الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَبْحَثُ الثَّانِي: شَرْطُ الْإِمَامِ الْبُخَارِيِّ فِيْ صَحِيْحِهِ
.
ومن المعلوم عند أهل العلم وطلابه أن الإمام البخاري رحمه الله لم يذكر شروطًا في كتابه الصحيح، ولكن علم هذه الشروط العلماء من خلال استقرائهم لصحيح البخاري، كما قال الحافظ أبو الفضل محمد المقدسي في كتابه (شروط الأئمة الستة):"اعلم أنّ البخاريّ ومسلمًا ومن ذكرنا بعدهم لم ينقل عن واحد منهم أنّه قال: شرطت أن أخرِّج في كتابي ما يكون على الشرط الفلاني، وإنما يعرف ذلك من سبر كتبهم، فيعلم بذلك شرط كل رجل منهم"
(1)
.
وقال الإمام الحازمي في ردّه على ما قصده الحاكم في تعريفه للصحيح
(2)
،:"هذا حكم من لم يمعن الغوص في خبايا الصحيح، ولو استقرأ الكتاب حقّ استقرائه لوجد جملة من الكتاب ناقضة عليه دعواه"
(3)
ومفهوم هذا الكلام يدل على أن الاستقراء هو الوسيلة التي سلكها العلماء في تقرير شرط الإمام البخاريّ، ومن أجمل ما قيل في هذا المعنى وأدقه قول الحافظ السيوطي رحمه الله تعالى: " اعلم
(1)
شروط الأئمة الستة، للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ويليه شروط الأئمة الخمسة، للحافظ أبي بكر محمد بن موسي الحازمي، دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1405 هـ- 1984 م (ص: 17).
(2)
معرفة علوم الحديث، أبو عبد الله الحاكم محمد بن عبد الله بن محمد بن حمدويه بن نُعيم بن الحكم الضبي الطهماني النيسابوري المعروف بابن البيع (المتوفى: 405 هـ)، المحقق: السيد معظم حسين، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الثانية، 1397 هـ - 1977 م (ص: 61) فقال: " وصفة الحديث الصحيح أن يرويه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابي زائل عنه اسم الجهالة وهو أن يروي عنه تابعيان عدلان، ثم يتداوله أهل الحديث بالقبول إلى وقتنا هذا كالشهادة على الشهادة".
(3)
شروط الأئمة الخمسة، للحافظ أبي بكر محمد بن موسي الحازمي (مطبوع في دار الكتب العلمية بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 1405 هـ- 1984 م، بحاشية شروط الأئمة الستة الآنف الذكر. (ص: 43).
أن البخاري لم يوجد عنه تصريح بشرط معين، وإنما أخذ من تسميته للكتاب، والاستقراء من تصرفه".
فأمّا أولًا: فإنه سمَّاه: " الجامع الصحيح المسند المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه".
فعُلم من قوله "الجامع": أنه لم يخص بصنف دون صنف، ولهذا أورد فيه الأحكام والفضائل والأخبار عن الأمور الماضية والآتية، وغير ذلك من الآداب والرقائق.
ومن قوله" الصحيح": أنه ليس فيه شيء ضعيف عنده، وإن كان فيه مواضع قد انتقدها غيره، فقد أجيب عنها، وقد صح عنه أنه قال:"ما أدخلت في الجامع إلا ما صح"
(1)
.
ومن قوله" المسند": أن مقصوده الأصلي تخريج الأحاديث التي اتصل اسنادها ببعض الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت من قوله أم فعله أم تقريره، وإن ما وقع في الكتاب من غير ذلك فإنما وقع تبعًا وعرضًا لا أصلًا مقصودًا
(2)
.
وأما ما عرف بالاستقراء من تصرفه: فهو أنه يخرّج الحديث الذي اتصل إسناده، وكان كل من رواته عدلًا موصوفًا بالضبط، فإن قصر احتاج إلى ما يجبر ذلك التقصير، وخلا عن أن يكون معلولًا، أي: فيه علّة خفية قادحة، أو شاذًا، أي: خالف رواية من هو أكثر عدلًا منه، أو أشد ضبطًا مخالفة تستلزم التنافي، ويتعذر معها الجمع الذي لا يكون مُتَعَسّفًا
(3)
.
(1)
مقدمة ابن الصلاح (ص: 19)، ولفظ ابن الصلاح: روينا عن البخاري أنه قال: " ما أدخلت في كتابي (الجامع) إلا ما صح، وتركت من الصحاح لحال الطول ".
(2)
هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص: 12).
(3)
المصدر السابق (ص: 12).
والاتصال عندهم: أن يعبر كل من الرواة في روايته عن شيخه بصيغة صريحة في السماع منه: كـ "سمعت"، و"حدثني"، و"أخبرني"، إذ ظاهره فيه كـ "عن"، أو "أن فلانًا قال"، وهذا الثاني في غير المدلس الثقة، أما هو فلا يقبل منه إلا المرتبة الأولى، وشرط حمل الثاني على السماع عند البخاري أن يكون الراوي قد ثبت له من حدّث عنه، ولو مرة واحدة.
وعرف بالاستقراء من تصرفه في الرجال الذين يخرّج لهم أنه ينتقي أكثرهم صحبة لشيخه وأعرفهم بحديثه، وإن أخرج في حديث من لا يكون بهذه الصفة، فإنما يخرج من المتابعات، أو حيث تقوم له قرينة بأن ذلك مما ضبطه هذا الراوي
(1)
، كما قال الحازمي: " فلنوضح ذلك بمثال وهو: أن تعلم أن أصحاب الزهري مثلًا على خمس طبقات، ولكل طبقة منها مزية على التي تليها:
فمن كان في الطبقة الأولى فهو الغاية في الصحة، وهو مقصد البخاري.
والطبقة الثانية: شاركت الأولى في التثبت إلا أن الأولى جمعت بين الحفظ والإتقان، وبين طول الملازمة للزهري حتى كان فيهم من يلازمه في السفر، ويلازمه في الحضر، والطبقة الثانية لم تلازم الزهري إلا مدة يسيرة، فلم تمارس حديثه، فكانوا في الإتقان دون الأولى وهم شرط مسلم.
والطبقة الثالثة: جماعة لزموا الزهريّ مثل أهل الطبقة الأولى غير أنهم لم يسلموا عن غوائل الجرح، فهم بين الرد والقبول، وهم شرط أبي داود والنسائي.
فأما الطبقة الأولى فهم شرط البخاري، وقد يخرّج من حديث أهل الطبقة الثانية ما يعتمده من غير استيعاب، وأما مسلم فيخرّج أحاديث الطبقتين على سبيل الاستيعاب، ويخرج أحاديث أهل الطبقة الثالثة على النحو الذي يصنعه البخاري في الثانية، وأما الرابعة والخامسة فلا يعرجان عليهما.
(1)
التوشيح شرح الجامع الصحيح، للإمام الحافظ أبي الفضل جلال الدين عبدالرحمن السيوطي (ت: 911) تحقيق: رضوان جامع رضوان، مكتبة الرشد، الرياض، الطبعةالأولى، 1419 هـ-1998 م (1/ 43 - 46)
والطبقة الرابعة: قوم شاركوا أهل الطبقة الثالثة في الجرح والتعديل، وتفردوا بقلة ممارستهم لحديث الزهري؛ لأنهم لم يصاحبوا الزهريّ كثيرًا، وهم شرط أبي عيسى.
والطبقة الخامسة: نفر من الضعفاء والمجهولين، لا يجوز لمن يخرج الحديث على الأبواب أنْ يخرج حديثهم إلا على سبيل الاعتبار والاستشهاد عند أبي داود فمن دونه، فأما عند الشيخين فلا
(1)
.
ويبين لنا بأن أهم الشروط التي استظهرها العلماء من خلال الجامع الصحيح ما يلي:
1.
أن يكون الإسناد متصلًا غير منقطع.
2.
أن يكون جميع رواة الحديث ثقاتًا عدولًا. بمعنى أن يكون كل راو من رواته غير مدلس
(2)
، ولا مختلط
(3)
متصفًا بصفات العدالة
(4)
، سليم الذهن، قليل الوهم، سليم الاعتقاد.
3.
إن كانت الرواية بالعنعنة يجب أن يثبت لقاء الراوي بشيخه.
4.
أن يكون خاليا عن العلة
(5)
والشذوذ
(6)
.
(1)
شروط الأئمة الستة، للحافظ أبي الفضل محمد بن طاهر المقدسي، ويليه شروط الأئمة الخمسة (ص: 57 - 58)، هدي الساري مقدمة فتح الباري (ص: 13 - 15).
(2)
وهو أن يروي عمن لقيه ما لم يسمع منه، موهما أنه سمعه منه، أو عمن عاصره ولم يلقه موهما أنه قد لقيه وسمعه منه، ثم قد يكون بينهما واحد وقد يكون أكثر. مقدمة ابن الصلاح (ص: 73).
(3)
فساد العقل أوعدم انتظام الأقوال بسبب خرف أو عمي أو غير ذلك. مقدمة ابن الصلاح (ص: 391).
(4)
أن يكون مسلمًا، بالغًا، عاقلًا، سالمًا من أسباب الفسق وخوارم المروءة، متيقظًا غير مغفل، حافظًا إن حدث من حفظه، ضابطا لكتابه، إن حدث من كتابه. وإن كان يحدث بالمعنى اشترط فيه مع ذلك أن يكون عالما بما يحيل المعاني، والله أعلم. . مقدمة ابن الصلاح (ص: 105).
(5)
فالحديث المعلل هو الحديث الذي اطلع فيه على علة تقدح في صحته، مع أن ظاهره السلامة منها. مقدمة ابن الصلاح (ص: 90).
(6)
قال الشافعي رضي الله عنه: " ليس الشاذ من الحديث أن يروي الثقة ما لا يروي غيره، إنما الشاذ أن يروي الثقة حديثا يخالف ما روى الناس ".
وقال ابن الصلاح: " إذا انفرد الراوي بشيء نظر فيه: فإن كان ما انفرد به مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك، وأضبط كان ما انفرد به شاذا مردودا، وإن لم تكن فيه مخالفة لما رواه غيره، وإنما هو أمر رواه هو ولم يروه غيره، فينظر في هذا الراوي المنفرد: فإن كان عدلًا حافظًا موثوقًا بإتقانه وضبطه قبل ما انفرد به، لم يقدح الانفراد فيه، كما فيما سبق من الأمثلة، وإن لم يكن ممن يوثق بحفظه وإتقانه لذلك الذي انفرد به كان انفراده به خارمًا له، مزحزحًا له عن حيز الصحيح".
فخرج من ذلك أن الشاذ المردود قسمان: أحدهما: الحديث الفرد المخالف، والثاني: الفرد الذي ليس في راويه من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجبه التفرد والشذوذ من النكارة والضعف، والله أعلم. مقدمة ابن الصلاح (ص: 79).
ومن الشروط الخاصة للبخاري
(1)
:
1.
اشترط طول ملازمته الراوي لشيخه؛ لأن ذلك أدعى إلى حفظه وضبطه للحديث الذي يرويه عنه.
2.
أن يثبت عنده تاريخيًّا لقاء الراوي بشيخه، وسماعه منه الحديث الذي يرويه عنه بصيغة تحتمل السماع وعدمه، فإذا قال راوي الحديث:"عن فلان"، فإن الإمام البخاري يتوقف في إخراج الحديث حتى يتأكد من لقاء الراوي بشيخه، وأن هذه اللفظة تساوي عنده:"سمعت فلانًا"، وهذا ينطبق على جميع العنعنات الموجودة في جامعه الصحيح.
(1)
المدخل إلى مناهج المحدثين الأسس والتطبيق، الاستاذ الدكتور رفعت فوزي عبدالمطلب، دار السلام، الطبعة: الأولى، القاهرة، 1429 هـ - 2008 م (ص: 191).