الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتقليلها، وتقديم خير الخيرين على أدناهما حسب الإمكان، ودفع شر الشرين بخيرهما. فهدم صوامع النصارى وبيعهم فساد إذا هدمها المجوس والمشركون، وأما إذا هدمها المسلمون وجعلوا أماكنها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا فهذا خير وصلاح.
وهذه الآية ذكرت في سياق الإذن للمسلمين بالجهاد بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)} (الحج: 39)، وهذه الآية أول آية نزلت في الجهاد ولهذا قال:{الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} .
ثم قال: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} فيدفع بالمؤمنين الكفار، ويدفع شر الطائفتين بخيرهما كما دفع المجوس بالروم النصارى، ثم دفع النصارى بالمؤمنين أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كما قال تعالى في سورة البقرة:{وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالمِينَ} (البقرة: 251)(1).
الوجه الثاني: التقديم في اللفظ فإنه يكون للانتقال من الأدنى إلى الأعلى:
قال القرافي: إن هذه الآية تقتضي أن المساجد أفضل بيت عند الله تعالى، على عكس ما قالوه وتقريره أن الصنف القليل المنزلة عند الله تعالى أقرب إلى الهلاك من العظيم المنزلة، والقاعدة العربية أن الترقي في الخطاب إلى الأعلى فالأعلى أبدًا في المدح والذم، والتفخيم والامتنان، فيقال في المدح: الشجاع البطل، ولا يقال: البطل الشجاع؛ لأنك تعد راجعًا عن الأول، وفي الذم: العاصي الفاسق، ولا يقال: الفاسق العاصي، وفي التفخيم: فلان يغلب المائة والألف، ولايقال: فلان يغلب الألف والمائة، والسر في الجميع أنك تعد راجعًا عن الأول، كقهقرتك عما كنت فيه إلى ما هو أدنى منه، إذا تقرر ذلك ظهرت فضيلة المساجد ومزيد شرفها على غيرها، وأن هدمها أعظم من هدم غيرها، لا يوصل إليه إلا بعد تجاوز ما يقتضي هدم غيرها، كما نقول: لولا السلطان لهلك الصبيان والرجال
(1) الجواب الصحيح 1/ 239: 240، وانظر: تفسير الرازي 23/ 40.
والأمراء، فترتقي أبدًا للأعلى لتفخيم أمر عدم السلطان، وأن وجوده سبب عصمة هذه الطوائف، أما لو قلت: لولا السلطان لهلك الأبطال والصبيان لعُد كلامك متهافتًا. (1)
قال ابن تيمية: وأما التقديم في اللفظ فإنه يكون للانتقال من الأدنى إلى الأعلى كقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)} (الأعراف: 33)، وقوله:{يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36)} (عبس: 34 - 36)، وقوله:{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} (الذاريات: 1 - 4)، ونظائره متعددة، وكذلك في قوله تعالى:{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (الحج: 40).
فبين سبحانه أنه لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت مواضع العبادات، وهدمها فساد إذا هدمها من لا يبدلها بخير منها، وأدناها هي الصوامع فإن الصومعة تكون لواحد أو لطائفة قليلة فبدأ بأدنى المعابد وختم بأشرفها وهي المساجد التي يذكر فيها اسم الله كثيرًا، ففي الجملة حكم هذه المعابد حكم أهلها، وأهلها قبل النسخ والتبديل مؤمنون مسلمون، وهدم معابد المؤمنين المسلمين فساد، وبعد النسخ والتبديل إذا غلب أهل الكتاب من هو شر منهم كالمجوس والمشركين وهدموا معابدهم كان ذلك فسادا، وإذا هدمها من هو خير منهم كأمة محمد وأبدلوها مساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولا يشرك به ويذكر فيها الإيمان بجميع كتبه ورسله كان ذلك صلاحا لا فسادا، ولهذا أمر النبي أن يتخذ المساجد مواضع معابد الكفار كما كان لثقيف أهل الطائف معبد يعبدون فيه اللات التي قال الله فيها:{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)} (النجم: 19).
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهدم ذلك المعبد ويتخذ مكانه المسجد الذي يعبد الله وحده فيه؛ فإن المساجد هي بيوت الله في الأرض قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ
(1) الأجوبة الفاخرة (87: 88).