الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمنصرين، في أن ضمائر الجمع المسندة لله سبحانه وتعالى في القرآن تدل على ألوهية عيسى عليه السلام بزعم دلالتها على التثليث، وإنما هو أسلوب من أساليب التعظيم أولى به الخالق سبحانه وتعالى من كل مخلوق، واستخدامه جرى على لسان العرب كثيرًا حتى النصارى - كما مر - وهو إلى اليوم معهود غير مستغرب سواء في مخاطبات الملوك أو غيرهم.
الوجه الثالث: قولهم بأن عيسى روح من الله؛ بجعل من للتبعيض، كما سبق بيانه في عرض شبهتم. والنصوص في هذا على قسمين:
القسم الأول: فالجواب على شبهتم فيه من وجوه:
أولًا: زعم الكندي أن القرآن "صرح بأن المسيح كلمة الله تجسدت وصارت إنسانًا". فهو يشير إلى معتقد النصارى المعروف، وهو أن عيسى هو الكلمة، والكلمة هي الله فعيسى هو الله - تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرا - وهذا صريح في إنجيل يوحنا كما مر سابقًا، ويسبة هذا الكفر إلى القرآن بهتان عظيم وكذب صريح على القرآن المحفوظ كما أنزل، فليأت النصارى بنص يدل على هذا المعنى الباطل. إنما الذي في القرآن {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59]. فمن الواضح أن عيسى مخلوق ليس هو الكلمة (كن) وإنما بها كان، وسمي بكلمة الله؛ لأنه بها خُلق وليس له أب.
ثانيًا: أن قوله كلمة الله؛ المراد بها عيسى نفسه، فلا ريب أن المصدر يعبر به عن المفعول به في لغة العرب، كقولهم: هذا درهم ضرب الأمير، ومنه قوله: هذا خلق الله، ومنه تسمية المأمور به أمرا، والمقدور قدرة، والمرحوم به رحمة، والمخلوق بالكلمة كلمة، لكن هذا اللفظ إنما يستعمل مع ما يقترن به مما يبين المراد كقوله:{إِذْ قَالتِ الْمَلَائِكَةُ يَامَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)} [آل عمران: 45] فبين أن الكلمة هو المسيح، ومعلوم أن المسيح نفسه، ليس هو الكلام. {قَالتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَال كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)} [آل عمران: 47]، فبين لما تعجبت من الولد، أنه سبحانه يخلق ما يشاء إذا قضى أمرًا فإنما يقول
له كن فيكون؛ فدل ذلك على أن هذا الولد مما يخلقه الله بقوله كن فيكون (1).
ثالثًا: آية سورة النساء - السابق ذكرها (171) - تكفي وحدها للرد على ادعاءات النصارى واستنتاجاتهم المزعومة من خلال قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} أو {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} أو ما يشاكل ذلك من الآيات.
فالآية تدل على أمور منها:
(1)
نهي النصارى عن الغلو في دينهم وتحذيرهم؛ بأن لا يقولوا على الله سبحانه وتعالى إلا الحق ومن أول ذلك: عدم الغلو في المسيح فهو ليس إلا رسول الله سبحانه وتعالى وعبد من عبيده.
(2)
نسبت الآية عيسى نسبًا بشريًا بينًا إلى أمه مريم ابنة عمران عليهما السلام.
(3)
حذر الله النصارى عن أن يقولوا بالتثليث، ومنه إدخال عيسى واحدًا من الثلاثة المزعومين باعتباره أنه إله منهم.
(4)
أوضحت الآية على سبيل الحصر أن الله سبحانه وتعالى ليس إلا إلهًا واحدًا منزهًا عن أن يكون له ولد، وهذا يرد على ادعائهم أن عيسى ابن الله.
(5)
هذه الآية حجة برهانية قاطعة تثبت بلغة الأرقام أن الله واحد أحد وحدانية لا يشوبها أدنى احتمال للشراكة معه؛ وذلك من خلال نفيها للثلاثة والتثليث وإثباتها في الوقت نفسه أن الله واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد، وليس واحدًا في ثلاثة أو ثلاثة في واحد، مع تحذير النصارى عن القول بالتثليث وتوعدهم على القول به.
(6)
أبانت الآية أن عيسى عليه السلام كلمة الله ألقاها إلى مريم، فما المقصود بأنه كلمة الله؟ أو كلمة منه؟
رابعا: وإليك بعض كلام العلماء في هذا المعنى:
1 -
قال وإليك بعض أحمد رحمه الله: "المعنى في قوله جل ثناؤه: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ
(1) مجموع الفتاوى (20/ 493).
مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} [النساء: 171]. فالكلمة التي ألقاها إلى مريم: حين قال له كن، فكان عيسى بكن وليس عيسى هو كن، ولكن بكن كان. فالكن من الله قول، وليس الكن مخلوقًا. وكذب النصارى والجهمية على الله في أمر عيسى
…
وقلنا نحن إن عيسى بالكلمة كان، وليس عيسى هو الكلمة" (1)
2 -
قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "وأما المسيح فالمراد أن الله خلقه بكلمة لا أنه هو الكلمة لقوله {أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ} ولم يقل ألقاه ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَال لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59].
3 -
قال شاذان بن يحيى: "ليس الكلمة صارت عيسى، ولكن بالكلمة صار عيسى"(2).
4 -
كما يقول ابن كثير -في قوله تعالى- {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} "أي إنما هو عبد من عباد الله، وخلق من خلقه
قال له كن فكن، ورسول من رسله، وكلمته ألقاها إلى مريم، أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عز وجل، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها فنزلت حتى ولجت فرجها بمنزلة لقاح الأب الأم، والجميع مخلوق لله عز وجل؛ ولهذا قيل لعيسى إنه كلمة الله وروح منه؛ لأنه لم يكن له أب تولد منه، وإنما هو ناشئ عن الكلمة التي قال له بها كن فكان والروح التي أرسل بها جبريل".
كما يقول ابن كثر: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)} .: "أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله أي يقول له كن فيكون وهذا تفسير قوله {اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} كما ذكر الجمهور" ويقول ابن جرير: "قال آخرون:
(1) الإمام أحمد بن محمد بن حنبل: "الرد على الجهمية والزنادقة فيما شكوا فيه من متشابه القرآن وتأولوه على غير تأويله" ويليه: كتاب السنة "صححه وعلق عليه إسماعيل الأنصاري، نشر وتوزيع: رئاسة إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ص (43).
(2)
تفسير ابن كثير (1/ 590).
بل هي (أي قوله كلمة منه) اسم لعيسى سماه الله بها كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء". ويروي بإسناده عن قتادة أنه قال: "قوله {بِكَلِمَةٍ مِنْهُ} قال: قوله {كُنْ} فسماه الله عز وجل كلمته؛ لأنه كان عن كلمته". وقال أبو عبيد: "كلمته: كن فكان". وكلمة الله التي قيلت لعيسى في القرآن وسمي بها، هي مضافة إلى الله سبحانه وتعالى، وقد قسم ابن تيمية رحمه الله المضاف إلى الله تعالى إلى قسمين:
إضافة صفات، وإضافة أعيان:"فالصفات إذا أضيفت إليه تعالى، كالعلم والقدرة والكلام والحياة والرضا والغضب ونحو ذلك؛ دلت الإضافة على أنها إضافة وصف له قائم به، ليست مخلوقة؛ لأن الصفة لا تقوم بنفسها، ولابد لها من موصوف تقوم به، فإذا أضيفت إليه، علم أنها صفة له، لكن قد يعبر باسم الصفة عن المفعول بها، فيسمى المقدور قدرة، والمخلوق بالكلمة كلامًا، والمعلوم علمًا، والمرحوم به رحمة". فعيسى عليه السلام ليس هو عين الكلمة، وإنما قيل له كلمة الله؟ لأنه خلق بالكلمة ولم يكن له أب تولد منه وإنما هو ناشئ ومخلوق عن الكلمة: كن.
فالأعيان التي خلقها الله قائمة بأنفسها، وصفاتها القائمة بها تمتنع أن تكون صفات لله، فإضافتها إليه تتضمن كونها مخلوقة مملوكة، لكن أضيفت لنوع من الاختصاص المقتضي للإضافة، لا لكونها صفة، والروح الذي هو جبريل من هذا الباب، كما أن الكعبة والناقة من هذا الباب، ومال الله من هذا الباب، وروح بنى آدم من هذا، وذلك كقوله {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} ، وقوله {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} ، وقوله {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} وقوله {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} . (1)
خامسًا: أن الإضافة من حيث اللغة "نسبة بين اسمين". ويشترط فيها أن" لا يضاف الاسم إلى مرادفه فلا يقال: حيث أسدٍ". بينما يزعم النصارى أن: عيسى هو الكلمة، وأن الكلمة هي الله؛ مما يعني تبعا لذلك: أن اسم عيسى ولفظ الجلالة (الله)
(1) مجموع الفتاوى (17/ 151) والجواب الصحيح (2/ 158).