -
إما أن يعتقدوا أن الله، أو صفة من صفاته اتحد ببدن المسيح أو بنفسه.
2 -
أو يعتقدوا أن الله، أو صفة من صفاته حل في بدن المسيح أو في نفسه.
3 -
أو يقولوا: لا نقول بالاتحاد ولا بالحلول، ولكن نقول: إنه تعالى أعطاه القدرة على خلق الأجسام والحياة والقدرة وكان لهذا السبب إلهًا.
4 -
أو لا يقولوا بشيء من ذلك ولكن قالوا: إنه على سبيل التشريف اتخذه ابنًا كما اتخذ إبراهيم على سبيل التشريف خليلًا، فهذه هي الوجوه المعقولة في هذا الباب، والكل باطل.
أما القول الأول بالاتحاد فهو باطل قطعًا، لأن الشيئين إذا اتحدا فهما حال الاتحاد، إما أن يكونا موجودين أو معدومين أو يكون أحدهما موجودًا والآخر معدومًا.
1 -
فإن كانا موجودين فهما اثنان لا واحد فالاتحاد باطل.
2 -
وإن عدما وحصل ثالث فهو أيضًا لا يكون اتحادًا بل يكون قولًا بعدم ذينك الشيئين، وحصول ثالث.
3 -
وإن بقي أحدهما وعدم الآخر فالمعدوم يستحيل أن يتحد بالجود لأنه يستحيل أن يقال المعدوم بعينه هو الموجود فظهر من هذا البرهان الباهر أن الاتحاد محال.
وأما العلول فلنا فيه مقامان:
الأول: أن التصديق مسبوق بالتصور فلا بد من البحث عن ماهية الحلول حتى يمكننا أن نعلم أنه هل يصح على الله تعالى أو لا يصح وذكروا للحلول تفسيرات ثلاثة:
أحدها: كون الشيء في غيره ككون ماء الورد في الورد والدهن في السمسم والنار في الفحم، واعلم أن هذا باطل لأن هذا إنما يصح لو كان الله تعالى جسمًا متحيزًا وهم قائلون بأنه ليس بجسم.
وثانيها: حصوله في الشيء على مثال حصول اللون في الجسم فنقول: المعقول من هذه التبعية حصول اللون في ذلك الحيز تبعًا لحصول محله فيه، وهذا أيضًا إنما يعقل في حق الأجسام المتحيزة لا في حق الله تعالى.
وثالثها: حصوله في الشيء على مثال حصول الصفات الإضافية للذوات فنقول: هذا أيضًا باطل لأن العقول من هذه التبعية الاحتياج فلو كان الله تعالى في شيء بهذا المعنى لكان محتاجًا فكان ممكنًا فكان مفتقرًا إلى المؤثر، وذلك محال، وإذا ثبت أنه لا يمكن تفسير هذا الحلول بمعنى ملخص يمكن إثباته في حق الله تعالى امتنع إثباته.
المقام الثاني: احتج الأصحاب على نفي الحلول مطلقًا بأن قالوا: لو حل لحل، إما مع وجوب أن يحل أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان، فالقول بالحلول باطل.
وإنما قلنا: إنه لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يعل:
1 -
لأن ذلك يقتضي إما حدوث الله تعالى أو قدم المحل وكلاهما باطلان، لأنا دللنا على أن الله قديم. وعلى أن الجسم محدث.
2 -
ولأنه لو حل مع وجوب أن يحل لكان محتاجًا إلى المحل والمحتاج إلى الغير ممكن
لذاته لا يكون واجبًا لذاته. (1)
ثم قال الرازي رحمه الله: ولنا في إبطال قول النصارى وجوه أخر.
أحدها: أنهم وافقونا على أن ذاته سبحانه وتعالى لم تحل في ناسوت عيسى عليه السلام بل قالوا الكلمة حلت فيه، والمراد من الكلمة العلم. فنقول: العلم لما حل في عيسى ففي تلك الحالة إما أن يقال إنه بقي في ذات الله تعالى أو ما بقي فيها.
1 -
فإن كان الأول لزم حصول الصفة الواحدة في محلين. وذلك غير معقول، ولأنه لو جاز أن يقال العلم الحاصل في ذات عيسى عليه السلام هو العلم الحاصل في ذات الله تعالى بعينه، فلم لا يجوز في حق كل واحد ذلك حتى يكون العلم الحاصل لكل واحد هو العلم الحاصل لذات الله تعالى.
2 -
وإن كان الثاني لزم أن يقال: إن الله تعالى لم يبق عالمًا بعد حلول علمه في عيسى عليه السلام وذلك مما لا يقوله عاقل.
وثانيها: أنا نقول دلالة أحوال عيسى على العبودية أقوى من دلالتها على الربوبية لأنه كان مجتهدًا في العبادة والعبادة لا تليق إلا بالعبيد فإنه كان في نهاية البعد عن الدنيا والاحتراز عن أهلها حتى قالت النصارى: إن اليهود قتلوه ومن كان في الضعف هكذا فكيف تليق به الربوبية.
وثالثها: المسيح إما أن يكون قديمًا أو محدثًا والقول بقدمه باطل لأنا نعلم بالضرورة أنه ولد وكان طفلًا ثم صار شابًا وكان يأكل ويشرب ويعرض له ما يعرض لسائر البشر، وإن كان محدثًا كان مخلوقًا ولا معنى للعبودية إلا ذلك، فإن قيل: المعنى بإلهيته أنه حلت صفة الآلهية فيه، قلنا: هب أنه كان كذلك لكن الحال هو صفة الإله والمسيح هو المحل والمحل محدث مخلوق فما هو المسيح {إِلَّا} عبد محدث فكيف يمكن وصفه بالإلهية.
أما الاحتمال الثالث: وهو أن يقال معنى كونه إلهًا أنه سبحانه خص نفسه أو بدنه
(1) تفسير الرازي (مريم: 30).