الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ضمير يختص بالقريب، وهذا قول المفسرين - فتكون المساجد قد اختصت - بكثرة ذكر الله تعالى، وهو يقتضي أن غيرها لم يساوها في كثرة الذكر فتكون أفضل وهو المطلوب. (1)
الوجه الخامس: بيان الحكمة في هذا الترتيب، وتأخير المساجد على من ذكر
.
1 -
لأن الترتيب الوجودي كذلك، فهي - البيع والكنائس - أقدم بناء وهذا ليس للتشريف (2).
2 -
لتقع المساجد في جوار مدح أهلها، فلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الرسل، وأمته خير الأمم لا جرم كانوا آخرهم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"نحن الآخرون السابقون"(3).
3 -
وقيل: لقربها من الهدم، وقرب المساجد من الذكر كما أخر السابق في قوله:{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} (فاطر: 32). (4)
4 -
للانتقال من شريف إلى أشرف؛ فإن البيع أشرف من الصوامع لكثرة العباد فيها فإنها معبد للرهبان وغيرهم، والصوامع معبد للرهبان فقط، وكنائس اليهود أشرف من البيع؛ لأن حدوثها أقدم، وزمان العبادة فيها أطول، والمساجد أشرف من الجميع؛ لأن الله تعالى قد عبد فيها بما لم يعبد به في غيرها (5).
5 -
وتأخير المساجد؛ لأنها أعم، وشأن العموم أن يعقب به الخصوص إكمالًا للفائدة (6).
الوجه السادس: ليس في ذلك مدح للرهبانية ولا لمن بدل دين المسيح، وإنما فيه مدح لمن اتبعه
.
فهو حق كما قال تعالى، وليس في ذلك مدح للرهبانية، ولا لمن بدل دين المسيح وإنما فيه مدح لمن اتبعه بما جعل الله في قلوبهم من الرحمة والرأفة حيث يقول:{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} ، ثم قال:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} أي:
(1) الأجوبة الفاخرة (88).
(2)
تفسير الرازي 23/ 40، تفسير القرطبي 12: 77، تفسير الألوسي 17/ 164.
(3)
تفسير الرازي 23/ 40، تفسير الألوسي 17/ 164، والحديث أخرجه البخاري (238)، مسلم (855).
(4)
تفسير القرطبي 12: 77، تفسير الألوسي 17/ 164.
(5)
تفسير الألوسي 17/ 164.
(6)
التحرير والتنوير 17/ 297.
وابتدعوا رهبانية ما كتبناها عليهم، وهذه الرهبانية لم يشرعها الله ولم يجعلها مشروعة لهم، بل نفى جعله عنها كما نفى ذلك عما ابتدعه المشركون بقوله:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ} (المائدة: 103).
وهذا الجعل المنفي عن البدع هو الجعل الذي أثبته للمشروع بقوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة: 48)، وقوله:{لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ} (الحج: 67)، فالرهبانية ابتدعوها لم يشرعها الله.
وللناس في قوله (رهبانية) قولان:
أحدهما: أنها منصوبة يعني: ابتدعوها إما بفعل مضمر يفسره ما بعده، أو يقال: هذا الفعل عمل في المضمر والمظهر كما هو قول الكوفيين حكاه عنهم ابن جرير وثعلب وغيرهما ونظيره قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} (الإنسان: 31)، وقوله:{فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالةُ} (الأعراف: 30) وعلى هذا القول فلا تكون الرهبانية معطوفة على الرأفة والرحمة.
والقول الثاني: إنها معطوفة عليها فيكون الله قد جعل في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية المبتدعة ويكون هذا جعلًا خلقيًا كونيًا، والجعل الكوني يتناول الخير والشر كقوله تعالى:{وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} (القصص: 41).
وعلى هذا القول فلا مدح للرهبانية؛ لأنها في القلوب فثبت أنه على التقديرين ليس في القرآن مدح للرهبانية. ثم قال: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي: لم يكتب عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وابتغاء رضوان الله بفعل ما أمر به لا بما يبتدع. وهذا يسمى استثناء منقطعا كما في قوله:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (النساء: 157)، وقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} (النساء: 29)، وقوله تعالى:{لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى}
(الدخان: 56)، وقوله تعالى:{فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)} (الانشقاق: 25 - 25)، وقوله تعالى:{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} (الواقعة: 25، 26)، وقوله:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} (النساء: 92). وهذا أصح الأقوال في هذه الآية.
ولا يجوز أن يكون المعنى أن الله كتبها عليهم ابتغاء رضوان الله؛ فإن الله لا يفعل شيئًا ابتغاء رضوان نفسه، ولا أن المعنى أنهم ابتدعوها ابتغاء رضوانه كما يظن هذا وهذا بعض الغالطين كما قد بسط في موضع آخر وذكر أنهم ابتدعوا الرهبانية وما رعوها حق رعايتها وليس في ذلك مدح لهم؛ بل هو ذم ثم قال تعالى:{فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} ، وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وكثير منهم فاسقون، ولو أريد الذين آمنوا بالمسيح أيضًا فالمراد من اتبعه على دينه الذي لم يبدل، وإلا فكلهم يقولون: إنهم مؤمنون بالمسيح، وبكل حال فلم يمدح سبحانه إلا من اتبع المسيح على دينه الذي لم يبدل ومن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، لم يمدح النصارى الذين بدلوا دين المسيح ولا الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: قد قال بعض الناس إن قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} عطف على رأفة ورحمة وإن المعنى: أن الله جعل في قلوب الذين اتبعوه رأفةً ورحمةً ورهبانيةً أيضًا ابتدعوها، وجعلوا الجعل شرعيًا ممدوحًا. قيل: هذا غلط لوجوه:
منها: أن الرهبانية لم تكن في كل من اتبعه، بل الذين صحبوه كالحواريين لم يكن فيهم راهب، وإنما ابتدعت الرهبانية بعد ذلك بخلاف الرأفة والرحمة فإنها جعلت في قلب كل من اتبعه.
ومنها: أنه أخبر أنهم ابتدعوا الرهبانية بخلاف الرأفة والرحمة فإنهم لم يبتدعوها، وإذا كانوا ابتدعوها لم يكن قد شرعها لهم فإن كان المراد هو الجعل الشرعي الديني لا الجعل
الكوني القدري فلم تدخل الرهبانية في ذلك، وإن كان المراد الجعل الخلقي الكوني فلا مدح للرهبانية في ذلك.
ومنها: أن الرأفة والرحمة جعلها في القلوب، والرهبانية لا تختص بالقلوب؛ بل الرهبانية ترك المباحات من النكاح واللحم وغير ذلك، وقد كان طائفة من الصحابة رضوان الله عليهم هموا بالرهبانية فأنزل الله تعالى نهيهم عن ذلك بقوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (المائدة: 87).
وثبت في الصحيحين أن نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال أحدهم: أما أنا فأصوم لا أفطر، وقال آخر: أما أنا فأقوم لا أنام، وقال آخر: أما أنا فلا أتزوج النساء، وقال آخر: أما أنا فلا آكل اللحم، فقام النبي خطيبًا فقال: "ما بال رجال يقول أحدهم كذا وكذا؟ لكني أصوم وأفطر، وأقوم وأنام وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وفي صحيح البخاري، أن النبي رأى رجلًا قائمًا في الشمس فقال:"ما هذا؟ "قالوا هذا أبو إسرائيل. نذر أن يقوم في الشمس، ولا يستظل، ولا يتكلم، ويصوم فقال:"مروه فليجلس وليستظل وليتكلم وليتم صومه".
وثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول في خطبته: "خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة".
وفي السنن عن العرباض بن سارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة".
وقد بينت النصوص الصحيحة أن الرهبانية بدعة وضلالة، وما كان بدعة وضلالة لم يكن هدى ولم يكن الله جعلها بمعنى أنه شرعها كما لم يجعل الله ما شرعه المشركون من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، فإن قيل: قد قال طائفة: معناها ما فعلوها إلا ابتغاء
رضوان الله، ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله، وقالت طائفة: ما فعلوها أو ما ابتدعوها إلا ابتغاء رضوان الله.
قيل: كلا القولين خطأ والأول أظهر خطأ؛ فإن الرهبانية لم يكتبها الله عليهم؛ بل لم يشرعها لا إيجابًا ولا استحبابًا، ولكن ذهبت طائفة إلى أنهم لما ابتدعوها كتب عليهم إتمامها وليس في الآية ما يدل على ذلك فإنه قال:{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} ، فلم يذكر أنه كتب عليهم نفس الرهبانية ولا إتمامها ولا رعايتها؛ بل أخبر أنهم ابتدعوا بدعة، وأن تلك البدعة لم يرعوها حق رعايتها.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يدل على أنهم لو رعوها حق رعايتها لكانوا ممدوحين، قيل: ليس في الكلام ما يدل على ذلك؛ بل يدل على أنهم مع عدم الرعاية يستحقون من الذم ما لا يستحقونه بدون ذلك، فيكون ذم من ابتدع البدعة ولم يرعها حق رعايتها أعظم من ذم من رعاها وإن لم يكن واحد منهما محمودًا؛ بل مذمومًا مثل نصارى بني تغلب ونحوهم ممن دخل في النصرانية ولم يقوموا بواجباتها؛ بل أخذوا منها ما وافق أهواءهم فكان كفرهم وذمهم أغلظ ممن هو أقل شرا منهم، والنار دركات كما أن الجنة درجات، وأيضًا فالله تعالى إذا كتب شيئًا على عباده لم يكتب ابتغاء رضوانه؛ بل العباد يفعلون ما يفعلون ابتغاء رضوان الله، وأيضًا فتخصيص الرهبانية بأنه كتبها ابتغاء رضوان الله دون غيرها تخصيص بغير موجب فإن ما كتبه ابتداء لم يذكر أنه كتبه ابتغاء رضوانه فكيف بالرهبانية؟
وأما قول من قال: ما فعلوها إلا ابتغاء رضوان الله فهذا المعنى لو دل عليه الكلام لم يكن في ذلك مدح للرهبانية، فإن من فعل ما لم يأمر الله به؛ بل نهاه عنه مع حسن مقصده غايته أن يثاب على قصده لا يثاب على ما نهى عنه، ولا على ما ليس بواجب ولا مستحب فكيف والكلام لا يدل عليه فإن الله قال:{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} ؟