الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} (البقرة: 222).
وأيضًا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لله أَشَدُّ فَرَحًا بِتَوْبَةِ أَحَدِكُمْ مِنْ أَحَدِكمْ بِضَالَّتِهِ إِذَا وَجَدَهَا"(1).
ومن يسر هذا الدين وسعته ورحمته، أن الله تعالى جعل الأعمال الصالحة مكفرات لخطايا بني آدم لقوله تعالى:{إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70)} (الفرقان: 70).
ومن أمثلة هذه الأعمال التي تكفر السيئات:
أ) الوضوء: فإنه يكفر الذنوب والخطايا ما اجتنبت الكبائر لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظْفَارِهِ"(2).
ب) الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة وكذا صوم رمضان فإنها جميعًا تكفر الخطايا لقوله صلى الله عليه وسلم: "الصَّلَوَاتُ الخمْسُ وَالجمْعَةُ إِلَى الجمْعَةِ وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"(3).
ج) أن كل ابتلاء ومصيبة يبتلى بها المسلم فهي كفارة له لقوله صلى الله عليه وسلم: "مَا يُصِيبُ المسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ الله بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ"(4).
مجالات التيسير في الإسلام:
أولًا: في العبادات: يظهر مبدأ اليسر والمسامحة جليًّا في العبادات أكثر من غيرها من أمور الدين، حيث إنها سلوك ظاهر، فجميع العبادات قائمة على هذا المبدأ الذي خص الله تعالى به هذه الأمة من غيرها من الأمم المفروضة منها والنوافل، يقول عليه صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكُمْ بِمَا تُطِيقُونَ
(1) مسلم (2675).
(2)
مسلم (245).
(3)
مسلم (233).
(4)
البخاري (5641)، وانظر: الموافقات للشاطبي (2/ 82).
فَوَاللهِ لَا يَمَلُّ اللهُ حَتَّى تَمَلُّوا" (1). ويمكن أن نشير إلى بعض هذه المظاهر في العبادات الآتية:
أ) في الطهارة: يظهر مبدأ اليسر في الطهارة واضحًا لأنها المدخل إلى العبادات، واليسر فيها أمر ضروري، لأن المسلم يتوضأ في اليوم والليلة خمس مرات، ويغتسل من الجنابة كذلك، ويتعرض لبعض النجاسات هنا وهناك، فإن الشدة في الطهارة توقعه في الضيق والحرج ويجعل نفسه تمل من العبادة نفسها فضلًا عن الطهارة.
ومن الأمثلة الواضحة على هذا التيسير قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن ماء البحر قال: "هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ"(2). ويتبين هذا اليسر أيضًا من قصة الأعرابي الذي بال في المسجد فقام الناس ليقعوا به، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ"(3).
ومن اليسر في الطهارة أيضًا أنه إذا تعلقت القذارة بالنعلين فإن مسحهما بالأرض يطهرهما لقوله عليه الصلاة والسلام: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ إِلَى المسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإِنْ رَأَى فِي نَعْلَيْهِ قَذَرًا أَوْ أَذًى فَلْيَمْسَحْهُ وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا"(4).
ومن يسر هذا الدين أيضًا في الطهارة أن النجاسة الواقعة على الثوب تزال بالماء وهذا فيه يسر كبير إذا قورن بما كانت عليه بنو إسرائيل من قبل حيث كانوا يكلفون بقص ما أصيب بالنجاسة من الثوب.
ب) التيمم: ومن اليسر في هذا الدين أن المسلم إذا لم يجد الماء ليتوضأ به أو كان به مرض أو جرح لا يستطيع أن يتوضأ بالماء، فله أن يتيمم بالتراب، فضلًا من الله تعالى وتسهيلًا عليه، لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ
(1) البخاري (43).
(2)
رواه مالك في الموطأ (41)، وأبو داود (84)، والترمذي (69)، وقال: حسن صحيح، وصححه الألباني في إرواء الغليل (9).
(3)
البخاري (220).
(4)
رواه أبو داود (1/ 453/ 650)، وصححه الألباني في الإرواء (284).
لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)} (المائدة: 6).
بخلاف ما كانت عليه الشرائع السابقة، حيث لا تقبل صلاة من غير تطهر بالماء.
وجاء تأكيد هذا الأمر في السنة النبوية في قوله صلى الله عليه وسلم: "أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ وَأُحِلَّتْ لِي المَغَانِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلي وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً"(1).
ج) الصلاة: ويمكن بيان بعض صور التيسير في الصلاة من خلال النقاط الآتية:
1) أنها فرضت في بداية الأمر في رحلة المعراج خمسين صلاة ثم خففت إلى خمس في العمل وخمسين في الأجر.
2) مشروعية الجمع والقصر في الصلاة أثناء السفر أو المطر أو المرض وذلك للظروف التي يمر بها الإنسان في هذه الحالات من قلة في الماء أو البرد أو خوف من الطريق أو زيادة في المرض.
لذلك جعل الإسلام فيه الصلاة بشكل آخر يتناسب مع هذه الظروف فأجاز له الجمع والقصر، حيث قصرت الصلوات الرباعية إلى ركعتين فقط.
ويتغير وضع الصلاة وكيفيتها كذلك في حالة الخوف في الحرب أو هجوم سبع أو سيل ونحوه، ويسهل أمرها وتقصر، لما في ذلك من مصلحة على المسلمين وحماية لهم من عدوهم الذين قد يغدرون بهم أثناء الصلاة، وتسمى هذه الصلاة بصلاة الخوف، قال تعالى:{وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (النساء: 101) ثم ذكرت في الآية الآتية كيفية أداء هذه الصلاة على دفعتين.
3) جواز الصلاة في أي مكان من الأرض، حيث لم تكن جائزة عند الأمم السابقة إلا
(1) البخاري (335)، مسلم (521).
في المعابد والصوامع، يقول عليه الصلاة والسلام:"أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي أَدْرَكَتْهُ الصَّلَاةُ فَلْيُصَلِّ .... "(1) الحديث.
4) تخفيف الصلاة وعدم الإطالة فيها، لأن صلاة الجماعة تجمع بين الصغير والكبير والمريض، فينبغي مراعاة ذلك، وهذا ما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه معه، يقول جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه: أَقْبَلَ رَجُلٌ بِنَاضِحَيْنِ وَقَدْ جَنَحَ اللَّيْلُ، فَوَافَقَ مُعَاذًا يُصَلِّي فَتَرَكَ نَاضِحَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى مُعَاذٍ فَقَرَأَ بِسُورَةِ الْبَقَرَةِ أَوْ النِّسَاءِ فَانْطَلَقَ الرَّجُلُ وَبَلَغَهُ أَنَّ مُعَاذًا نَال مِنْهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَشَكَا إِلَيْهِ مُعَاذًا فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"يَا مُعَاذُ أَفَتَّانٌ أَنْتَ، أَوْ أَفَاتِنٌ ثَلَاثَ مِرَارٍ فَلَوْلَا صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الْكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحاجَةِ"(2).
ويقول صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلَاةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلَاتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أَمِّهِ"(3).
5) رفعت الصلاة عن الحائض والنفساء، ولا تقضي بعد الطهر، وهذا يسر ولطف على المرأة، حيث تعاني في فترة الحيض والنفاس آلامًا ودماء، يصعب معها الصلاة، وقد تطول هذه المدة فيشق القضاء، فجاءت الرحمة الربانية على المرأة بهذا التيسير، ولم يطلب منها قضاء تلك الصلوات الفائتة عنها بعد ذلك (4).
6) مشروعية سجود السهو لجبر الخلل الذي يحصل في الصلاة، ولم تطلب إعادتها.
كل هذا اليسر وهذه السماحة جاءت في الركن الثاني من أركان الإسلام بعد الشهادتين
(1) متفق عليه، وقد سبق.
(2)
البخاري (705).
(3)
البخاري (868).
(4)
البخاري (321)، مسلم (335)، عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت: أتجزى إحدانا صلاتها إذا طهرت؟ فقالت: كنا نحيض مع النبي صلى الله عليه وسلم فلا يأمرنا به أو قالت فلا نفعله.
وهو الصلاة التي هي أعظم الأعمال العملية.
د) الزكاة: وتتبين مظاهر اليسر والتسهيل في أداء فريضة الزكاة من خلال الأمور الآتية:
1) أنها لم تأت على جميع الممتلكات والعقارات والأموال وإنما اقتصرت على بعض الأصناف.
2) ثم إنها يشترط في الأصناف التي تجب فيها الزكاة أن تبلغ النصاب.
3) ومن يسر الإسلام أيضًا في أداء هذه الفريضة أنه لم يجعل دفع الزكاة إلا مرة واحدة في السنة، وذلك بعد أن يحول عليها الحول.
4) ومن ذلك أيضًا أن مقدار المال الواجب دفعه للزكاة قليل جدًّا بالنسبة للمال الذي يوجب فيه الزكاة بحيث لا يؤثر فيه كثيرًا ولا يتأثر بذلك صاحبه.
هذا فضلًا عن كيفية تعامل الإسلام مع زكاة الزروع، حيث أوجب العشر في التي تسقى بماء المطر، ونصف العشر بالتي تسقى بالنضح والآبار، لقوله صلى الله عليه وسلم:"فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ"(1).
وهكذا نلاحظ يسر الإسلام وتسهيله في هذا الجانب مما يجعل صاحب المال يسارع إلى إخراج زكاة ماله عن طيب نفس، دون ضجر أو ملل أو ثقل.
هـ) الصيام: ونستطيع أن نلاحظ تيسير الإسلام أيضًا في هذه الفريضة من خلال النقاط الآتية:
1) أن الصيام لم يفرض إلا في شهر واحد في السنة وهو شهر رمضان قوله تعالى: {أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} (البقرة: 184)، وهذا فيه سعة وتيسير على المسلم.
2) أن وقت الصيام من الفجر إلى غروب الشمس، ولا يجوز الزيادة في هذا الوقت، من أجل ذلك نهى عن صوم الوصال وهو وصل صيام يومين أو ثلاثة متواليات، لما في ذلك من مشقة وعنت على النفس يقول صلى الله عليه وسلم: "لَا تُوَاصِلُوا قَالُوا إِنَّكَ تُوَاصِلُ قَال لَسْتُ
(1) البخاري (1483) عن ابن عمر رضي الله عنهما.
كَأَحَدٍ مِنْكُمْ إِنِّي أُطْعَمُ وَأُسْقَى أَوْ إِنِّي أَبِيتُ أُطْعَمُ وَأُسْقَى" (1).
3) ومن أفطر خطأ أو نسيانًا فإنه يكمل صومه، ولا حرج عليه، فإنما أطعمه الله وسقاه، يقول صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وَسَقَاهُ"(2).
4) جواز الإفطار عند السفر أو المرض، لقوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (البقرة: 185).
و) الحج: ويتضح يسر الإسلام في هذا الركن أيضًا من خلال النقاط الآتية:
1) الاستطاعة في الزاد والراحلة، وأن لا يكون عليه دين أو التزام مالي آخر من حقوق الآخرين، لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (آل عمران: 97).
2) وجوبه في العمر مرة واحدة، لأن فيه المشقة والعناء، فيصعب على المؤمن أن يؤديه كل عام.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَال: خَطَبَنَا رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم فَقَال: "أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ الله عَلَيْكُمْ الحجَّ فَحُجُّوا" فَقَال رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ الله "فَسَكَتَ" حَتَّى قَالهَا ثَلَاثًا فَقَال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ قُلْتُ نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلمَا اسْتَطَعْتُمْ ثُمَّ قَال ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ"(3).
3) التخيير بين المناسك الثلاثة: التمتع والقران والإفراد (4).
4) التخيير في الترتيب بين بالأعمال الثلاثة يوم العيد، الرمي والحلق والطواف، وهذا فيه تيسيرٌ على الحاج الذي يعاني من زحمة الناس والمواصلات والأسفار، يقول ابن عباس
(1) البخاري (1961).
(2)
البخاري (6669) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3)
مسلم (1337).
(4)
ولهذه تفصيلات يطول المقام بذكرها وتراجع مصادر الفقه في ذلك.
- رضي الله عنهما: قَال رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَال: "لَا حَرَجَ" قَال حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ قَال: "لَا حَرَجَ" قَال ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ قَال: "لَا حَرَجَ"(1).
وفي رواية مسلم قال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: فما رأيته صلى الله عليه وسلم سئل يومئذ عن شيءٍ إلا قال: "افْعَلْ وَلَا حَرَجَ"(2).
5) أن الله تعالى جعله سببًا لمغفرة الذنوب والخطايا، وقد وعد الرسول صلى الله عليه وسلم الحاج بالجنة وأنه يرجع كيوم ولدته أمه فقال صلى الله عليه وسلم:"مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"(3).
ويقول أيضًا: "وَالحجُّ المبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إِلَّا الجنَّةُ"(4).
وهكذا لاحظنا يسر الإسلام أيضًا في هذا الركن.
ثانيًا: في المعاملات: لم يقتصر التيسير في الإسلام على العقيدة والعبادة بل تعداه إلى المعاملات التي تأخذ مساحة واسعة من حياة الإنسان العملية، فالتجارة والصناعة والزراعة والتعليم ونحوها يدخل جميعها تحت مظلة المعاملات، والناس في المعاملات أكثر عرضة للمعاصي والآثام، لأن المحرك هو المال، ومعلوم مدى تأثير المال على نفس الإنسان وطباعه وسلوكه، ولذلك كانت النصوص القرآنية والنبوية تترى في اتباع التيسير والسامحة في المعاملات، يقول صلى الله عليه وسلم:"رَحِمَ الله رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى"(5).
ونبين بعض صور التيسير في المعاملات: أ) ففي البيع أجاز الإسلام للمتبايعين الخيار في عدد من المواضع كما إذا كانا في مجلس البيع، رفعًا للحرج الذي يقع فيه أحدهما، لأنه ربما يحصل ضرر كبير إذا تم هذا العقد يقول صلى الله عليه وسلم: "إِذَا تَبَايَعَ الرَّجُلَانِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما بِالْخِيَارِ
(1) البخاري (1722).
(2)
مسلم (1306).
(3)
البخاري (1820)، مسلم (1350) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(4)
البخاري (1773)، مسلم (1349)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(5)
البخاري (2076)، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا وَكَانَا جَمِيعًا أَوْ يُخَيِّرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَتَبَايَعَا عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ وَإِنْ تَفَرَّقَا بَعْدَ أَنْ يَتَبَايَعَا وَلَمْ يَتْرُكْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْبَيْعَ فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ" (1).
ب) وحرم الإسلامُ الربا الذي فيه ظلم الناس، وهو سبب في إفشاء الفقر والغنى الفاحشين، وسبب لزرع الأحقاد والضغائن بين أبناء المجتمع الواحد، فحرم الله الربا وأباح القرض الحسن، يقول الله:{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} (البقرة: 276).
وقال تعالى: {وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (المزمل: 20).
ج) كما حرم هذا الدين احتكار الطعام والسلع واحتجازها في وقت تشتد حاجة الناس إليها، يقول عليه الصلاة والسلام:"مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ"(2).
د) التيسير على المدين المعسر، وهو مبدأ عظيم جاء به الإسلام رحمة بحاله وتقديرًا لظروفه القاسية، وهو عنصر قوى من عناصر التكافل الاجتماعي بين أبناء الأمة، حيث يجعل من المجتمع وحدة متينة، قائمة على الحب والوئام، والتعاون والتراحم، وهو تطبيق عملي لقوله تعالى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)} (البقرة: 280).
وأوصى به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ الله مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أَوْ يَضَعْ عَنْهُ"(3).
ويقول صلى الله عليه وسلم عن رجل كان يتجاوز عن المعسر: "كانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَال لِفِتْيَانِهِ تَجَاوَزُوا عَنْهُ لَعَلَّ الله أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا فَتَجَاوَزَ الله عَنْهُ"(4).
ثالثا: في العقوبات: لقد تميزت الشريعة الإسلامية عن غيرها من الشرائع، والقوانين
(1) البخاري (2112)، مسلم (1531)، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
مسلم (1605).
(3)
مسلم (1563)، عن أبي قتادة رضي الله عنه.
(4)
البخاري (2078)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
في التشريع الجنائي ووضع العقوبات المناسبة لأفعال الناس التي تضر بالأنفس والأموال والأعراض وغيرها حيث أضفت الشريعة على هذه العقوبات ألوانًا من السماحة واليسر بحيث تتقبلها النفس الإنسانية في كل أحوالها.
ويمكن أن نبين هذه السماحة والسعة من خلال بيان عقوبتين فقط وهما:
أ) عقوبة قتل النفس: إن قتل النفس بغير حق يعد من أكبر الجرائم وأعظمها عند الله تعالى، يقول الله عز وجل:{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)} (الأنعام: 151).
وقد جعل الله تعالى قتل النفس الواحدة بمثابة قتل الناس جميعًا وإحياء نفس بمثابة إحياء الناس جميعًا، يقول الله تعالى:{مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32).
ويقول صلى الله عليه وسلم: "لَزَوَال الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى الله مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ"(1).
فقتل النفس فعلٌ شنيعٌ وجريمة عظمى، وكان حكم الله في القتل أن يقتل القاتل قصاصًا. قال تعالى:{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} (المائدة: 45).
ونستطيع أن نظهر يسر الإسلام وسماحته في تطبيق العقوبة على القاتل من خلال الآتي:
1) لا يؤخذ أحد بجريرة أحد، أي أنه لا يعاقب إلا القاتل نفسه، وليس لأهله وذريته وقبيلته شأن في فعله وتطبيق العقوبة عليه، بدون تعسف أو تعد، بخلاف ما كانت عليه الجاهلية، حيث كان يقتل بالرجل الواحد أكثر من رجل، فنجد في القرآن الكريم قوله تعالى:{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا} (الإسراء: 33).
2) ولكن من يسر الإسلام وسماحته أن جعل المجال مفتوحًا أمام ولي أمر المقتول
(1) الترمذي (1395)، النسائي (7/ 82)، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وصححه الألباني في صحيح الجامع (5077).
وخيره بين إحدى ثلاث:
القصاص أو الدية أو العفو، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَنْ أُصِيبَ بِدَمٍ أَوْ خَبْلٍ "الْخَبْلُ الْجِرَاحُ" فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إِحْدَى ثَلَاثٍ إِمَّا أَنْ يَقْتَصَّ أَوْ يَأْخُذَ الْعَقْلَ أَوْ يَعْفُوَ فَإِنْ أَرَادَ رَابِعَةً فَخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ عَدَا بَعْدُ فَقَتَلَ فَلَهُ النَّارُ خَالِدًا فِيهَا مُخَلَّدًا (1).
3) ومن يسر الإسلام وسماحته قبل تطبيق هذه العقوبة أنه يغري أهل المقتول بما عند الله تعالى، إذا تجاوزوا عن القاتل وعفوا عنه، لقوله صلى الله عليه وسلم:"مَا عَفَا رَجُلٌ إِلَّا زَادَهُ الله بِهِ عِزًّا وَلَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَلَا عَفَا رَجُلٌ قَطُّ إِلَّا زَادَهُ الله عِزًّا"(2).
4) ومن سماحة الإسلام ويسره أنه اشترط في جواز تطبيق القصاص اتفاق أولياء الدم جميعًا على هذا القصاص، فإذا وجد من بينهم من عفا عن القاتل وإن كانت امرأة فإن الحكم يسقط، ويمنع القصاص. وكذلك إذا كان من بين أولياء الدم من لم يبلغ سن التمييز أو كان غائبًا، فإنه ينتظر بلوغه أو عودته من غيبته لأخذ رأيه، فإن عفا عن الجاني فإن الحكم يسقط، وقد يأخذ ذلك سنينًا وأعوامًا، وفي ذلك حكمة فربما ينسى هؤلاء الأولياء حنقهم على دمهم وتتخفف الوطأة عليهم، فيكون العفو حينها أقرب إلى القصاص.
ب) عقوبة الزنا: وجريمة الزنا من الجرائم الأخلاقية التي تفسد الأسر والمجتمعات وتضيع الأنساب وتفشي الضغائن والأحقاد، لذلك كانت هذه الجريمة من الكبائر التي توعد الله فاعلها بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، لقوله عز وجل:{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} (النور: 19).
وعقوبة الزاني الرجم للمحصن والجلد لغير المحصن، وفي هذا يسر وسماحة، وذلك بتناسب العقوبة مع طبيعة الزاني نفسه، فالزاني الثيب أعظم جرمًا من الزاني غير المحصن، لذلك جاءت عقوبته أقسى وأشد وهي الرجم.
(1) أحمد (4/ 31)، وابن ماجه (2623)، وغيرهما، وضعفه الألباني في ضعيف الجامع (5433).
(2)
أحمد (2/ 438)، من طريق العلاء عن أبيه عن أبي هريرة وهذا إسناد على شرط مسلم.