الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس: الحقوق الإسلامية
المطلب الأول: مقدمة عامة عن الحقوق ومزايا هذا الدين الإسلامي
.
إن قضية "الحقوق"، أشغلت العالم اليوم بجميع أممه ودوله ولا تزال، وهي قضية كبرى، جديرة بالبحث والدراسة، من وجهة النظر الشرعية الإسلامية، ذلك أن تسلط العالم الغربي، وفرض هيمنته الفكرية والإعلامية على كثير من دول العالم، وبخاصة العالم العربي والإسلامي، أدى إلى ضياع المفهوم الإسلامي لهذه القضية وغيرها، وأوجد انطباعًا لدى الناس بأنه لا طريق لنيل الحقوق إلا من خلال التبعية المقيتة لذلك العالم الغربي، والدخول طوعًا أوكرهًا ضمن أحلافه ومنظوماته، وتحمّل أصناف المهانة، من أجل الحصول على هذه الحقوق.
لقد أصل الدين الإسلامي قضية الحقوق تأصيلًا شرعيًا متكاملًا، يتبين من خلال هذا الأمر أن مفهوم "الحقوق" يتضمن أربعة أمور أساسية هي: النص الشرعي، والقواعد أو المبادئ، وتنظيم العلاقات، والوجوب أو الإلزام، وبتطبيق هذه الأسس على ما جاء من آيات الحقوق في القرآن الكريم، نجد أن مفهوم "الحقوق" في القرآن، يشتمل على هذه الأمور نفسها، ولنأخذ مثالًا لذلك، آيات الحقوق في آخر سورة الأنعام، قال تعالى:{قُلْ تَعَالوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَال الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 151 - 153].
وتطبيق الأسس الأربعة على النحو الآتي:
1) النص الشرعي: وهو هذه الآيات القرآنية الجامعة.
2) القواعد والمبادئ التي تتضمنها النصوص: فالآيات تتضمن حقوقًا كثيرة منها: حق الله، حق الوالدين، حق الحياة، حق اليتيم، حق الذمي وغير ذلك مما بينته الآيات.
3) تنظيم علاقات الناس: فهذه القواعد جاءت لضبط حياة الناس في علاقة بعضهم ببعض، فهي تنظم علاقة الفرد بوالديه وأولاده وسائر فئات المجتمع، بل حتى مع المخالف في الدين، فله حق الوفاء بالعهد ونحوه.
4) الوجوب والإلزام في تطبيق هذه المبادئ: فهذه المطالب جاءت بصيغة الأمر من الله تعالى، وهو في الأصل يقتضي الوجوب كما قرره أهل العلم، إضافة إلى أن الآيات الثلاث تضمنت في خاتمة كل واحدة منها؛ تأكيد الوجوب بقوله تعالى:{ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} : أي أمركم به وأوجبه عليكم.
قال ابن كثير: يقول تعالى: هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه. (1)
كما أن هذه الحقوق هي واجبات شرعية ملزمة، فهي عبادات يؤجر على فعلها، ويحاسب على تضييعها، وهي تنظم في مجموعها علاقات الناس ومعاملاتهم وحياتهم الاجتماعية، فأصحاب هذه الحقوق هم فئات مختلفة من المجتمع مثل: الآباء والأمهات، الأيتام، الجيران، الأبناء، المرأة، وهكذا.
ومن جهة أخرى: ترتبط هذه الحقوق بالضرورات، التي جاءت الشرائع بحفظها، ذلك أن مصالح الناس الدنيوية والأخروية، إنما تكون بحفظ مقاصد الشريعة ومنها هذه الضرورات، فهي من الدين المشترك بين الأنبياء، ويدل على هذا قول الله تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45]، وقوله:{فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَال النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء: 160 - 161]
(1) تفسير ابن كثير 6/ 215.
وفي هذا دلالة واضحة على أن كافة الشرائع، جاءت بحفظ تلك الضرورات، وهي قاعدة عظيمة لحفظ حقوق الأفراد والمجتمعات العامة والخاصة، ففي حفظ الدين مثلًا، إعطاء لحق التدين والعبادة، وفي حفظ النفس منح لحق الإنسان في الحياة، وفي حفظ النسل، تأكيد لحق الإنسان في التزوج، وحفظ المال يتضمن حق الإنسان في التملك والسعي في الأرض وممارسة أنواع المعاملات كالبيع والشراء والشراكة والتجارة، ونحوها، وحفظ العقل فيه حق الحرية في التفكير والتدبر، وهكذا. ومما يؤصل مسألة "الحقوق" في القرآن والسنة، كثرة الفئات التي راعى القرآن والسنة حقوقها، إضافة إلى تعدد أنواع الحقوق، كما سنبين بالتفصيل.
من خلال ما سبق بيانه في مفهوم "الحقوق" وتأصيله في القرآن الكريم، يمكن أن نستشف معالم مهمة، وخصائص مميزة، لمبادئ "الحقوق في الدين الإسلامي" فمن ذلك:
1) أن مصدرها الوحي المتمثل في القرآن والسنة النبوية، فهي منحة ربانية، أوجبها الله للإنسان، فهي ليست من مخلوق لبشر مثله، يمنّ بها عليه متى شاء، أو يمنعها إذا شاء، كلّا، بل هي فرض لازم وحق واجب، من الخالق سبحانه لبني الإنسان. وقد أشارت الآيات إلى هذا في عدة مواضع كما تقدم في مثل قوله تعالى:(ذلكم وصاكم به) وقوله: (فريضة من الله) وقوله: (وقضى ربك) وغيرها.
2) أنها تنبع من التكريم الإلهي للإنسان، الذي أكدته النصوص القرآنية الصريحة الواضحة، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء: 70] وغيرها. ولذا فإن القيام بهذه الحقوق، هو جزء من دين المسلم وعبوديته لله تعالى، وأمر مستقر في فطرة الإنسان التي فطره الله عليها.
3) أنها شاملة لجميع أنواع الحقوق: الاجتماعية، والمالية، والسياسية، والشخصية، وغيرها، كما أنها عامة لكل أصناف المجتمع، ولجميع أفراده، حتى المخالفين منهم، كما تقدم ذكره آنفًا.
4) أنها ثابتة لا تقبل الإلغاء ولا التبديل ولا التغيير، لأنها جزء من الدين، ولأنها فرض من رب العالمين، الذي حفظ دينه عامة، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ