الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومثل هذا كثير، وذلك أنه لما أنزل قوله:{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة: 2)، ونحو ذلك، لم يكن الكتاب المشار إليه قد أنزل تلك الساعة، وإنما كان قد أنزل قبل ذلك فصار كالغائب الذي يشار إليه كما يشار إلى الغائب وهو باعتبار حضوره عند النبي يشار إليه كما يشار إلى الحاضر كما قال تعالى:{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} (الأنبياء: 50)(1).
الوجه الثالث: الآية نفسها ترد عليهم
.
وقد قال تعالى: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} (البقرة: 2 - 4).
قال ابن تيمية: وقد وصف النصارى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر وأنهم كافرون ظالمون، فكيف يجعلهم المتقين الذين يؤمنون بالغيب؟ .
قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)} (التوبة: 29)، وأول التقوى تقوى الشرك وقد وصف النصارى بالشرك في قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)} (التوبة: 31)، وقال تعالى لما ذكر المسيح:{فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38)} (مريم: 37، 38).
وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} (المائدة: 72).
وقد أخبر أن الله ولي المتقين فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ
(1) الجواب الصحيح 1/ 263: 264.
وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19)} (الجائية: 18، 19)، فلو كانوا من المتقين فضلًا عن أن يكونوا هم المتقين؛ لكان الله وليهم ولكانت موالاتهم واجبة على المؤمنين، وهو قد نهى عن موالاتهم وجعل من يتولاهم ظالمًا وجعل المؤمنين بعضهم أولياء بعض والكفار بعضهم أولياء بعض، وأيضًا فإن الله عز وجل قال:{الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} (البقرة: 3)، وهي الصلاة التي أمر بها في قوله:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)} (الإسراء: 78)، وقد قال صلى الله عليه وسلم:"لا يقبل الله صلاة بغير طهور"، والنصارى يصلون بغير طهور، وقال صلى الله عليه وسلم:"لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب" وهم لا يقرؤونها، والصلاة التي فرضها وأثنى عليها مشتملة على استقبال الكعبة وعلى ركوع وسجدتين في كل ركعة، وغير ذلك مما لا يفعله النصارى، فكيف يمدحهم بإقامة الصلاة وهم لا يقيمون الصلاة التي أمر بإقامتها؟ .
ثم لو قال اليهودي المراد بقوله: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} التوراة {لِلْمُتَّقِينَ} اليهود. لكان هذا - مع بطلانه - أقرب من قول القائل: إن المراد بالكتاب الإنجيل؛ لأن التوراة أحق بذلك من الإنجيل فإنها الأصل والله تعالى يقرن بينها وبين القرآن في غير موضع كقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} (هود: 17)، وقوله تعالى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)} (الأحقاف: 10)، وأما قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} (البقرة: 4).
فهي صفة ثانية للذين يؤمنون بالغيب مجملا ثم وصفهم بإيمان مفصلًا بما أنزل إليك وما أنزل من قبله، والعطف بالواو يكون لتغاير الذوات ويكون لتغاير الصفات كقوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5)} (الأعلى: 1 - 5)، والذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى وهو
الذي أخرج المرعى. وكذلك قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12)} (الزخرف 9: 12).
ومثله قوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)} (المؤمنون 1 - 11)، فهم صنف واحد وصفهم بهذه الصفات بحرف الواو.
وقد فسر قبل قوله: يؤمنون بالغيب صفة المؤمنين من غير أهل الكتاب كمشركي العرب، والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك صفة من آمن به من أهل الكتاب، وعلى هذا القول هؤلاء غير هؤلاء لكن هذا ضعيف؛ فإنه لا بد في المؤمنين من غير أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أنزل إليه وما أنزل من قبله، ولا بد في مؤمن أهل الكتاب أن يؤمن بالغيب فكل من الإيمانين واجب على كل واحد، ولا يكون أحد على هدًى من ربه مفلحا إلا بهذا وهذا.
وأما قول النصارى: نحن الذين آمنا بالسيد المسيح وما رأيناه، فهكذا اليهود آمنوا بموسى عليه السلام وما رأوه، والمسلمون آمنوا بمحمد وما رأوه، بل المسلمون آمنوا بموسى وعيسى وسائر النبيين وما رأوهم بخلاف اليهود والنصارى الذين آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ثم الغيب ليس المراد به صورة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن صورة النبي ليست من الغيب فإن الناس يرونها وليس في رؤيتها ما يوجب إيمانًا ولا كفرًا، ولكن الغيب ما غاب عن مشاهدة الخلق وهو ما أخبرت به الأنبياء من الغيب فيدخل فيه الإيمان بالله وملائكته