الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْمَبْحَثُ الثَّامِنُ: مِحْنَتُهُ وَوَفَاتُهُ:
لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابورَ، قال محمد بن يحيى الذهلي لأهلها: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح العالم فاسمعوا منه. فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه. حتى ظهر الخلل في مجالس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك وتكلم فيه
(1)
فدسّ بعض من يمتحنه في (مسألة اللفظ بالقرآن)، فلما حضر الناس مجلس البخاري قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن؟ مخلوق هو أم غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه، فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، ثم قال في الثالثة، فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة، فشغّب الرجل وشغّب الناس، وتفرقوا عنه، وقعد البخاري في منزله
(2)
.
قال يحيى بن سعيد القطان: قال (أي البخاري): أعمال العباد كلها مخلوقة فمرقوا عليه. وقالوا له بعد ذلك: ترجع عن هذا القول حتى نعود إليك، قال: لا أفعل إلا أن يجيئوا بحجة فيما يقولون أقوى من حجتي. قال يحيى: وأعجبني من محمد بن إسماعيل ثباته
(3)
.
ولم تكن محنة هذا الإمام لتنتهي بخروجه من نيسابور، بل قد وقعت له في بخارى محنة أخرى هي امتداد للأولى. إذ لما قدم البخاري (بخارى) نصب له القباب على فرسخ من البلد، واستقبله عامة أهل البلد ونثر عليه الدنانير والدراهم والسكر الكثير، فبقي أيامًا، فكتب محمد بن يحيى الذهلي إلى أمير بخارى خالد بن أحمد الذهلي: إن هذا الرجل قد أظهر خلاف السنة. فقرأ كتابه على أهل بخارى، فقالوا: لا نفارقه. فأمره الأمير بالخروج من البلد، فخرج
(4)
.
(1)
تاريخ بغداد (2/ 340).
(2)
تاريخ دمشق (52/ 92).
(3)
تاريخ بغداد (2/ 340).
(4)
سير أعلام النبلاء (12/ 463).
وقد ذكر المؤرخون سببًا آخر يمكن أن يكون هو السبب الحقيقي لنفرة هذا الأمير من البخاري. فقد طلب من البخاري لما قدم "بخارى" أن يحمل " الجامع " و " التاريخ " وغيرها من كتبه ليسمعها الأمير وأهل بيته، لكن البخاري اعتبر ذلك إذلالًا للعلم. وقال لرسوله: " أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلي شيء منه حاجة، فاحضر إلى مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فإنك سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم
(1)
، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار
(2)
"
توجه إلى سمرقند بعدما آذاه والي بخارى ونفاه منها، فلما وصل إلى "خَرْتَنْك"
(3)
وهي قرية على ثلاثة فراسخ
(4)
من سمرقند، كان له بها أقرباء فبقي فيها أيامًا قليلة، ثم توفي وكان ذلك ليلة السبت ليلة عيد الفطر عند صلاة العشاء، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر سنة ستة وخمسين ومائتين، وعاش اثنين وستين سنة إلا ثلاثة عشر يومًا
(5)
وكانت حياته كلها حافلة بالعلم معمورة بالعبادة، فجزاه الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء.
(1)
تاريخ بغداد (2/ 340).
(2)
حديث صحيح أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب العلم (1/ 181)(343)، ووافقه الذهبي.
(3)
معجم البلدان (2/ 356).
(4)
الفرسخ: مقياس من مقاييس الطول يقدر بثلاثة أميال، أو اثني عشر ألف ذراع. (نحو ستة كيلو مترات)، معجم لغة الفقهاء، محمد رواس قلعجي - حامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة: الثانية، 1408 هـ - 1988 م. (ص: 451).
(5)
تاريخ بغداد (2/ 340) ووفيات الأعيان (4/ 190)، سير أعلام النبلاء (12/ 466).