الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لنص قانون الإيمان المسيحي:
تلك هي عبارة دستور إيمان النصارى بالمسيح بحروفها، وهي -كما نرى- صريحة في النص على إلهية المسيح وأنه إله حق غير مخلوق -أي أزلي بلا بداية- وأنه مساو للآب في جوهريته: أي في ألوهيته. وعليه فدستور الإيمان هذا، حسب ظاهره، يؤدي للقول بتعدد الآلهة، باعتباره يثبت الغيرية بين الآب (الله) والابن (المسيح) من جهة، مع تأكيده بنفس الوقت على إلهية كل منهما وتساويههما في الألوهية.
إذن صار عندنا إلهان اثنان! وهذا يتناقض بظاهره مع إيمان المسيحية القاطع بوحدانية الله، لذا لا بد من تفصيل تلك العقيدة المجملة، وبيان شرح مختلف فرق النصارى لها، لتتضح حقيقة ما يعتقده النصارى حول المسيح وعلاقته بالله عز وجل حسبما جاء في كتب عقائدهم وتقريرات لاهوتييهم.
ثانيًا: شرح موجز العقيدة:
يعتقد الجمهور الأعظم من النصارى أن الله تعالى واحد ذو أقانيم ثلاث، والأقنوم لفظة يونانية تعني الشخص، وهذه الأقانيم أو الأشخاص الثلاث هي:
1 -
شخص الآب، وهو الخالق لكل شيء والمالك والضابط للكل.
2 -
وشخص ابنه، المولود منه أزلًا المساوي لأبيه في الألوهية والربوبية لأنه منه.
3 -
وشخص الروح القدس، وهذه الأقانيم الثلاثة متحدة في الجوهر والإرادة والمشيئة، إلا أن هذا لا يعني أنها شخص واحد بل هم أشخاص ثلاثة، كل واحد منهم إله كامل في ذاته غير الآخر، فالاب إله كامل، والابن إله كامل غير الآب، وروح القدس أيضًا إله كامل غير الآب والابن، ولكن مجموع الثلاثة لا يشكل ثلاث آلهة -كما هو مقتضى الحساب! - بل يشكل إلهًا واحدًا، ويعترفون أن هذا لا سبيل لفهمه وإدراكه بالعقل ويسمونه "سرّ التثليث".
ثم يعتقدون أن الأقنوم الثاني لله، أي أقنوم الابن
، هو الذي تجسد وصار إنسانًا حقيقيًّا،
بكل ما في الإنسانية من معنى، وهو المسيح المولود من مريم العذراء، فالمسيح في اعتقادهم إله إنسان، أي هو بشر حقيقي مثلنا تمامًا تعرض له جميع أعراض الضعف والاحتياج البشرية، وهو في عين الحال إله قادر كامل الألوهية، ويسمون هذا بسر التجسد.
وهكذا، فالمسيح، حسب تفسير قانون الإيمان المسيحي الذي تقرر في مجمع خلقيدونية سنة 451 م.، هو شخص واحد ذو طبيعتين، طبيعة إنسانية (ناسوت) وطبيعة إلهية (لاهوت) فهو إله بشر.
ونتيجة هذه العقيدة أن يكون عيسى المسيح عليه السلام في نظرهم -شخص واحد هو خالق وهو نفسه مخلوق، رازق ومرزوق، قديم وحادث! معبود وعابد، كامل العلم وناقصه، غني ومحتاج!
…
إلخ.
ولو كانت هذه الصفات المتناقضة لشخصين اثنين اتحدا بمظهر واحد لكان هناك مجال لفهم ما يقولون، لكن الذي يعسر على العقل فهمه بل يستحيل فهمه وقبوله عقلًا هو أن تكون هذه الصفات لشخص واحد وذات واحدة؛ لأن هذا بمثابة أن نقول أن هذا الشكل مربع ودائرة بنفس الوقت، أو موجود ومعدوم بنفس الوقت؟ ! لكن على أي حال الكنيسة الغربية تؤمن بذلك وتقر بأن هذا لا سبيل للعقل البشري القاصر أن يفهمه ويدركه ولذلك تعتبره سرًّا من أسرار الله وتسميه، كما قلنا، بـ "سر التجسد". (1)
(1) ما ذكر أعلى كان عقيدة جمهور المسيحيين أي: الروم الكاثوليك (اللاتين) أو الكنيسة الغربية التي رئاستها في روما، والروم الأرثوذكس، أي الكنيسة الشرقية اليونانية الأورثوذكسية التي رئاستها في القسطنطينية (والتي انفصلت عن الكنيسة الغربية عام 879 م.)، والبروتستانت بفرقهم المخلفة من أنجليكان ولوثريين وإنجيليين وغيرهم
…
الذين خرجوا من بطن الكنيستين السابقتين في القرن السادس عشر الميلادي وما تلاه، لكن هناك طائفتين قديمتين من النصارى لم تعترفا أبدًا بقرار مجمع خلقيدونية المذكور، الذي نص على أن المسيح شخص واحد في طبيعتين، وهما: النساطرة أتباع نسطوريوس واليعاقبة أتباع يعقوب البرادعي.
أما النساطرة -وهم أقلية قليلة العدد تتوطن حاليًا شمال غرب إيران وجنوب شرق تركيا وشمال العراق وعدد من المناطق الأخرى ويسمون كذلك بالآشوريين- فهم يميزون في المسيح بين شخصين: شخص =
وهذا هو مذهب جمهورهم خلافًا للنسطورية واليعقوبية كما هو مبين في الحاشية والحاصل أن جميع الفرق المسيحية تتفق على أن المسيح بشرٌ وإلهٌ بنفس الوقت! وإنما تختلف عن بعضها في مدى تأكيدها وإبرازها لأحد الجانبين الإلهية أو البشرية في المسيح، فاليعاقبة يؤكدون الجانب الإلهي أكثر، وعلى عكسهم النساطرة الذين يبرزون أكثر الجانب البشري في حين يطرح الجمهور الأعظم رؤية متوازية ومتعادلة للجانبين الإلهي والبشري
= عيسى البشر المولود من مريم العذراء الذي هو إنسان بشر محض، وشخص الله الابن، أو ابن الله الذي هو إله كامل، المتحد بعيسى الإنسان، حسب زعمهم، فالذي ولد من مريم العذراء هو عيسى الإنسان وليس الله، ولذلك رفضوا قبول عبارة "مريم والدة الله"، كما أن الذي صُلِبَ -في اعتقادهم- وتألم ومات، لم يكن الله الابن، بل عيسى الإنسان البشر، والحاصل أن المسيح في اعتقادهم شخصيتان متمايزتان لكل شخصية طبيعتها الخاصة: البشرية المحضة لعيسى الناصري المولود من مريم العذراء، والإلهية المحضة لابن الله المتحد بعيسى في اعتقادهم. وعلى النقيض من ذلك تمامًا الطائفة الأخرى وهم اليعاقبة، الذين يرون أن عيسى المسيح شخص واحد فقط، لا شخصان، وليس هذا فحسب، بل هذا الشخص الواحد ذو طبيعة واحدة أيضًا، ولذلك يُسمَّوْن أيضًا بالمونوفيزيين، أي القائلون بالطبيعة الواحدة للمسيح، فاعتقادهم هو أن: أقنوم الابن من الله تجسد من روح القدس ومريم العذراء فصيَّر هذا الجسد معه واحدًا وحدة ذاتية جوهرية، أي صار الله (الابن) المتجسد، طبيعة واحدة من أصل طبيعتين، ومشيئة واحدة وشخضا واحدًا. وبعبارة أخرى: المركز المسيّر والطبيعة الحقيقية لعيسى المسيح الذي ولد من مريم هي الألوهية المحضة، فهو الله عينه، أما بشريته فهي مجرد لباس فانٍ في إلهيته. فلذلك الله تعالى عندهم هو بذاته الذي وُلِدَ من مريم العذراء، لذا فهي والدة الله، والله نفسه هو الذي عُذِّب وتألم وصلب ومات! ثم قام بعد ثلاثة أيام من قبره حيًّا -تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا- وفي هؤلاء جاء قوله تعالى:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (المائدة: 17)، وقوله سبحانه كذلك:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَال الْمَسِيحُ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} (المائدة: 72).
وبهذا المذهب اليعقوبي تدين الكنيسة القبطية في مصر وكنيسة الحبشة التابعة لها، كما هو مذهب السريان الأرثوذكس في بلاد الشام، ومذهب الكنيسة الأرمنية الغريغورية. أما مذهب الجمهور الأعظم فهو الذي قال الله تعالى في شأنه:{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (المائدة: 73).
دون ترجيح أي منهما على الآخر. وبهذا نكون قد عرفنا عقيدة مختلف الفرق النصرانية بإلهية المسيح وكيفية تفسيرهم لهذه العقيدة (1).
(1) وبعد هذا العرض الموجز لعقيدتهم في المسيح يتوارد علينا سؤال مهم ألا وهو: هل آمن جميع المسيحيين دون خلاف بهذه العقيدة؟
إن ما سبق عرضه لا يعني أن الموحدين انتهوا تمامًا، بل إن التاريخ والوثائق تثبت أنه وجدت ولا تزال، في كل عصر من عصور تاريخ المسيحية وحتى يومنا هذا، أعداد غير قليلة من علماء النصارى وعامتهم ممن أنكر تأليه المسيح ورفض عقيدة التجسد والتثليث مؤكدًا تفرد الله الآب وحده بالألوهية والربوبية والأزلية، وأن المسيح مهما علا شأنه يبقى حادثًا مخلوقًا، هذا وقد حظي أولئك الأساقفة أو البطارقة الموحدون بآلاف بل عشرات آلاف الأتباع والمقلدين، وليس ههنا مجال لذكر واستقصاء أسماء كل من نقله التاريخ لنا من أولئك الموحدين الأعلام، ومن رام الاطلاع المفصَّل على ذلك فعليه بالكتاب القيم المسمى:"عيسى يبشِّر بالإسلام" للبروفيسور الهندي الدكتور محمد عطاء الرحيم، والذي ترجمه إلى العربية الدكتور (الأردني) فهمي الشما، فقد ذكر فيه مؤلفه الفرق النصرانية الموحدة القديمة وتحدث في فصل كامل عن أعلام الموحدين في النصرانية، كاد يستوعب فيها أسماءهم وتراجمهم وكتاباتهم ودلائلهم على التوحيد وأحوالهم وما لاقوه من اضطهاد ومحاربة في سبيل عقيدتهم، ونكتفي هنا بإشارة لمريعة لأسماء أشهر الفرق والشخصيات النصرانية الموحدة البارزة عبر التاريخ: فقد ذكرت المراجع التاريخية النصرانية، التي تتحدث عن تاريخ الكنيسة، أسماء عدة فرق قي القرون المسيحية الثلاثة الأولى كانت تنكر التثليث والتجسد وتأليه المسيح وهي: فرقة الأبيونيين، وفرقة الكارينثيانيين، وفرقة الباسيليديين وفرقة الكاربوقراطيين، فرقة الهيبسيستاريين، وفرقة الغنوصيين. وأما أشهر القساوسة والشخصيات المسيحية الموحدة القديمة التي تذكرها تلك المصادر فهي:
1 -
ديودوروس أسقف طرطوس.
2 -
بولس الشمشاطي، وكان بطريركا في أنطاكية ووافقه على مذهبه التوحيدي الخالص كثيرون وعرفوا بالفرقة البوليقانية.
3 -
الأسقف لوسيان الأنطاكي أستاذ آريوس (توفي سنة 312 م).
4 -
آريوس أسقف كنيسة بوكاليس في الإسكندرية (250 - 336 م).
5 -
يوزيبيوس النيقوميدي أسقف بيروت ثم نقل لنيقوميديا عاصمة الإمبراطورية الشرقية، وكان من أتباع لوسيان الأنطاكي ومن أصدقاء آريوس. أما أشهر الموحدين من رجال الدين والمفكرين المسيحيين المتأخرين فهم:
1 -
الطبيب الأسباني ميخائيل سيرفيتوس 1151).
2 -
القسيس الروماني فرانسيس ديفيد 1510). Francis David 1579
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= 3 - اللاهوتي الإيطالي فاوستو باولو سوزيني 1539). Fausto Paolo Sozini 1604)
4 -
الأستاذ المحقق البريطاني جون بيدل 1615). John Biddle 1662).
5 -
القسيس البريطاني توماس إيملين 1663). Thomas Emlyn 1741)
6 -
القسيس البريطاني ثيوفيلوس ليندسي 1723). Theophilos Lindsy 1808)
7 -
القسيس والعالم البريطاني جوزيف بريستلي 1733). Joseph Priestly 1804)
8 -
القسيس الأمريكي ويليام إيليري تشانينغ 1780). William Ellery Channing 18420)
9 -
البروفيسور البريطاني المعاصر جون هيك John Hick أستاذ اللاهوت في جامعة برمنجهام وصاحب الكتاب الممتاز " The Myth of God Incarnate" أي: أسطورة الله المتجسد، الذي ترجم للعربية ولعدة لغات عالمية، ويضم مقالات له وللفيف من كبار الأساتذة والدكاترة في اللاهوت ومقارنة الأديان في جامعات بريطانيا، محورها جميعا ما أشار إليه البروفيسور هيك نفسه في مقدمة كتابه ذاك حيث قال ما نصه:
The Writers of thisbook are convinced that major thelogical
development is from in called for in this last part of the Twentiet Century . The need
arises from growing knowledge of Christian origins and involves a
A man approved" (recognition that Jesus was (as he is presented in Acts 2021
and that the laterfor a special role within Divine purpose "by God
The Second Person of the Holy Trinity conception of him as God Incarnate
is a mythological or poetic way of expressing his living a human life
significance for us .
وترجمته: [إن كُتَّاب هذا الكتاب مقتنعين بأن هناك، في هذا الجزء الأخير من القرن العشرين، حاجة ماسة لتطور عقائدي كبير آخر. هذه الحاجة أوجدتها المعرفة المتزايدة لأصول المسيحية، تلك المعرفة التي أصبحت تستلزم الاعتراف بعيسى أنه كان (كما يصفه سفر أعمال الرسل: 2/ 21): "رجل أيده الله" لأداء دور خاص ضمن الهدف الإلهي، وأن المفهوم المتأخر عن عيسى والذي صار يعتبره "الله المتجسد والشخص الثاني من الثالوث المقدس الذي عاش حياة إنسانية" ليس في الواقع إلا طريقة تعبير أسطورية وشعرية عما يعنيه عيسى المسيح بالنسبة إلينا.
وأخيرًا فإن المتتبع لمؤلفات المحققين الغربيين المعاصرين حول تاريخ المسيحية وتاريخ الأديان والمطالع لما تذكره دوائر المعارف البريطانية والأمريكية الشهيرة حول المسيح وتاريخ تطور العقيدة النصرانية والأناجيل، يجد أن الغالبية العظمى من هؤلاء المفكرين والكتَّاب العصريين لا تماري ولا ترتاب في كون غالب العقائد المعقدة للكنيسة النصرانية، لا سيما التثليث والتجسد والكفارة والأقانيم، ما هي إلا تعبيرات فلسفية بعدية =