الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بَابُ: مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1299 -
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى قَالَ أَخْبَرَتْنِى عَمْرَةُ قَالَتْ سَمِعْتُ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ لَمَّا جَاءَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ وَجَعْفَرٍ وَابْنِ رَوَاحَةَ جَلَسَ يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ، وَأَنَا أَنْظُرُ مِنْ صَائِرِ الْبَابِ - شَقِّ الْبَابِ - فَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ، وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَنْهَاهُنَّ، فَذَهَبَ ثُمَّ أَتَاهُ الثَّانِيَةَ، لَمْ يُطِعْنَهُ فَقَالَ انْهَهُنَّ. فَأَتَاهُ الثَّالِثَةَ قَالَ وَاللَّهِ غَلَبْنَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَزَعَمَتْ أَنَّهُ قَالَ «فَاحْثُ في أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ» . فَقُلْتُ أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ، لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْعَنَاءِ
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(بَابُ: مَنْ جَلَسَ عِنْدَ المُصِيبَةِ يُعْرَفُ فِيهِ الحُزْنُ) بضم التحتية وفتح الراء، على البناء للمفعول، أسند إلى "الحزن"، والجملة حال من الضمير الذي في:"جلس"، ولم يصرح البخاري بحكم هذه المسألة، ولكن يفهم من فعله صلى الله عليه وسلم؛ لأنّ إظهاره الحزن يدل على إباحته، ولا يمنع من ذلك، إلا إذا كان معه شيء من اللّسان أو اليد
(1)
.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى) بفتح النون المشددة العنزى، البصري، الزمن، (قال حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ) هو: ابن عبدالمجيد الثقفي، (قَالَ سَمِعْتُ يَحْيَى
(2)
) هو: ابن سعيد الأنصاري، (قَالَ:
(1)
فتح الباري (3/ 167).
(2)
هو: يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري المدني، أبو سعيد القاضي، ثقة ثبت، من الخامسة، مات سنة: أربع وأربعين ومائة، تقريب التهذيب (ص: 591) (7559).
أَخْبَرَتْنِى) بالإفراد، (عَمْرَةُ) بفتح المهملة وسكون الميم: بنت عبدالرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية.
[69 ب/س]
(قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ النَّبِىَّ) بالنصب على المفعولية، (صلى الله عليه وسلم قَتْلُ ابْنِ حَارِثَةَ) بالرفع على أنّه فاعل جاء، وهو زيد بن حارثة بن شراحيل بن كعب بن عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي القضاعي، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أنّ أمّه ذهبت تزور أهلها، فأغار عليهم خيل من بني القيس، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، فوهبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وجده أبوه فأختار المقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاعتقه /وتبناه فكان يقال: زيد بن محمد، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يحبُّه حبًا شديدًا
(1)
.
وقال السهيلي: باعوا زيدًا بسوق حباشة، وهو من أسواق العرب، وزيد يومئذ ابن ثمانية أعوام
(2)
، وأعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وزوجه مولاته أم أيمن، واسمها: بركة، فولدت له أسامة بن زيد
(3)
.
[157 أ/س]
/وعن عائشة رضي الله عنها ، كانت تقول:"ما بعث رسول صلى الله عليه وسلم ، زيد بن حارثة في سرية إلا أمره عليهم، ولو بقي بعده لاستخلفه"
(4)
، رواه أحمد، والنسائي، وابن أبي شيبة، وهو غريب جدًا.
(1)
الاستيعاب [زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي](2/ 543)، (843).
(2)
الروض الأنف (2/ 192).
(3)
الاستيعاب [زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبي](2/ 543)، (843).
(4)
مسند الإمام أحمد، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها، (43/ 412)(26410) من طريق سعيد بن محمد الوراق، قال: حدثنا وائل بن داود، عن البهي، عن عائشة، إسناده ضعيف فيه سعيد بن محمد الوراق، قال ابن حجر في "التقريب" (1/ 240) (2387): وهو ضعيف * وأخرجه النسائي في سننه الكبرى، كتاب المناقب، زيد بن حارثة رضي الله عنه (7/ 322)، (8126) من طريق محمد بن عبيد، به وإسناده حسن *مصنف ابن أبي شيبة، كتاب المغازي، ما حفظت في غزوة مؤتة (7/ 415)، (36978). * المستدرك على الصحيحين، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر مناقب زيد الحب بن حارثة (3/ 238)، (4953) من طريق محمد بن عبيد، به وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال الذهبي: سهل بن عمار العتكى، قال الحاكم في تاريخه: كذاب، وهنا يصحح له، فأين الدين؟ وقال العيني: جيد قوي على شَرط الصَّحِيح وَهُوَ غَرِيب جدا (عمدة القاري (8/ 94).
(وَ) قتل (جَعْفَرٍ) هو: ابن أبي طالب، عم النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكان أكبر من أخيه علي رضي الله عنهما ، بعشر سنين، أسلم جعفر رضي الله عنه ، قديمًا وهاجر إلى الحبشة، وقد أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأنّه شهيد فهو يقطع له بالجنة
(1)
.
(وَ) قتل (ابْنِ رَوَاحَةَ) هو: عبد الله بن رواحة بن ثعلبة بن امرئ القيس بن عمرو، أبو محمد، ويقال: أبو رواحة، أسلم قديمًا، وشهد العقبة، وبدرًا، وأحدًا، والخندق، والحديبية، وخيبرًا، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالشهادة فهو يقطع له بالجنة،
(2)
، وقصّة قتلهم: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسلهم في نحو ثلاثة آلاف إلى أرض البلقاء، من أطراف الشام، في جمادي الأولى من سنة: ثمان، واستعمل عليهم زيدًا، وقال: إنْ أصيب زيد فجعفر على الناس، فإنْ أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة على الناس، فخرجوا وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليشيعهم فمضوا حتى نزلوا معان من أرض البلقاء، فبلغهم أنّ هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام وبلقين وبهراء، ويلي مائة ألف، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها: مؤتة، بضم الميم وبالهمزة، وقيل: بلا همزة، ثمّ تلاقوا فاقتتلوا، فقاتل زيدًا براية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قتل، فأخذها جعفر، فقاتل حتى قتل، فأخذها عبد الله بن رواحة، قال أنس، رضي الله عنه: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نعى الثلاثة، وعيناه تذرفان، ثم قال: أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليهم، وهو خالد بن الوليد رضي الله عنه
(3)
وعن خالد رضي الله عنه لقد انقطت في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي في يدي إلا صفيحة يمانية،
(4)
.
(1)
الاستيعاب، جعفر بن أبي طالب (1/ 242)، (327).
(2)
الاستيعاب، عبد الله بْن رواحة (3/ 898)، (1530).
(3)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشأم (5/ 143)، (4262).
(4)
تاريخ الطبري، ذكر الخبر عن غزوة مؤتة (3/ 36) 0
وسيجيئ ذلك كله في الكتاب، وجميع من قتل من المسلمين يومئذ أثني عشر رجلًا، وهذا أمر عظيم جدًا أن يقاتل جيشان متعاديان في الدين، أحدهما الفئة التي تقاتل في سبيل الله عدتها ثلاثة آلاف، وأخرى كافرة عدتها مائتا ألف، مائة ألف من الروم ومائة ألف من نصارى العرب
(1)
.
[157 أ/ص]
(جَلَسَ) صلى الله عليه وسلم أي: "في المسجد"، كما في رواية /أبي داود
(2)
، (يُعْرَفُ فِيهِ الْحُزْنُ) جملة حالية.
قال الطيبي: في "شرح المشكاة"، كأنّه كظم الحزن كظمًا، فظهر منه ما لا بدّ منه لجبلة البشرية، يعني: ولهذا لم يقل حزينًا
(3)
.
وهذا هو موضع الترجمة
(4)
، وهو يدل على الإباحة، نعم إذا كان معه شيء من اللّسان أو اليد يحرم.
قالت عائشة رضي الله عنها: (وَأَنَا أَنْظُرُ) جملة حالية، (مِنْ صَائِرِ الْبَابِ) بالصاد المهملة وبالهمزة بعد الألف، وفي آخره راء وقد فسره في الحديث بقوله:(شَقِّ الْبَابِ) بفتح الشين المعجمة، أي: موضع الذي ينظر منه، وجوز الكرماني كسرها
(5)
.
وتعقبه القسطلاني: بأنّ معناه بالكسر الناحِية، وليس بمرادة هنا كما قاله ابن التين. والظاهر أن هذا التفسير من عائشة رضي الله عنها ، ويحتمل أن يكون ممن بعدها
(6)
.
قال المازرى: كذا وقع في الصحيحين هنا صائر الباب، والصّواب صير، أي: بكسر الصاد، وسكون التحتية، وهو: الشق
(7)
. وقال ابن الجوزي والخطابي: صائر وصير، بمعنى واحد
(8)
.
(1)
عمدة القاري (8/ 95).
(2)
سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب الجلوس عند المصيبة (3/ 192)(3122).
(3)
الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1426).
(4)
عمدة القاري (8/ 94).
(5)
الكواكب الدراري (7/ 93).
(6)
إرشاد الساري (4/ 410).
(7)
المُعْلم بفوائد مسلم، أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي المازري المالكي (المتوفى: 536 هـ) المحقق: فضيلة الشيخ محمد الشاذلي النيفر، الدار التونسية للنشر
المؤسّسة الوطنية للكتاب بالجزائر، الطبعة: الثانية، 1988 م. (1/ 485)(355).
(8)
كشف المشكل من حديث الصحيحين (4/ 367).
(فَأَتَاهُ) صلى الله عليه وسلم ، (رَجُلٌ) قال الحافظ العسقلاني: لم أقف على اسمه، ويحتمل أن عائشة رضي الله عنها ، لم تصرح باسمه؛ لانحرافها عنه، وغض بصرها منه
(1)
.
(فَقَالَ: إِنَّ نِسَاءَ جَعْفَرٍ) أي: امرأته أسماء بنت عميس الخثعمية
(2)
، ومن حضر عندها من النساء من أقارب جعفر وأقاربها، ومن في معناهن، ولم يذكر أهل العلم بالأخبار ولجعفر امرأة غير أسماء.
(وَذَكَرَ بُكَاءَهُنَّ) حال من المستتر في قال، كذا في الصحيحين، وخبر "إن" محذوف تقديره: إن نساء جعفر يبكين أو ينحن.
وقال الطيبي: قد حذفت رضي الله عنها خبر "إن" من القول المحكي، بدلالة الحال عليه، يعني: قال ذلك الرجل: إن نساء جعفر فعلن كذا وكذا، مما حظره الشرع من البكاء الشنيع، والنياحة الفظيعة، إلى غير ذلك
(3)
.
وقد وقع عند أبي عوانة من طريق سليمان بن بلال، عن يحيى:"قد كثر بكاؤهن"، فإن لم يكن تصحيفًا فلا حذف ولا تقدير، ويؤيده ما عند ابن حبان من طريق عبيد الله بن عمرو، عن يحيى بلفظ:"قد أكثرن بكاءهن"
(4)
.
(فَأَمَرَهُ) صلى الله عليه وسلم ، (أَنْ يَنْهَاهُنَّ) عن فعلهنَّ، (فَذَهَبَ) أي: فنهاهن، فلم يطعنه؛ لكونه لم يسند النهي إلى رسول صلى الله عليه وسلم ، (ثُمَّ أَتَاهُ) أي: أتى الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، المرة (الثَّانِيَةَ) فقال: إنهن (لَمْ يُطِعْنَهُ) هو حكاية قول الرجل أي: فذهب ونهاهن، ثم أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال: نهيتهن فلم يطعنني، ووقع في رواية أبي عوانة: فذكر أنهن لم يطعنه.
[158 أ/س]
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم: (انْهَهُنَّ) فانْهَهُنَّ، فذهب فنهاهنّ، فلم يطعنه للحمل على أنّ /ذلك النهي من قبل ذلك الرجل.
(1)
ينظر فتح لباري (3/ 167).
(2)
الاستيعاب أسماء بنت عميس بْن معد بْن الحارث (4/ 1784)، (3230).
(3)
الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1426).
(4)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، فصل في النياحة ونحوها (7/ 417)(3147)، إسناده صحيح على شرط البخاري، كما أخرجه البخاري في هذا الباب.
(ثم فَأَتَاهُ) أي: الرجل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، المرة (الثَّالِثَةَ قال: غَلَبْنَنَا) بلفظ جمع المؤنث الغائبة، وفي رواية: بزيادة "والله لقد"، وفي أخرى:"غلبتنا"، بلفظ المفردة المؤنثة الغائبة
(1)
.
(يَا رَسُولَ اللَّهِ) قالت عمرة: (فَزَعَمَتْ) عائشة رضي الله عنها ، ومعنى زعمت: قالت، وقال الطيبي: أي ظنت
(2)
.
وقال العيني: الزعم يطلق على القول المحقق، وعلى الكذب والمشكوك فيه، وينزل في كل موضع على ما يليق به
(3)
.
[69 ب/ص]
(أَنَّهُ) صلى الله عليه وسلم / (قَالَ) للرجل لما لم
(4)
ينتهين: (فَاحْثُ) بضم المثلثة، أمر من حثا يحثو، وبكسرها، من حثى يحثي
(5)
.
(فِى أَفْوَاهِهِنَّ التُّرَابَ) بالنصب على أنّه مفعول أحث، وفي رواية: الآتية: "من التراب".
قال القرطبي: هذا يدلُّ على أنّهن رفعنَ أصواتهن بالبكاء، فلمّا لم ينتهين أمره أن يسدّ أفواههن بالتراب، وخصّ الأفواه بذلك؛ لأنّها محل النوح بخلاف الأعين مثلًا، انتهى
(6)
.
ويحتمل أن يكون كناية عن المبالغة في الزجر، والمعنى: أعلمهن أنهنّ خائبات من الأجر المترتب على الصبر، لِما أظهرن من الجزع، كما يقال للخائب: لم يحصل في يده إلا التراب، لكن يبعد هذا الاحتمال قول عائشة الآتي.
وقال القاضي عياض: هو بمعنى التعجيز، أي: أنهنّ لا يسكتن إلا بسدِّ أفواههنَّ، ولا تسدها إلا أن تملأ بالتراب، فإنْ أمكنك فافعل
(7)
.
(1)
عمدة القاري (8/ 95).
(2)
الكاشف عن حقائق السنن (4/ 1426).
(3)
عمدة القاري (8/ 95).
(4)
[لم] سقط في ب.
(5)
النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 339)
(6)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/ 589).
(7)
إكمال المعلم (3/ 378).
وقال القرطبي: يحتمل أنهنَّ لم يطعن الناهي؛ لكونه لم يصرح لهن بأنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نهاهنَّ فحملن ذلك على أنّه مرشد إلى المصلحة من قبل نفسه، أو علمن ذلك لكن غلب عليهن شدة الحزن لحرارة المصيبة
(1)
.
قال العيني: وهذا الذي قاله حسن، وهو اللائق في حق الصحابيات؛ لأنه يبعد أن يتمادين بعد تكرار نهيهن على محرم
(2)
.
ثم الظاهر أنّه كان في بكاءهن زيادة على القدر المباح، فيكون النهي للتحريم، بدليل أنّه كرره وبالغ فيه، وأمر بعقوبتهن إن لم يسكتن، ويحتمل أن يكون بكاء مجردًا والنهي للتنزيه، ولو كان للتحريم لأرسل غير الرجل المذكور لمنعهن؛ لأنّه لا يقر على باطل ويبعد تمادي الصحابيات بعد تكرار النهي على فعل الأمر المحرَّم.
وفائدة نهيهن عن الأمر المباح خشية أن يسترسلن فيه فيقضي بهذا إلى الأمر المحرم، لضعف صبرهن، فيستفاد منه جواز النهي عن المباح عند خشية إفضائه إلى ما يحرم
(3)
.
[158 أ/ص]
(فَقُلْتُ) أي: قالت عائشة رضي الله عنها: فقلت لرجل: (أَرْغَمَ اللَّهُ أَنْفَكَ) بالراء والغين المعجمة أي ألصق الله أنفك بالرغام بفتح الراء: وهو التراب
(4)
، إهانة وإذلالًا دعت عليه من جنس ما أمر أن يفعل بالنسوة؛ لفهمها من قرائن الحال أنه أحرج النبيّ صلى الله عليه وسلم ،/بكثرة تردده إليه في ذلك.
(لَمْ تَفْعَلْ مَا أَمَرَكَ) به (رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) أي: من نهيهن، وإن كان نهاهن؛ لأنّه لم يترتب على فعله الامتثال فكأنّه لم يفعله أي: لم يفعل الحثو بالتراب.
وقال الحافظ العسقلاني: لفظة لم يعبر بها عن الماضي، وقولها ذلك وقع قبل أن يتوجه فمن أين علمت أنه لم يفعل، فالظاهر أنها قامت عندها قرينة، بأنّه لا يفعل، فعبّرت عنه بلفظ الماضي مبالغة
(1)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/ 588).
(2)
عمدة القاري (8/ 95).
(3)
فتح الباري (3/ 168).
(4)
الصحاح [رغم](5/ 1934).
في نفي ذلك عنه، ووقع في رواية الآتية بعد أربعة أبواب:"فوالله ما أنت بفاعل"
(1)
، وكذا المسلم وغيره، فظهر أنّه من تصرف الرواة
(2)
.
(وَلَمْ تَتْرُكْ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، مِنَ الْعَنَاءِ) بفتح العين المهملة والنون وبالمد، وهو: المشقّة والتعب، وفي رواية لمسلم:"من العيّ"
(3)
، بكسر العين المهملة وتشديد المثناة التحتية، ووقع في رواية العذري:"من الغي"، بفتح المعجمة، ضد الرشد، قال القاضي عياض: ولا وجه له هنا
(4)
.
ورد عليه: بأنّ له وجهًا، ولكنَّ الأوّل أليق؛ لموافقته لمعنى العناء الذي في رواية الأكثر
(5)
.
وقال النووي: معناه أنك قاصر عما أمرت به، ولم تخبره صلى الله عليه وسلم ، بقصورك عن ذلك حتى يرسل غيرك فيستريح من التعب
(6)
.
وهذا الحديث أخرجه المؤلف في (المغازي) أيضًا وأخرجه مسلم في (الجنائز) ، وكذا أبو داود والنسائي.
(7)
وفي الحديث: جواز الجلوس للعزاء بسكينة ووقار.
وفيه: الحثُّ على الصبر.
وقال الطبري: إن قال قائل: إنّ أحوال الناس في الصبر متفاوتة، فمنهم من يظهر حزنه على المصيبة في وجهه بالتغير له، وفي عينيه بانحدار الدموع، ولا ينطق بالسيئ من القول، ومنهم من
(1)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب ما ينهى من النوح والبكاء والزجر عن ذلك (2/ 84)، (1305).
(2)
فتح الباري (3/ 168).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة (2/ 645)، (935).
(4)
مشارق الأنوار على صحاح الآثار [ع ن ى](2/ 93).
(5)
عمدة القاري (8/ 96).
(6)
شرح صحيح مسلم (6/ 237).
(7)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشأم (5/ 143)، (4263) *. صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب التشديد في النياحة (2/ 644)، (935) * سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب الجلوس عند المصيبة (3/ 192)، (3122) * السنن الصغرى للنسائي، كتاب الجنائز، النهي عن البكاء على الميت (4/ 14)، (1847).
يجمع ذلك كله، ويزيد عليه إظهاره في مطعمه وملبسه، ومنهم من يكون حاله في المصيبة، وقبلها سواء، فأيّهم المستحق لاسم الصبر؟
قلت: قد أختلف الناس في ذلك، فقال بعضهم: المستحقّ لاسم الصبر هو: الذي يكون حاله عند المصيبة مثلها قبلها، ولا يظهر عليه حزن في جارحة ولا لسان، كما زعمت الصوفية: أنّ الولي لا يتم له الولاية إلا إذا تم له الرضى بالقدر، ولا يحزن على شيء، والنّاس في هذا الحال يختلفون، فمنهم من في قلبه الجلد وقلة المبالاة بالمصائب، ومنهم من هو بخلاف ذلك، فالذي يكون في طبعه الجزع، ويملك نفسه، ويستشعر للصبر، أعظم أجرًا من الذي يتجلّد.
[159 أ/س]
قال الطبري: روى عن ابن مسعود رضي الله عنه: أنّه لما نعي أخوه عتبة، قال: لقد كان /من أعز الناس عليّ، وما يسرني أنه بين أظهركم اليوم حيًا، قالوا: وكيف وهو من أعز الناس عليك؟ قال: إني لأنْ أوجر فيه أحبُّ إليّ من أن يؤجر فيّ
(1)
.
وقال ثابت: إنّ أصلة بن أشيم مات أخوه، فجاء رجل، وهو يطعم، فقال: يا أبا الصهباء، إنّ أخاك مات، قال: هلمّ فكلّ قد نعى إلينا، قال: والله ما سبقني إليك أحد ممن نعاه، قال: يقول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30)} [الزُّمَر: 30]
(2)
وقال الشعبي: كان شريح يدفن جنائز ليلًا، فيأتيه الرّجل حين يصبح فيسأله عن المريض، فيقول: هدأ
(3)
لله الشكر، وأرجو أن يكون مستريحًا
(4)
.
(1)
شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 283)، من طريق جرير، عن المغيرة، عن إبراهيم التيمي.
(2)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، فمن الطبقة الأولى من التابعين، صلة بن أشيم العدوي ومنهم أبو الصهباء صلة بن أشيم العدوي، (2/ 238)، عفان قال: ثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا ثابت، وأخرجه البيهقى في شعب الإيمان (12/ 437)(9695) من طريق عبد الله بن المبارك، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني.
(3)
هدأ سقط من ب
(4)
مصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب الدفن بالليل (3/ 521)، (6557_ 6558)، من طريق ابن عيينة، عن عاصم الأحول قال: كان شريح. . . . . .
وكان ابن سيرين يكون عند المصيبة كما هو قبلها، يتحدث ويضحك إلا يوم ماتت حفصة، فإنّه جعل يكشِّر، وأنت تعرف في وجهه، وسئل ربيعة ما منتهى الصبر؟ قال: أن يكون يوم تصيبه المصيبة مثله قبل أن تصيبه
(1)
.
[70 ب/س]
وأمّا جزع القلب وحزن النفس ودمع العين، فإنّ ذلك لا يخرج العبد عن معنى الصابرين إذا لم يتجاوزه إلى ما لا يجوز له فعله، لأنَّ نفوس بني آدم مجبولة على الجزع من المصائب، وقد مدح الله الصابرين ووعدهم /جزيل الثواب عليه، وتغيير الأجساد عن هيئاتها ونقلها عن طباعها الذي جبلت عليه لا يقدر عليه إلا الذي أنشأها.
ورى المقبري عن أبي هريرة، مرفوعًا قال:"قال الله عز وجل: إذا ابتليت عبدى المؤمن فلم يشكني إلى عواره، أنشطته من عقالي، وبدّلته لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمه"
(2)
.
وفي الحديث أيضًا: دليل على أنّ المنهيّ عن المنكر إن لم ينته عوقب وأدب إن أمكن.
وفيه: جواز نظر النساء المحتجبات إلى الرجال الأجانب، وفيه: جواز اليمين لتأكيد الخبر
(3)
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1300 -
حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ
عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - قَالَ قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَزِنَ حُزْنًا قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ
(1)
حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فمن الطبقة الأولى من التابعين (3/ 261)، من طريق عبيد الله بن عمر القواريري، ثنا عبد الله بن رجاء المكي، عن يونس بن زيد.
(2)
المستدرك على الصحيحين، كتاب الجنائز (1/ 500)(1290) من طريق عاصم بن محمد بن زيد، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبيه، عن أبي هريرة. وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3)
عمدة القاري (8/ 96).
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِىٍّ
(1)
): الفلّاس الصيرفي، (قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ) بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة، مصغّرًا، هو: ابن غَزْوان بفتح المعجمة وسكون الزاي، الضبيّ مولاهم، الكوفي
(2)
.
(قال: حَدَّثَنَا عَاصِمٌ الأَحْوَلُ عَنْ أَنَسٍ) أي: ابن مالك رضي الله عنه ، (قَالَ: قَنَتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، شَهْرًا حِينَ قُتِلَ الْقُرَّاءُ): جمع القارئ، وكانوا ينزلون الصفّة يتعلمون القرآن، عُمّار المساجد، وليوث الملاحم، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إلى أهل نجد ليقرءوا عليهم القرآن، ويدعوهم إلى الإسلام، فلما نزلوا ببئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من رعل، وذكوان، وعصية، فقاتلوهم فقتلوا أكثرهم
(3)
، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة.
[159 أ/ص]
(فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، حَزِنَ حُزْنًا /قَطُّ أَشَدَّ مِنْهُ) وقد تقدم الحديث في "باب: القنوات قبل الركوع"، وبعده من أبواب الوتر.
(1)
هو: عمرو بن علي بن بحر بن كنيز أبو حفص، الفلاس الصيرفي الباهلي البصري، ثقة حافظ، من العاشرة مات سنة: تسع وأربعين مائتين، تقريب التهذيب (ص: 424) (5081).
(2)
هو: محمد بن فضيل بن غَزْوان الضبي، مولاهم أبو عبد الرحمن الكوفي، صدوق عارف، رمي بالتشيع من التاسعة، مات سنة خمس وتسعين [ومائة]، تقريب التهذيب (ص: 502) (6219).
(3)
إرشاد الساري (2/ 410).