الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثانيًا: توحيد الألوهية (توحيد العبادة)
.
هو عبادة الله وحده لا شريك له. وأن لا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه. وهو ما أمر به وشرعه على السن رسله - صلوات الله عليهم - فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه، وأن يكون الله ورسوله أحبَّ إلى العبد مما سواهما، فهذا التوحيد - توحيد الألوهية - يتضمن فعل المأمور وترك المحظور. ومن ذلك: الصبر على المقدور، وهذا التوحيد: هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب في الأولى والآخرة. فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين في النار. فإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء (1). ومن معانيه أيضًا تجرِيد محبته والإخلاصِ له، وخوفه ورجاؤه والتوكل عليه والرضى به ربًا وإلهًا ووليًا، وأن لا يجعل له عِدلًا في شيء من الأشياء. وسورة (الكافرون) فيها إيجاب عبادته وحده لا شريك له، والتبري من عبادة كل ما سواه (2).
وهذا التوحيد هو الذي تضمنه قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} ، وقوله تعالى:{رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)} [مريم: 65]. وقوله تعالى: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)} (هود: 88)، وقوله:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)} (الحجر: 99)(3). وهذا التوحيد هو أول الدين وآخره، وباطنه وظاهره، وهو أول دعوة الرسل وآخرها، وهو معنى قول: لا إله إلا الله، فإن الإله هو المألوه المعبود بالمحبة، والخشية والإجلال والتعظيم، وجميع أنواع العبادة، ولأجل هذا التوحيد خُلِقتْ الخليقة، وأُرسلت الرسل وأُنزلت الكتب، وبه افترق الناس إلى مؤمنين وكفار، وسعداء أهل الجَنَّة، وأشقياء أهل النار، قال الله تعالى:{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)} [البقرة: 21]. فهذا أول أمر في القرآن، وقال تعالى:
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (14/ 378 - 380).
(2)
اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم (35، 36).
(3)
تيسير العزيز الحميد (ص 20).
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَال يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 23]. فهذه دعوة أول رسول بعد حدوث الشرك، وقال كل من هود وصالح، وشعيب لقومه:{اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} وهكذا جميع الأنبياء، ولذا قال تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} (الذاريات: 56). وقال هرقل لأبي سفيان لما سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقول لكم؟ قال: يقول: اعبدوا الله، ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم (1). وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ:"إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمِ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ الله. وفي رواية: "أَنْ يُوَحِّدُوا الله". (2). (3) واعلم أن توحيد الإلهية يتضمن توحيد الربوبية. قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30)} إلى قوله: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36)} (الروم: 30 - 36)، وقال صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ". (4)
ولم يقل: ويسلمانه، وفي رواية:"يولد على الملة"(5) وفي أخرى: "على هذه الملة"(6).
وهذا الذي أخبر به صلى الله عليه وسلم هو الذي تشهد الأدلة العقلية بصدقه، فلو أقر رجل بتوحيد الربوبية، وهو مع ذلك لم يعبد الله وحده ويتبرأ من عبادة ما سواه - كان مشركًا من جنس أمثاله من المشركين، والقرآن مملوء من تقرير هذا التوحيد وبيانه وضرب الأمثال له، ومن ذلك أنه يقرر توحيد الربوبية، ويبين أنه لا خالق إلا الله، وأن ذلك مستلزم أن لا يعبد إلا الله، فيجعل الأول دليلًا على الثاني. (7)
(1) البخاري (7).
(2)
البخاري (1458)، والراوية الأخرى في البخاري (7372).
(3)
تيسير العزيز الحميد (20: 21)، شرح الطحاوية (16) بتصرف.
(4)
البخاري (1385)، مسلم (2658)، عن أبي هريرة.
(5)
الترمذي (2138)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (4560).
(6)
مسلم (2658).
(7)
شرح الطحاوية (16 - 19) بتصرف. وانظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (1/ 22، 23)، (3/ 105 - 106).
وهذا التوحيد هو حقيقة دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحدٍ سواه، كما قال النبي:"بُنيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَاِيتَاءِ الزَّكَاة، وَالحَجِّ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ"(1)، فأخبر أن دين الإسلام مبني على هذه الأركان الخمسة وهي الأعمال، فدل على أن الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له، بفعل المأمور، وترك المحظور، والإخلاص في ذلك لله.
وقد تضمن جميع أنواع العبادة، فيجب إخلاصها لله تعالى (2)؛ فهو الذي يستحق أن يستعان به ويتوكل عليه ويستعاذ به ويلتجئ العباد إليه؛ فإنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولا ينفع ذا الجد منه الجد، كما قال تعالى في فاتحة الكتاب:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)} [الفاتحة: 5]. وقال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} (هود: 123). وقال: {قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)} (الرعد: 30)(3).
فلا يتوكل على غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله، والتوكل على غير الله فيما يقدر عليه شرك أصغر (4).
فهذه المعاني كلها صحيحة وهي من صريح التوحيد وجها جاء القرآن، فالعباد لا ينبغي لهم أن يخافوا إلا الله كما قال تعالى:{فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] وقال تعالى: {الَّذِينَ قَال لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173)} إلى قوله: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)} (آل عمران: 173: 175)(5).
(1) البخاري (8)، مسلم (16)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
تيسير العزيز الحميد (23).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 488).
(4)
تيسير العزيز الحميد (24).
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 488).
ولا يخاف خوف السر إلا من الله، ومعنى خوف السر، هو أن يخاف العبد من غير الله تعالى أن يصيبه مكروه بمشيئته وقدرته وإن لم يباشره فهذا شرك أكبر؛ لأنه اعتقاد للنفع والضر في غير الله والله تعالى يقول:{فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} (النحل: 51)، وقال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} (يونس: 107).
وكذلك لا ينبغي أن يرجى إلا الله، قال تعالى:{مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)} (فاطر: 2)، فلا يدعى الأموات أو غيرهم رجاء حصول مطلوب من جهتهم فهذا شرك أكبر، قال تعالى:{إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)} (فاطر: 14) ولا يدعو إلا الله، كما قال تعالى:{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18)} (الجن: 18)، وقال تعالى:{فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213)} " (الشعراء: 213)، سواء أكان دعاء عبادة أو دعاء مسألة (1)، كذلك المحبة فمن أشرك بين الله تعالى وبين غيره في المحبة التي لا تصلح إلا لله فهو مشرك، كما قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} إلى قوله: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} (البقرة: 165: 167).
وكذلك الصلاة والركوع والسجود، قال تعالى:{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)} (الكوثر: 2).
وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} (الحج: 77).
وكذلك الذبح، قال الله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ} (الأنعام: 162 - 163)، وكذلك الطواف، فلا يطاف إلا ببيت الله تعالى، قال تعالى:{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (الحج: 29)، وكذلك التوبة، فلا يتاب إلا إلى
(1) مجموع فتاوى ابن تيمية (2/ 489).