الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المَسْأَلَةُ الخَامِسَةُ: الصلاة على شهيد المعركة
ذكر العلامة يوسف أفندي زاده مذاهب العلماء في هذه المسألة
(1)
في " بَاب الصَّلَاةِ عَلَى الشَّهِيدِ".
قال: وإنما أطلق الترجمة ولم يفسر الحكم؛ لأنه ذكر في الباب حديثين: أحدهما يدل على نفيها، وهو حديث جابر رضي الله عنه ،والآخر يدل على إثباتها، وهو حديث عقبة رضي الله عنه.
ثم قال: ومن هنا وقع الاختلاف بين العلماء؛ فقال الشافعي ومالك وأحمد، إلى أن الشهيد لا يصلى عليه، كما لا يغسل، وإليه ذهب أهل الظاهر
(2)
.
وذهب ابن أبي ليلى، والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وصاحباه، وأحمد -في رواية- إلى أنه يصلي عليه
(3)
. ورجح قول مذهبه، بأنه يصلي عليه كما هو مذهب الحنفية.
ثم ذكر اختلاف الفقهاء في هذه المسألة، على ثلاثة أقوال:
القول الأول: قال جمهور الفقهاء: لا يُصلى على الشهيد، وبه قال المالكية والشافعية والحنابلة في أصح الروايتين لديهم، ونُقل عن عطاء والنخعي وحماد والليث وابن المنذر وغيرهم
(4)
.
واحتجّ الجمهور على مذهبهم بما يلي:
1.
عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثّوب الواحد، ثم يقول:"أيهم أكثر أخذًا للقرآن؟ "، فإذا أُشير إلى أحدهما قدَّمَه في اللحد، وقال:"أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة"، وأمر بدفنهم في دمائهم ولم يغسلوا ولم يصل عليهم
(5)
.
(1)
كما في (ص: 763).
(2)
المدونة (259)، المجموع (5/ 264)، المعني (2/ 394)، والمحلى (3/ 336).
(3)
مختصر اختلاف العلماء (1/ 396). الأصل المعروف بالمبسوط (1/ 410) والمبسوط (2/ 49).
(4)
شرح مختصر خليل، (2/ 140)، وبداية المجتهد (4/ 361) والمجموع (5/ 264)، والمغني (2/ 394)، والمحلى (3/ 336).
(5)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد (2/ 91)(1343).
2.
وعن أنس رضي الله عنه: " أن شهداء أحد لم يغسلوا، ودفنوا بدمائهم ولم يصل عليهم"
(1)
قال الشافعي في الأم: " جاءت الأخبار كأنها عيان من وجوه متواترة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ على قتلى أحد، وما رُويَ: أنه صلى عليهم وكبَّر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغي لمن عارض بذلك هذه الأحاديث الصحيحة أن يستحي على نفسه
(2)
.
ورد عليه الطحاوي فقال: فما يدري من روى له أن الصلاة على حمزة كملت سبعين صلاة حتى استجادته الرواية، وقد روى هذه القصة ابن الزبير لا يذكر فيه سبعين ولا غيرها وما ذكره الشافعي غير موجود ولا ثابت فلم يستحل رواية من روى أنه صلى على حمزة وعليهم
(3)
.
وقال ابن رشيد: واختلفوا في الصلاة على الشهداء المقتولين في المعركة، فقال مالك والشافعي: لا يصلّى على الشهيد المقتول في المعركة ولا يغسل، وقال أبو حنيفة: يصلى عليه ويغسل
(4)
.
وقال النووي: "مذهبنا تحريمها، وبه قال جمهور العلماء، وهو قول عطاء والنخعي. . . . .
(5)
"
وقال ابن قدامة: "فالصحيح أنه لا يصلى عليه. وهو قول مالك، والشافعي، وإسحاق. وعن أحمد، رواية أخرى، أنه يصلى عليه.
ثم قال: وأمّا سقوط الصلاة عليهم، فيحتمل أن تكون علته كونهم أحياء عند ربهم، والصلاة إنما شرعت في حق الموتى. ويحتمل أن ذلك لغناهم عن الشفاعة لهم، فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله، فلا يحتاج إلى شفيع، والصلاة إنما شرعت للشفاعة
(6)
.
(1)
أخرجه أبو داود في سننه، كتاب الجنائز، باب في الشهيد يغسل (3/ 195)(3135). من طريق ابن وهب، عن أسامة بن زيد الليثي، أن ابن شهاب، أخبره أن أنس بن مالك. وأخرجه الحاكم في "المستدرك" كتاب الجنائز (1/ 520)(1352) بهذا الإسناد، وقال: وهو صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجه، وقال الذهبي: على شرط مسلم.
(2)
الأم (1/ 305).
(3)
مختصر اختلاف العلماء (1/ 398).
(4)
بداية المجتهد (1/ 254).
(5)
المجموع (5/ 264).
(6)
المغني (2/ 394 - 395).
وقال الحافظ ابن حجر: " وأمّا حديث عقبة بن عامر فقد وقع في نفس الحديث أن ذلك كان بعد ثمان سنين يعني والمخالف-أي الحنفية- يقول: لا يصلى على القبر إذا طالت المدة، قال: وكأنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم واستغفر لهم حين علم قرب أجله مودِّعًا لهم بذلك، ولا يدل ذلك على نسخ الحكم الثابت
(1)
. انتهى
3.
ومن أدلتهم: أن الله تعالى وصف الشهداء بأنهم أحياء فقال: " {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)} [آل عمران: 169] والصّلاة على الميت لا على الحيّ.
القول الثاني: يجب الصلاة عليه، وهو مذهب أبي حنيفة والثوري والحسن وابن المسيّب. وقالوا: بوجوب الصلاة على الفعل
(2)
، وفي المجموع: وقال المزني: يصلى عليه
(3)
.
واحتج الحنفية ومن وافقهم على ما ذهبوا إليه بما يلي:
1.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم، خرج يومًا فصلى على أهل أحد صلاته على الميت"
(4)
.
2.
وروى الطحاوي من حديث أبي مالك الغفاري، قال:"كان قتلى أُحد يؤتى بتسعة وعاشرهم حمزة، فيصلي عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثمّ يحملون، ثمّ يؤتى بتسعة، وحمزة مكانه، حتى صلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "
(5)
.
(1)
فتح الباري (3/ 210).
(2)
الحجة على أهل المدينة، أبو عبد الله محمد بن الحسن بن فرقد الشيباني (المتوفى: 189 هـ) المحقق: مهدي حسن الكيلاني القادري، عالم الكتب - بيروت، الطبعة: الثالثة، 1403 (1/ 359)، والمبسوط (2/ 49)، المحيط البرهاني (2/ 160).
(3)
المجموع (5/ 264).
(4)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهيد (2/ 91)(1344).
(5)
شرح معاني الآثار، باب الصلاة على الشهداء، باب الصلاة على الشهداء (1/ 503)(2888)، من طريق بكر بن إدريس، عن آدم بن إياس، عن شعبة، عن حصين بن عبد الرحمن، عن أبي مالك الغفاري، حديث مرسل، وباقي رجاله ثقات عدا بكر بن إدريس الأزدي وهو مقبول. وأخرجه البيهقي في سننه الكبرى (4/ 18)(6804) بهذا الإسناد. وأخرجه أبو داود في مراسيله (1/ 306)(427) من طريق سليمان بن كثير، عن حصين، عن أبي مالك، رجاله ثقات عدا سليمان بن كثير العبدي وهو صدوق حسن الحديث.
3.
ورواه الطحاوي بإسناده إلى ابن عباس "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يوضع بين يديه يوم أحد عشرة فيصلي عليهم، وعلى حمزة، ثمّ يرفع العشرة، وحمزة موضوع، ثم يوضع عشرة، فيصلى عليهم، وعلى حمزة معهم رضي الله عنهم."
(1)
وقال الإمام يوسف زاده
(2)
: ولنا -معاشِرَ الحنفيةِ- أن نرجح مذهبنا بأمور:
منها: أن حديث عقبة رضي الله عنه مثبِتٌ، وكذا غيره مما ذكر فيه الصلاة على الشهيد، وحديث جابر رضي الله عنه نافٍ والمثبِتُ مقدم على النافي.
ومنها: أن جابرًا رضي الله عنه، كان مشغولًا بقتل أبيه وعمه، فذهب إلى المدينة ليدبر حملهم، فلما سمع المنادي بأن القتلى تدفن في مصارعهم سارع لدفنهم، فدّل على أنه لم يكن حاضرًا حين الصلاة. على أن في "الإكليل" حديثًا عن ابن عقيل عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على حمزة، ثم جيء بالشهداء فوضعوا إلى جنبه فصلى عليهم". فالشافعية يحتجون برواية ابن عقيل ويوجبون بها التسليم من الصلاة
(3)
.
ومنها: أن ما روى أصحابنا أكثر مما رواه أصحاب الشافعي.
(1)
أخرجه الطحاوي في شرح معاني الآثار، كتاب الجنائز، باب الصلاة على الشهداء (1/ 503)(2885) من طريق أبي بكر بن عياش يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس. وأخرجه ابن ماجه في "سننه" كتاب الجنائز، باب ما جاء في الصلاة على الشهداء ودفنهم (1/ 485)(1513) بهذا الإسناد إسناد ضعيف فيه يزيد بن أبي زياد الهاشمي، قال ابن حجر في "التقريب" (ص: 406) (4817): وهو ضعيف. وأخرجه الحاكم في مستدركه (3/ 218)(4895) بهذا الإسناد، وقال الذهبي: سمعه أبو بكر بن عياش من يزيد، قلت: ليسا بمعتمدين.
(2)
كما في (ص:771).
(3)
شرح معاني الآثار (1/ 501)، وعمدة القاري (8/ 155) والبناية شرح الهداية، (3/ 269).
ومنها: أن الصلاة على الموتى أصل في الدين وفرض كفاية، فلا يسقط من غير فعل أحد بالتعارض، بخلاف غسله؛ إذ النص في سقوطه لا معارض له.
ومنها: لو كانت الصلاة عليهم غير مشروعة لبينها النبي صلى الله عليه وسلم، كما نبّه على الغسل.
ومنها: أنا نتنزل ونقول كما قاله الطحاوي: لم يُصَلِّ عليه السلام، وصلى غيره
(1)
.
ومنها: أنه يجوز أنه لم يصل عليهم في ذلك اليوم؛ لما حصل له من الجراحة وشبهها، ولا سيّما من ألمه على حمزة رضي الله عنه وغيره رضي الله عنهم، وصلى عليهم في يوم غيره؛ لأنه لا تغير بهم كما جاء في صلاته عليهم بعد ثماني سنين.
ومنها: أنه قد روي أنه قد صلى على غيرهم.
ومنها: أنه ليس لهم أن يقولوا: يحمل قول عقبة: "صلى عليهم"، بمعنى استغفر لهم، لقوله:"صلاته على الميت".
ومنها: أن ما ذهب إليه أصحابنا أحوط في الدين، وفيه تحصيل الأجر. وقد قال صلى الله عليه وسلم:"من صلى على ميّت فله قيراط"
(2)
، لم يفصل ميتًا من ميت.
فإن قالوا: إن الصلاة لا تصح على الميت بلا غسل، فلما لم يغسل الشهيد لم يصح الصلاة، فالجواب: أنّه ينبغي أن لا يدفن أيضًا بلا غسل، فلما دفن الشهيد بلا غسل دلّ أنه في حكم المغسول فيصلى عليه.
فإن قالوا: الشهداء أحياء بنص الآية، والصلاة إنما شرعت على الموتى؟.
فالجواب: أنه على هذا ينبغي أن لا يقسم ميراثهم ولا تزوج نساؤهم وشبه ذلك، وإنما هم أحياء في حكم الآخرة لا في حكم الدنيا، والصلاة عليهم من أحكام الدنيا، كذا قال في "المبسوط"
(3)
.
فإن قالوا: ترك الصلاة عليهم لاستغنائهم مع التخفيف على من بقي من المسلمين، فالجواب: أنه لا يستغنى أحد عن الخير، والصلاة خير موضوع، ولو استغنى عنه أحد من هذه الأمة لاستغنى أبو بكر
(1)
شرح معاني الآثار (1/ 501)،
(2)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب فَضْلِ اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ.
(3)
المبسوط (2/ 50).
وعمر رضي الله عنهما، وكذلك الصغار، وهو في مثل حالهم. والتعليل بالتخفيف لا وجه له؛ لأنهم يسعون في تجهيزهم وحفر قبورهم، ونحو ذلك، فالصلاة أخف من هذا كله.
فإن قالوا: إنكم لا ترون الصلاة على القبر بعد ثلاثة أيام.
فالجواب: أنه ليس كذلك؛ بل تجوز الصلاة على القبر ما لم يتفسخ، والشهداء لا يتفسخون ولا يحصل لهم تغير، فالصلاة عليهم لا تمتنع أي وقت كان
(1)
.
4.
القول الثالث: يستوي فيه الفعل والترك.
وقد رجّح بعض العلماء أنّ الصلاة على الشهداء مستحبة لا واجبة، وأنّ الصلاة عليهم على التخيير بين فعلها وتركها، وهذا قول ابن حزم وابن القيم، وهو رواية عن الإمام أحمد
(2)
.
قال ابن حزم: المقتول بأيدي المشركين في المعركة خاصة، فإنّه لا يغسل ولا يكفّن، لكن يدفن بدمه وثيابه، إلا أنّه ينزع عنه السلاح فقط، وإنْ صلي عليه: فحسن، وإنْ لم يصل عليه، فحسن.
وقال: ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ؛ لأن استعمالهما معا ممكن في أحوال مختلفة
(3)
.
وقال النووي: وحكى إمام الحرمين والبغوي وغيرهما: وجهًا أنه تجوز الصلاة عليه ولا تجب
(4)
.
وفي المغني لابن قدامة: وفي رواية عن أحمد، أنه يصلى عليه، إلا أن كلام أحمد في هذه الرواية يشير إلى أن الصلاة عليه مستحبة، غير واجبة. قال في موضع: إنْ صلى عليه فلا بأس به
(5)
.
(1)
عمدة القاري (8/ 155).
(2)
المحلى (3/ 336).
(3)
المحلى (3/ 336).
(4)
المجموع (2/ 260).
(5)
المغني (2/ 394 - 395).
الراجح:
وقد اختلفت آراء الفقهاء تبعًا لاختلاف هذه الأحاديث، فأخذ بعضهم بها جميعًا، ورجّح بعضهم بعض الروايات على بعض.
قال ابن حزم: والصواب في المسألة أنه مخير بين الصلاة عليهم وتركها لمجئ الآثار بكل واحد من الأمرين، ليس يجوز أن يترك أحد الأثرين المذكورين للآخر، بل كلاهما حق مباح، وليس هذا مكان نسخ؛ لأن استعمالهما معًا ممكن في أحوال مختلفة
(1)
.
وقال ابن رشيد: وكلا الفريقين يرجّح الأحاديث التي أخذ بها، وكانت الشافعية تعتل بحديث ابن عباس هذا وتقول: يرويه ابن أبي الزناد وكان قد اختلّ آخر عمره، وقد كان شعبة يطعن فيه. وأما المراسيل فليست عندهم بحجة
(2)
.
تنبيه:
هذا فى الشهيد الذى قتل فى المعركة بين المسلمين والكافرين، أما الشهيد فى غير ذلك كالمبطون وبقية شهداء الآخرى المذكورين فى الأحاديث فيغسلون ويصلى عليهم.
قال النووي: الشهداء الذين لم يموتوا بسبب حرب الكفار كالمبطون والمطعون والغريق فهؤلاء يغسلون ويصلى عليهم بلا خلاف
(3)
.
(1)
المحلى (3/ 336).
(2)
بداية المجتهد (1/ 254).
(3)
المجموع (2/ 264).
القسم الثاني
تحقيق "كتاب الجنائز" كاملًا.
وهو مقسم على أبواب صحيح البخاري كما فعله الشارح، وهو (97) بابًا.