الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلك الأدنى للأعلى منه، وفي شيء يعلم أنه مستطاع للمسؤول، فقرينة الكناية تحقّقُ المسؤول أنّ السائل يعلم استطاعته.
ومنه ما جاء في حديث يحيى المازني "أنّ رجلًا قال لعبد الله بن زيد: أتستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضّأ". فإنّ السائل يعلم أنّ عبد الله بن زيد لا يشقّ عليه ذلك. فليس قول الحواريين المحكي بهذا اللفظ في القرآن إلّا لفظًا من لغتهم يدلّ على التلطّف والتأدّب في السؤال، كما هو مناسب أهل الإيمان الخالص. وليس شكًّا في قدرة الله تعالى ولكنّهم سألوا آية لزيادة اطمئنان قلوبهم بالإيمان بأن ينتقلوا من الدليل العقلي إلى الدليل المحسوس. فإنّ النفوس بالمحسوس آنس. (1)
الدليل الثالث والعشرون: وفيه الرد على النصاري في ادعاء الألوهية والتثليث صراحة
.
وهذا مما يخاطب الله تعالى به عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام قائلًا له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله: {وَإِذْ قَال اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} ، وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد.
وهذا هو أحد الوجهين في الآية، والثَّاني أن هذا السؤال في الدنيا والأول أظهر. (2)
وهذا التوبيخ للنصارى الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، فيقول الله هذا الكلام لعيسى.
فيتبرأ عيسى ويقول: {سُبْحَانَكَ} عن هذا الكلام القبيح، وعمّا لا يليق بك، {مَا
(1) التحرير والتنوير 1/ 1233.
(2)
تفسير ابن كثير (المائدة: 116) بتصرف.
يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: ما ينبغي لي، ولا يليق أن أقول شيئًا ليس من أوصافي ولا من حقوقي، فإنّه ليس أحد من المخلوقين، لا الملائكة المقربون ولا الأنبياء المرسلون ولا غيرهم له حق ولا استحقاق لمقام الإلهية وإنما الجميع عباد مدبرون، وخلق مسخرون، وفقراء عاجزون، {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} فأنت أعلم بما صدر مني و {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} وهذا من كمال أدب المسيح عليه السلام في خطابه لربه، فلم يقل عليه السلام:"لم أقل شيئًا من ذلك" وإنما أخبر بكلام ينفي عن نفسه أن يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف، وأن هذا من الأمور المحالة، ونزه ربه عن ذلك أتم تنزيه، ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل، فقال:{مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} فأنا عبد متبع لأمرك، لا متجرئ على عظمتك، {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} أي: ما أمرتهم إلا بعبادة الله وحده وإخلاص الدين له، المتضمن للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله، وبيان أني عبد مربوب، فكما أنه ربكم فهو ربي.
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} أشهد على من قام بهذا الأمر، ممن لم يقم به. {فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} أي: المطلع على سرائرهم وضمائرهم. {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} علمًا وسمعا وبصرا، فعلمك قد أحاط بالمعلومات، وسمعك بالمسموعات، وبصرك بالمبصرات، فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر. {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم، فلولا أنهم عباد متمردون لم تعذبهم. {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي: فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة، لا كمن يغفر ويعفو عن عجز وعدم قدرة. {الْحَكِيمُ} حيث كان من مقتضى