الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب: قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» إِذَا كَانَ النَّوْحُ مِنْ سُنَّتِهِ. لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى (قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا). وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» . فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ سُنَّتِهِ، فَهُوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - (لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). وَهُوَ كَقَوْلِهِ (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) ذُنُوبًا (إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَىْءٌ) وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ في غَيْرِ نَوْحٍ. وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا» . وَذَلِكَ لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ.
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم «يُعَذَّبُ الْمَيِّتُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ) المتضمن للنوح المنهي عنه، (عَلَيْهِ) وليس المراد مع العين؛ لجوازه، وإنّما المراد البكاء الذي يتبعه النوب والنوح، كما أشرنا إليه آنفًا، فإنّ ذلك إذا أجتمع سمي بكاءً.
قال الخليل: مَن قصر البكاء، ذهب به إلى معنى الحزن، ومَن مده ذهب به إلى معنى الصراخ
(1)
، كذا قال القسطلاني
(2)
.
وفيه: أنّه على تقدير ثبوته لا يظهر وجه التقييد بالبعضية، وقال الحافظ العسقلاني: هذا يعني التقييد بالبعضية تقييد من المصنف، وحملٌ منه؛ لرواية ابن عباس رضي الله عنهما المقيدة بالبعضية على رواية ابن عمر رضي الله عنهما، المطلقة، كما ساقه في الباب عنهما
(3)
.
(1)
المحكم والمحيط الأعظم [ب ك ى](7/ 115)، عمدة القاري (8/ 81).
(2)
إرشاد الساري (2/ 400).
(3)
فتح الباري (3/ 152).
وتعقبه العيني: بأنّه ليس تقييدًا من المصنف، بل هما حديثان، أحدهما مطلق والآخر مقيّد، فترجم بلفظ الحديث المقيد تنبيها على أنّ الحديث المطلق محمول على المقيد؛ لأنّ الدلائل دلت على تخصيص العذاب ببعض البكاء لا بكله؛ لأن البكاء بغير نوح مباح، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى
(1)
.
(إِذَا كَانَ النَّوْحُ) والمراد به ما كان من البكاء بصياح وعويل، وما يلتحق بذلك من لطم خد أو شق جيب وغير ذلك من المنهيات، (مِنْ سُنَّتِهِ) هذا ليس من الحديث المرفوع، بل هو من كلام المؤلف قاله استنباطًا وتفقهًا، وبقيّة السياق يرشد إلى ذلك، وهذا الذي جزم به هو أحد الأقوال في تأويل الحديث الآتي
(2)
.
واختلف في ضبط قوله: "من سنته"، فللأكثر في الموضعين: بضم المهملة وتشديد النون وبالتاء المثناة الفوقيّة، أي: من عادته وطريقته
(3)
.
وقال ابن قرقول: أي: مما سنه واعتاده، إذ كان من العرب من يأمر بذلك أهله، وضبطه بعضهم بفتح المهملة بعدها موحدتان، أي: من أجله.
[134 أ/ص]
/قال: صاحب "المطالع"
(4)
: حكى عن أبي الفضل محمد بن ناصر: أنّ الأول تصحيف، والصواب هو الثاني، قال: وأيّ سنّة للميت
(5)
.
[59 ب/ص]
وقال الزين ابن المنير: بل الأوّل أولى؛ لإشعاره / بالعناية بذلك، إذ لا يقال: من سنّته إلا عند غلبة ذلك عليه واشتهاره به
(6)
.
(1)
عمدة القاري (8/ 70).
(2)
فتح الباري (3/ 152).
(3)
فتح الباري (3/ 152).
(4)
مطالع الأنوار، حرف السين، (5/ 452).
(5)
عمدة القاري (8/ 70).
(6)
فتح الباري (3/ 152)
وقال الحافظ العسقلاني: وكأن البخاري ألهم هذا الخلاف فأشار إلى ترجيح الأول، حيث استشهد بالحديث الذي فيه؛ لأنّه أوّل من سنّ القتل، فإنّه يثبت ما استبعده ابن ناصر بقوله: وأيّ سّنة للميت
(1)
.
وقال الزركشي: هذا منه، أي: من المؤلف، حمل النهي عن ذلك على أنّه يوصي بذلك فيعذب بفعل نفسه
(2)
.
وتعقّبه صاحب مصابيح الجامع: بأنّ الظاهر أنّ البخاري لا يعني الوصية، وإنّما يعني: العادة، يدل عليه قوله: من سنته، إذْ السنّة الطريقة والسيرة يعني: إذا كان الميت قد عود أهله أن يبكوا على من يفقدونه في حياته، وينوحوا عليه بما لا يجوز، وأقرّهم على ذلك، وأن لم يوص، فإنْ وصّى فهو أشد
(3)
.
(لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى): {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (قُوا أَنْفُسَكُمْ) بترك المعاصي وفعل الطاعات، (وَأَهْلِيكُمْ) بأن تأخذوهم بما تأخذون به أنفسكم، وتنصحوهم وتؤدبوهم، وفي الحديث:"رحم الله رجلًا قال يا أهلاه: صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم، لعلّ الله يجمعهم معه في الجنة"
(4)
، وقيل: إن أشدّ الناس عذابًا يوم القيامة من جهل أهله
(5)
.
(1)
نفس المصدر: (3/ 152).
(2)
التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح لبدر الدين الزركشيّ (314).
(3)
مصابيح الجامع، الإمام القاضي بدر الدين الدماميني، تحقيق، نور الدين طالب، إصدارات وزارة الأوقاف، قطر، ط 1، 1430 هـ -2009 م (3/ 237).
(4)
أورد هذا الحديث في تفسير كشاف بدون سند، ولم أقف عليه في غيرها من كتب الحديث، تخريج أحاديث كشاف (4/ 66)، وقال الزيلعي: حديث غريب.
(5)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد، الزمخشري جار الله (المتوفى: 538 هـ)، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة: الثالثة - 1407 هـ (4/ 568).
(نَارًا) وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6]، أي: نوعًا من النار لا تتقد إلا بالناس والحجارة، كما يتقد غيرها بالحطب، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، يعني: حجارة الكبريت، وهي أشدّ الأشياء حرًا إذا أوقد عليها
(1)
.
ووجه الاستدلال بالآية: أنّ هذا الأمر عام في جهات الوقاية ومن جملتها أن لا يكون الأصل مولعًا بأمر منكر كالنوح مثلًا، فإذا كان مولعًا به فأهله يقتدون به، فهو صار سببًا لفعل أهله ذلك المنكر، فما وقى أهله من النار، فخالف الأمر فيعذب بذلك، وكذا إذا عرف أنّ لأهله عادة بفعل منكر من نوح أو غيره، وأهمل نهيهم عنه فيكون لم يَقِ نفسه ولا أهله
(2)
.
[135 أ/س]
(وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم:) مما تقدّم موصولًا في حديث لابن عمر رضي الله عنهما، في الجمعة
(3)
، (كُلُّكُمْ رَاعٍ) وهو: الحافظ المؤتمن الملتزم لصلاح ما قام عليه وما هو تحت نظره، فكلّ من /كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ودنياه، فإن وفّى ما عليه من الرعاية حصل له الحظ الأوفر والجزاء الأكبر، وإنْ كان غير ذلك طالبه كل أحد من رعيته بحقه.
(وَمَسْئُولٌ) في الآخرة (عَنْ رَعِيَّتِهِ) هل وفى حقوقهم أو لا، ووجه الاستدلال به: أنّ الرجل إذا كان راعيًا لأهله وجاء منه منكر يتبعه أهله على ذلك، أو رآهم يفعلون منكرًا ولم ينههم عن ذلك، فإنّه يسأل عنه يوم القيامة؛ لأنّ ذلك كان من سنته.
فإن قيل: كيف استدلّ البخاري بهذه الآية، والحديث على ما ذهب إليه من حمل حديث الباب عليه من تعذيب الميت ببعض بكاء أهله، إذا كان من سنته، فإن الآية والحديث يقتضيان العموم؟
(1)
معالم التنزيل في تفسير القرآن = تفسير البغوي، محيي السنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفراء البغوي الشافعي (المتوفى: 510 هـ)، المحقق: عبد الرزاق المهدي، الناشر: دار إحياء التراث العربي -بيروت، الطبعة: الأولى، 1420 هـ (1/ 94).
(2)
فتح الباري (3/ 152).
(3)
صحيح البخاري، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن (2/ 5)(893).
فالجواب: أنّه لا مانع في سلوك طريق الجمع من تخصيص بعض العمومات، وتقييد بعض المطلقات، فالآية والحديث وإن كانا دالّين على تعذيب كل ميت بكل بكاء، لكن دلّت أدلة أخرى على تخصيص ذلك ببعض الميّت وبعض البكاء، ويتقيّد ذلك بمن كانت تلك سنته، أو أهمل النهي عن ذلك، وأما من لم يكن له علم بما يفعله أهله من المنكر أو أدّى ما عليه، بأن نهاهم فلم ينتهوا، فهذا لا مؤاخذة عليه بفعل غيره، ولهذا قال عبد الله بن المبارك: إذا كان ينهاهم في حياته ففعلوا شيئًا من ذلك بعد وفاته لم يكن عليه شيء
(1)
.
ومن ثمة قال المؤلف: (فَإِذَا لَمْ يَكُنْ) النوح (مِنْ سُنَّتِهِ) أي: كمن لا شعور عنده بأنهم يفعلون شيئًا من ذلك، أو نهاهم عنه فلم ينتهوا (فَهُوَ) أي: فلا مؤاخذة عليه، بل هو (كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها) مستدلّة لما أنكرت على عمر رضي الله عنه حديثه المرفوع الآتي، إن شاء الله تعالى قريبًا، بقوله تعالى:({وَلَا تَزِرُ}) أي: لا تحمل، ({وَازِرَةٌ}) نفس حاملة ذنبًا ({وِزْرَ}) ذنب نفس ({أُخْرَى})، [فاطر: 18].
وحاصله: أنّ كلّ نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته، لا تؤخذ نفس بذنب نفس كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي، والجار بالجار، وهذا حمل من المؤلف؛ لإنكار عائشة رضي الله عنها، على إنكار عموم التعذيب لكل ميت يبكي عليه.
[135 أ/ص]
(وَهُوَ) أي: ما استدلت به عائشة رضي الله عنها، من قوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18]، (كقوله) تعالى:({وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} ذُنُوبًا)، وليس قوله:" ذنوبًا"، من التلاوة، وإنّما هو في تفسير مجاهد
(2)
، فنقله المؤلف، والمعني: /وإن تدع نفس اثقلتها أوزارها أحدًا من الآحاد، ({إِلَى حِمْلِهَا}) أي: إلى أن يحمل بعض ما عليها من الأوزار والآثام، ({لَا يُحْمَلْ}) بالجزم على جواب
(1)
سنن الترمذي، أبواب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت (3/ 317)(1002).
(2)
تفسير مجاهد، المؤلف: أبو الحجاج مجاهد بن جبر التابعي المكي القرشي المخزومي (المتوفى: 104 هـ)، المحقق: الدكتور محمد عبد السلام أبو النيل، الناشر: دار الفكر الإسلامي الحديثة، مصر، الطبعة: الأولى، 1410 هـ - 1989 م (1/ 557).
"أن"، {مِنْهُ شَيْءٌ} [فاطر: 18]، ولو كان أي: المدعو المفهوم من قوله: " وإن تدع مثقلة"، وإنما ترك ذكره؛ ليعمّ كلّ مدعو، واستقام إضمار العام مع أنّه لا يصح أن يكون العام ذا قربى للمثقلة؛ لأنّه من العموم الكائن على البدل لا على الشمول.
"ذا قربى"، أي: ذا قرابتها من أب أو أم أو ولد أو أخ، وهذا يدلّ على ألا غياث يومئذ لمن استغاث من الكفار، حتى إن نفسًا قد أثقلتها الأوزار لو دعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث، وموقع التشبيه بين الآيتين أنّ الأولى دلت على أنّ النفس المذنبة لا يؤاخذ غيرها بذنبها، فكذلك الثانية دلت على أن النفس المذنبة لا يحمل عنها غيرها شيئًا من ذنوبها ولو طلبت ذلك ودعت إليه.
وأمّا قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13]، ففي الضالين المضلين، وإنّهم يحملون أثقال أضلال الناس مع أثقال ضلالهم، وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم، ألا ترى كيف كذّبهم الله تعالى في قولهم:{اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} بقوله: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [العنكبوت: 12].
[60 ب/س]
ثم قوله وهو كقوله: {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ} إلى آخره، إنّما وقع في رواية / أبي ذر وحده، كما قاله الحافظ العسقلاني
(1)
.
(وَمَا يُرَخَّصُ مِنَ الْبُكَاءِ) في المصيبة (فِى غَيْرِ نَوْحٍ) هذا عطف على أول الترجمة، وقال الكرماني: أو هو عطف على "كما قالت"، أي: فهو كما يرخص في عدم العذاب
(2)
، وكلمة "ما" يجوز أن يكون موصولة، وأن تكون مصدرية.
وترخيص البكاء في غير نوح جاء في حديث أخرجه الطبراني في "الكبير" بإسناده إلى عامر بن سعد قال: دخلت عرشًا، وفيه: قرظة بن كعب، وأبو مسعود الأنصاري، فذكر حديثًا لهما وفيه
(1)
فتح الباري (3/ 152).
(2)
الكواكب الدراري (7/ 80).
قالا: " إنّه قد" رخص لنا البكاء عند المصيبة من غير نوح"
(1)
، وصحّحه الحاكم، ولكن ليس إسناده على شرط البخاري؛ فلذلك لم يذكره واكتفى بالإشارة إليه، واستغنى عنه بأحاديث الباب الدالة على مقتضاه.
[136 أ/س]
وقَرَظَة، بفتح القاف والراء والظاء: المشالة أنصاري خزرجي، كان أحد من وجهه عمر رضي الله عنه، إلى الكوفة ليتفقه الناس، وكان على يده فتح الري، /واستحلفه علي رضي الله عنه، على الكوفة، وقال ابن سعد وغيره: مات في خلافة علي رضي الله عنه
(2)
.
(وَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ) على صيغة المجهول، (ظُلْمًا) نصب على التمييز، أي: من حيث الظلم، (إِلَاّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ) المراد به
(3)
قابيل: الذي قتل أخاه شقيقه هابيل ظلمًا وحسدًا، وروى أنّه أوحى الله تعالى إلى آدم عليه الصلاة والسلام: أن يزوج كل واحد منهما توأمة الآخر، وكانت توأمة قابيل أجمل واسمها أقليما، فحسد عليها أخاه وسخط، فقال لهما آدم: قربا قربانًا، فمِن أيّكما قبل تزوجها، فقبل قربان هابيل بأنّ نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسدًا وسخطًا، وتوعده بالقتل، حتى قتله، فهو أوّل قتيل قتل على وجه الأرض من بني آدم، ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع، فخاف عليه السباع فحمله في جراء على ظهره سنة حتى أروح وانتن، وعكفت عليه السباع، فبعث الله غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما الآخر، فحفر له بمنقاره ورجليه، ثمّ ألقاه في الحفرة، فقال: يا ويلتى أعجزت أن أفعل مثل ذلك، وروى أنّه لما قتله أسودّ جسده، وكان أبيض فسأله آدم عليه السلام، عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلًا، فقال: بل قتلته، ولذلك أسود
(1)
المعجم الكبير، باب القاف قرظة بن كعب الأنصاري (19/ 39)(82) من طريق إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد البجلي إسناده متصل ورجاله ثقات، قال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 19) (4054): رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3/ 64)(12133) بهذا الإسناد، وأخرجه حاكم في "المستدرك على الصحيحين"، كتاب النكاح (1/ 183) (348) من طريق: إسرائيل، عن عثمان بن أبي زرعة، عن عامر بن سعد البجلي.
(2)
الطبقات الكبرى (6/ 95).
(3)
(به) سقط من ب.
جسدك، وروى أنّ آدم عليه السلام، مكث بعد قتله مائة سنة، لا يضحك، وقيل: قتل، وهو ابن عشرين سنة، وكان قتله عند عقبة حراء، وقيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم
(1)
.
(كِفْلٌ) بكسر الكاف، أي: نصيب وحظ، وقال الخليل: الضعف
(2)
، (دَمِهَا وَذَلِكَ) أي:: كون الكفل على ابن آدم الأول (بأنّه
(3)
) أي: بسبب أنّ ابن آدم الأول (أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ) أي: قتل النفس ظلمًا وحسدًا.
وهذا الحديث طرف من حديث ابن مسعود رضي الله عنه وصله المصنف
(4)
في الديات
(5)
وغيرها، وهو من قواعد الإسلام موافق لحديث "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة، فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء"، أخرجه مسلم عن جرير رضي الله عنه
(6)
.
[136 أ/ص]
ثمّ وجه الاستدلال بهذا الحديث: أنّ القاتل المذكور يشارك من صنع صنيعه؛ لكونه فتح له الباب، ونهج /له الطريق، فكذلك من كانت طريقته النوح على الميت يكون قد فتح لأهله هذا الطريق، فيؤاخذ على فعله الأول.
وحاصل ما أراد البخاري في هذه الترجمة: أنّ الشخص لا يعذب بفعل غيره، إلا إذا كان له فيه تسبب، فمن قال بجواز تعذيب شخص بفعل غيره فمراده هنا، ومن نفاه فمراده ما إذا لم يكن له فيه تسبب أصلًا.
(1)
تفسير الطبري (8/ 322) من طريق حُمَيْدٍ، قَالَ: ثنا سَلَمَةُ، عَنِ ابْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عن الكتاب الأَوَّلِ. وتفسير الزمخشري (1/ 624 - 626).
(2)
العين (5/ 373).
(3)
في أصل البخاري (لأَنَّهُ)
(4)
[المؤلف] في ب.
(5)
صحيح البخاري، كتاب الديات، باب قول الله تعالى:{ومن أحياها} [المائدة: 32](9/ 3)، (6867).
(6)
صحيح مسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على الصدقة ولو بشق تمرة، أو كلمة طيبة وأنها حجاب من النار (2/ 704)(1017).
وفيه: الردّ على القائل بأنّ الإنسان لا يعذب إلا بذنب يباشره بقوله أو فعله، ولا يعذب بما كان له فيه تسبب
(1)
والله أعلم.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1284 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ وَمُحَمَّدٌ قَالَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِى عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ - رضى الله عنهما - قَالَ أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِ إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ فَائْتِنَا. فَأَرْسَلَ يُقْرِئُ السَّلَامَ وَيَقُولُ «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى، فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ» . فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا، فَقَامَ وَمَعَهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَرِجَالٌ، فَرُفِعَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الصَّبِىُّ وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ - قَالَ حَسِبْتُهُ أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ. فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ. فَقَالَ سَعْدٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا فَقَالَ «هَذِهِ رَحْمَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ في قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَإِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ»
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا عَبْدَانُ
(2)
) بفتح العين وسكون الموحدة عبد الله بن عثمان أبو عبد الرحمن.
(وَمُحَمَّدٌ) هو: ابن مقاتل، (قَالَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هو: ابن مبارك، (قال: أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ سُلَيْمَانَ
(3)
) الأحول، (عَنْ أَبِى عُثْمَانَ
(4)
): عبدالرحمن بن مَلّ، بفتح الميم وتشديد اللام
(1)
فتح الباري (3/ 153)، وعمدة القاري (8/ 72).
(2)
هو: عبد الله بن عثمان بن جَبَلة بن أبي رَوّاد، العَتكي، أبو عبد الرحمن المروزي، الملقب عبدان، ثقة حافظ من العاشرة مات سنة إحدى وعشرين مائتين. تقريب التهذيب (ص: 313) (3465).
(3)
هو: عاصم بن سليمان الأحول، أبو عبد الرحمن البصري، ثقة، من الرابعة، لم يتكلم فيه إلا القطان فكأنه بسبب دخوله في الولاية، مات بعد سنة أربعين ومائة، تقريب التهذيب (ص: 285) (3060).
(4)
هو: عبد الرحمن بن ملّ بلام ثقيلة والميم مثلثة، أبو عثمان النَهْدي، مشهور بكنيته مخضرم من كبار الثانية ثقة ثبت عابد مات سنة خمس وتسعين وقيل بعدها، تهذيب الكمال (17/ 424)(3968).
النهدي، وقد مر في الصلاة كفارة، وفي رواية شعبة في أواخر "الطب"، عن عاصم: سمعت أبا عثمان"
(1)
(قَالَ حَدَّثَنِى) بالإفراد، (أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ): بن حارثة
(2)
حبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومولاه وأمه أم أيمن، واسمها بركة، حاضنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومولاته وورثها من أبيه، وأعتقها حين تزوج خديجة، وزوجها لزيد مولاه، فولدت له أسامة
(3)
، وقد مر في إسباغ الوضوء.
(قَالَ: أَرْسَلَتِ ابْنَةُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم) هي: زينب، كما وقع في رواية: أبي معاوية، عن عاصم المذكور في مصنف ابن أبي شيبة
(4)
وكذا ذكره ابن بشكوال
(5)
، (إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، (إِنَّ ابْنًا لِى قُبِضَ) على صيغة المجهول أي: قرب من أن يقبض، فهو مجاز باعتبار أنّه في حال القبض، ويدل عليه أن في رواية حماد "أرسلت تدعوه إلى ابنها في الموت".
قيل: إن الابن المذكور هو: علي بن أبي العاص بن الربيع كذا كتب الدمياطي بخطه في الحاشية.
ونظر فيه الحافظ العسقلاني: بأنّه لم يقع مسمى في شيء من طرق هذا الحديث، وأيضًا فقد ذكر الزبير بن بكار
(6)
، وغيره من أهل العلم بالأخبار: أن عليًا المذكور عاش حتى ناهز الحلم، وأن
(1)
صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الصبيان (7/ 117)، (5655).
(2)
(بن حارثة) سقط من ب
(3)
تهذيب الكمال في أسماء الرجال (35/ 329).
(4)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب: من رخص في البكاء على الميت (3/ 62)، (12123).
(5)
غوامض الأسماء المبهمة الواقعة في متون الأحاديث المسندة، أبو القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن بشكوال الخزرجي الأنصاري الأندلسي (المتوفى: 578 هـ)، المحقق: د. عز الدين علي السيد، محمد كمال الدين عز الدين، الناشر: عالم الكتب - بيروت، الطبعة: الأولى، 1407 (1/ 305).
(6)
هو: الزبير بن بكار بن عبد الله القرشي الأسدي المكي، من أحفاد الزبير بن العوام، أبو عبد الله: عالم بالأنساب وأخبار العرب، راوية. (المتوفى: 256 هـ)، سير أعلام النبلاء (12/ 315)(120).
النبيّ صلى الله عليه وسلم، أردفه على راحلته يوم فتح مكة، ومثل هذا لا يقال في حقه صبيّ عرفًا، وإنْ جاز من حيث اللغة
(1)
.
[60 ب/ص]
[137 أ/س]
وتعقبه العيني: بأنه لا يلزم من عدم إطلاقه على أن الابن المذكور هو علي في طرق هذا الحديث أن لا يطلع عليه غيره في طريق من الطرق التي لم يطلع هو عليها، ومن أين له إحاطة جميع طرق هذا الحديث أو غيره؟ والدمياطي حافظ متقن وليس ذكر هذا من عنده لأنّ مثل هذا توقيفي فلا دخل للعقل فيه، فلو لم يطلع عليه لم يصرح به، /وقوله: لا يقال في حقه صبي عرفًا، ممنوع؛ بل يقال: إلى أن يقرب من البلوغ عرفًا، وأما الصبي في اللغة: فقد قال ابن سيده في المحكم: الصبي من لدن / يولد إلى أن يفطم، والجمع أصْبِيَةٌ، وصِبْيَةٌ وصِبْيان
(2)
هذا
(3)
.
وقال الحافظ العسقلاني: ووجدت في الأنساب للبلاذري أنّ عبد الله بن عثمان بن عفان رضي الله عنهما من رقية بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، لما مات وضعه النبيّ صلى الله عليه وسلم، في حجره وقال:"إنما يرحم الله عباده الرحماء"
(4)
، وفي مسند البزار من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ثقل ابن لفاطمة رضي الله عنها، فبعثت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم "
(5)
فذكر نحو حديث الباب.
وفيه: مراجعة سعد بن عبادة في البكاء، فعلى هذا فالابن المذكور محسن بن علي رضي الله عنهما، وقد أتفق أهل العلم بالأخبار: أنه مات صغيرًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا أولى أن يفسر به الابن
(1)
فتح الباري (3/ 156).
(2)
المحكم والمحيط، الصاد والباء والواو ص ب (8/ 384).
(3)
عمدة القاري (8/ 73).
(4)
جمل من أنساب الأشراف، المؤلف: أحمد بن يحيى بن جابر بن داود البَلَاذُري (المتوفى: 279 هـ) تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي، الناشر: دار الفكر - بيروت، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1996 م (1/ 401).
(5)
مسند البزار، مسند أبي حمزة أنس بن مالك (17/ 1799)، (9802)، من طريق إسماعيل بن مسلم، عن عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة رضي الله عنه، إسناد ضعيف، فيه: إسماعيل ابن مسلم المكي، قال البخاري: تركه ابن المبارك ويحيى وابن مهدي، وقال ابن حجر في "التقريب" (ص: 110) (484): ضعيف الحديث.
المذكور إنْ ثبت أنّ القصة كانت لصبي ولم يثبت أنّ المرسلة زينب رضي الله عنها؛ لكن الصواب في حديث الباب
(1)
، أنّ المرسلة زينب، وأنّ الولد صبية كما ثبت في مسند أحمد عن معاوية بالسند المذكور لفظه "أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمامة
(2)
بنت زينب- وهي لأبي العاص بن الربيع- ونفسها تقعقع كأنها في شن"
(3)
.
ووقع في رواية بعضهم: أُمَيْمَة، بالتصغير، وهي: أمامة المذكورة، فقد أتفق أهل العلم بالنسب: أن زينب لم تلد لأبي العاص إلا عليًا وأمامة فقط.
فإن قيل: إن أهل العلم بالأخبار قد اتفقوا على أنّ أمامة بنت أبي العاص من زينب بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، عاشت بعد النبيّ صلى الله عليه وسلم، حتى تزوجها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بعد وفاة فاطمة رضي الله عنها، ثم عاشت عنده حتى قتل عنها.
فالجواب: أنه قد سبق أنّ المراد بقوله: قبض، أي: قارب أن يقبض، فعلى هذا يكون الله تعالى أكرم نبيه صلى الله عليه وسلم، لمّا سلّم لأمر ربه، وصبر ابنته ولم يملك مع ذلك عينيه من الرحمة والشفقة، بأن عافى ابنة ابنته في ذلك الوقت، فخلصت من تلك الشدة، وعاشت تلك المدة
(4)
، فهذا ينبغي أن يذكر في دلائل النبوة.
وفي رواية شعبة: "أن ابنتي قد حضرت"
(5)
، وعند أبي داود من طريقه "أن ابني أو ابنتي"
(6)
وقوله: "أو ابنتي" شك من الراوي، والصواب قول من قال:"ابنتي" لا ابني، ويؤيّده ما راوه الطبراني في ترجمة عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، في "المعجم الكبير" من طريق الوليد بن إبراهيم بن
(1)
فتح البارى (3/ 156).
(2)
[بأميمة]
(3)
مسند الإمام أحمد، حديث أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم (17/ 179)(9802) إسناده صحيح رجاله رجال الشيخين.
(4)
فتح الباري (3/ 156).
(5)
صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الصبيان (7/ 117)، (5655).
(6)
سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في البكاء على الميت (3/ 193)، (3125).
عبدالرحمن بن عوف، عن أبيه، عن جده قال:" استُعِزّ بأمامة بنت أبي العاص، فبعثت زينب /بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إليه تقول له. . . . "
(1)
، فذكر نحو حديث أسامة، وفيه مراجعة سعد في البكاء، وقوله: استُعِزّ، بضم المثناة الفوقية وكسر العين المهملة وتشديد الزاي، أي: اشتد بها المرض، وأشرفت على الموت
(2)
.
[137 أ/ص]
هذا وقال العيني: الصواب قول من قال: "ابني" لا: "ابنتي"، كما نص عليه في رواية البخاري من طريق عبد الله بن المبارك، وجمع البرماوي بين ذلك باحتمال تعدد الواقعة، والله أعلم
(3)
.
(فَائْتِنَا فَأَرْسَلَ) صلى الله عليه وسلم، (يُقْرِئُ) عليها (السَّلَامَ) بضم الياء وروى بفتحها، وقال ابن التين: ولا وجه له إلا أنْ يريد يقرأ عليك
(4)
، وذكر الزمخشري عن الفراء يقال: قرأت عليه السلام وأقرأته السلام. وقال الأصمعيّ: لا يقال: أقرأته السلام، وقال الزمخشري: والعامة يقول: قرأت السلام، بغير همرة، وهو خطأ
(5)
.
(وَيَقُولُ: إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى) يحتمل أن يكون كلمة "ما" موصولة في الموضوعين، ومفعول "أخذ وأعطى"، مقدر ونكته حذفه لفظًا، هي الدلالة على العموم، فيدخل فيه "أخذ الولد" و"إعطاؤه" وغيرهما، ويحتمل أن تكون مصدرية، والتقدير: إن لله الأخذ والإعطاء، وهو أيضًا أعمّ من إعطاء الولد وأخذه.
(1)
المعجم الكبير، ومما أسند عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه (1/ 135)، (284)، فيه: الوليد بن إبراهيم وهو مجهول الحال، وقال الهيثمي في "المجمع"(3/ 18)(4049)، وفيه: الوليد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف ; ولم أجد من ذكره.
(2)
فتح الباري (3/ 153).
(3)
عمدة القاري (8/ 73).
(4)
عمدة القاري (8/ 73).
(5)
عمدة القاري (8/ 73).
والمعنى: أن الذي أراد الله أن يأخذه هو الذي كان أعطاه، فإنْ أخذه أخذ ما هو له، فلا ينبغي الجزع؛ لأن مستودع الأمانة لا ينبغي له أن يجزع إذا استعيدت منه، وقدّم الأخذ على الإعطاء وإن كان متأخرًا في الواقع؛ لأن المقام يقتضيه
(1)
.
(وَكُلٌّ) أي: وكل من الأخذ والإعطاء، أو أهو أعمّ منهما، (عِنْدَهُ) أي: في علمه تعالى فهو من مجاز الملازمة مقَدّر (بِأَجَلٍ مُسَمًّى) أي: معلوم، والأجل: يطلق على الحد الأخير، وعلى مجموع العمر أيضًا والحاصل: أنّ له الخلق كله، وبيده الأمر كله، وكلّ شيء عنده مقدّر بأجل مسمى، فإنّه لما خلق اللوح والقلم أمر القلم أن يكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة، لا معقب لحكمه.
(فَلْتَصْبِرْ) أمر للمؤنث الغائبة (وَلْتَحْتَسِبْ) أي: تنوى بصبرها طلب الثواب من ربها ليحسب لها ذلك من عملها الصالح.
[138 أ/س]
(فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ) صلى الله عليه وسلم، (تُقْسِمُ عَلَيْهِ لَيَأْتِيَنَّهَا) جملة وقعت حالًا من فاعل أرسلت ووقع في حديث عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه:"أنها راجعته مرتين"، وأنّه إنما قام في ثالث مرة وكأنها ألحت عليه /في ذلك دفعًا لما يظنه بعض الجهلة أنها ناقصة المكانة عنده، أو ألهمها الله تعالى أن حضور نبيه عندها يدفع عنها ما هي فيه من الألم ببركة دعائه وحضوره صلى الله عليه وسلم، فحقق الله ظنها وترك الإجابة أولًا؛ لأنه كان في شغل ذلك الوقت، أو كان امتنع من الإجابة مبالغة في إظهار التسليم لربه، أو كان لبيان الجواز في أنّ من دعي لمثل ذلك لم يجب عليه الإجابة، بخلاف الوليمة مثلًا، وأما إجابته صلى الله عليه وسلم، بعدما ألحت عليه، فلما ذكر من دفع ما يظنه بعض الجهلة، أو أنّه لما رآها عزمت عليه بالقسم حن عليها فأجابه
(2)
.
(فَقَامَ) صلى الله عليه وسلم، (وَمَعَهُ) بإثبات الواو، وفي رواية:" معه" بحذفها
(3)
، (سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ) بضم العين المهملة: الخزرجي، كان سيدًا جوادًا ذا رياسة، غيورًا، مات بالشام، ويقال: إنه قتله الجن.
(1)
فتح الباري (3/ 153).
(2)
عمدة القاري (8/ 73).
(3)
إرشاد الساري (2/ 402).
وفيه البيت المشهور من لسان الجن:
قَدْ قَتَلْنَا سَيِّدَ الْخَزْرَجِ سَعْدَ بْنَ عُبَادَهْ. . . وَرَمَيْنَاهُ بِسَهْمَيْنِ فَلَمْ نُخْطِ فُؤَادُهْ
(1)
.
[61 ب/س]
/ (وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) بضم الميم، وقد مرّ في أول "كتاب الإيمان"، (وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ) بضم الهمرة وفتح الموحدة، وقد مر في باب ما يذكر من ذهاب موسى من "كتاب العلم"، (وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ) المذكور في "باب ما يذكر في الفخذ" من "كتاب الصلاة"، (وَرِجَالٌ) آخرون رضي الله عنهم، ذكر منهم في غير هذه الرواية، عبادة بن الصامت، وهو في رواية عبدالواحد في أوائل التوحيد
(2)
وفي رواية شعبة: أن أسامة راوى الحديث رضي الله عنه، كان معهم
(3)
، وكذا في رواية عبدالرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنّه كان معهم، ووقع في رواية: شعبة في الأيمان والنذور"، وأَبِي أو أُبَي"، فالأوّل بفتح الهمزة وكسر الموحدة وتخفيف الياء، فعلى هذا كان زيد بن حارثة رضي الله عنه، معهم، والثّاني بضم الهمزة وفتح الموحدة وتشديد الياء، وهو: أُبَيّ بن كعب، ورواية البخاري ترجح الثاني؛ لأنّه ذكر فيها بلفظ:" وأُبَيّ بن كعب"، وكان الشك من شعبة؛ لان ذلك لم يقع في رواية غيره، والله أعلم
[138 أ/ص]
(فَرُفِعَ) بالراء من الرفع، وفي رواية حماد:" فدفع"، بالدال
(4)
، وبيّن في رواية شعبة: أنّه وضع في حجره صلى الله عليه وسلم،
(5)
وفيه حذف إيجاز، والتقدير: فمشوا إلى أن وصلوا إلى بيتها، فاستأذنوا /فأذن لهم فدخلوا فرفع (إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، الصَّبِىُّ) وفي رواية عبدالواحد بلفظ "فلما دخلنا ناولوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبي"
(6)
.
(1)
الطبقات الكبرى (3/ 463)
(2)
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قول الله تعالى:{إن رحمة الله قريب من المحسنين} (9/ 133)، (7448).
(3)
صحيح البخاري (7/ 117)، (5655).
(4)
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى:{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110](9/ 115)، (7377). وعمدة القاري (8/ 74).
(5)
صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الصبيان (7/ 117)، (5655).
(6)
صحيح البخاري (9/ 133)، (7448).
(وَنَفْسُهُ تَتَقَعْقَعُ) بتائين في أوله، وفي بعض النسخ "تقعقع"
(1)
، قيل: هي من القعقعة والظاهر: أنها من التقعقع أيضًا، لكنّه حذف إحدى التائين، وهي جملة حالية أي: تضطرب وتتحرك، أي: كلما صارت إلى حالة لم تلبث أن تصير وتنتقل إلى حالة أخرى؛ لقربه من الموت.
والقعقعة: حكاية صوت الشيء اليابس إذا حرك، قال الأزهري: يقال للجلد اليابس إذا تخشخش، فحكى صوت حركاته قعقع قعقعة
(2)
وقال ابن الأعرابي
(3)
: القعقعة، والعقعقة، والشخشخة، والخشخشة، والحفحفة، والفحفحة، والشنشنة، والنشنشة، كلّها حركة القرطاس والثوب الجديد
(4)
.
وفي الصحاح: العقعقة حكاية صوت السلاح
(5)
، وفي "نوادر أبي مسحل": أخذته الحمى بقعقعة أي برعدة
(6)
،
وفي الجامع للقزاز: العقعقة: الصوت الحجارة والخطاف والبكرة والمحور، وفي المحكم: قعقعته حركته
(7)
.
(قَالَ) أي: أبو عثمان النهدي: (حَسِبْتُهُ) أي: أسامة رضي الله عنه، (أَنَّهُ قَالَ - كَأَنَّهَا شَنٌّ) بفتح المعجمة وتشديد النون: القربة الخلقة اليابسة، والجمع شنان
(8)
، وضبطه بعضهم بكسر الشين وليس بشيء.
(1)
عمدة القاري (8/ 74).
(2)
التهذيب اللغة، باب العين والقاف (1/ 52).
(3)
تهذيب اللغة (1/ 34)
(4)
لسان العرب، فصل القاف (8/ 286).
(5)
الصحاح [قعع](3/ 1269).
(6)
نوادر أبي مسحل، عبد الوهاب بن حريش الأعرابي أبو محمد، الملقب بـ أبي مسحل (المتوفى: نحو 230 هـ) تحقيق: د. عزة حسين. دار النشر: مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق. سنة الطبع: الأولى 1380 هـ - 1960 م. (19).
(7)
المحكم والمحيط الأعظم [ق ع ع](1/ 57)
(8)
جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (المتوفى: 321 هـ)، المحقق: رمزي منير بعلبكي، الناشر: دار العلم للملايين - بيروت، الطبعة: الأولى، 1987 م [ش ن ن](1/ 140)
وفي رواية حماد "ونفسه تقعقع كأنها في شن"
(1)
ووجه هذه الرواية أنّه شبه البدن بالجلد اليابس الخلق، وحركة الروح فيه، كما يطرح في الجلد من حصاة ونحوها، وأما وجه الرواية الأولى: فهو أنّه شبه النفس بنفس الجلد، وهو أبلغ في الإشارة إلى شدة الضعف، والأول أظهر في التشبيه، والله أعلم
(2)
.
(فَفَاضَتْ) وفي رواية: "وفاضت"، بالواو
(3)
، (عَيْنَاهُ) صلى الله عليه وسلم، بالبكاء، يعني نزل منهما الدمع، وهذا هو موضع الترجمة؛ لأن البكاء العاري عن النوح لا يؤاخذ به الباكي ولا الميت.
(فَقَالَ سَعْدٌ) هو: ابن عبادة المذكور، وصرّح به في رواية عبدالواحد
(4)
، ووقع في رواية ابن ماجه من طريق عبد الواحد "فقال عبادة بن الصامت"
(5)
، والصواب ما في الصحيح.
[139 أ/س]
(يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا هَذَا) أي: فيضان العين كأنه استغرب ذلك منه؛ لأنه يخالف ما عهده منه من مقاومة المصيبة /بالصبر وفي رواية عبدالواحد "فقال سعد بن عبادة: أتبكي"
(6)
، وزاد أبو نعيم في المستخرج:"وتنهي عن البكاء"
(7)
.
(فَقَالَ:) صلى الله عليه وسلم (هَذِهِ) أي: الدمعة التي تراها من خزن القلب بغير تعمد ولا استدعاء (رَحْمَةٌ) أي: أثر رحمة، (جَعَلَهَا اللَّهُ) تعالى (فِى قُلُوبِ عِبَادِهِ) أي: رحمة على المقبوض تبعث على التأمل فيما هو عليه، وليس كما توهمت من الجزع وقلة الصبر، وفي بعض النسخ قال: "إنه
(1)
صحيح البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى:{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110](9/ 115)، (7377).
(2)
عمدة القاري (8/ 74).
(3)
إرشاد الساري (2/ 401).
(4)
صحيح البخاري، (9/ 133)، (7448).
(5)
سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت (1/ 506)، (1588)
(6)
صحيح البخاري، (9/ 133)، (7448).
(7)
المستخرج على صحيح الإمام مسلم، أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق بن موسى بن مهران الأصبهاني (المتوفى: 430 هـ)، المحقق: محمد حسن محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، الطبعة: الأولى، 1417 هـ - 1996 م. كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت (3/ 10)، (2065).
رحمة" أي: إن فيضان الدمع أثر رحمة، وفي لفظ: "في قلوب من شاء من عباده"
(1)
، وقد صحّ أن الله تعالى خلق مائة رحمة، فأمسك عنده تسعًا وتسعين، وجعل في عباده رحمة، فبها يتراحمون ويتعاطفون، وتحنّ الأم على ولدها، فإذا كان يوم القيامة جمع تلك الرحمة إلى التسعة والتسعين فأظل بها الخلق حتى أن إبليس رأس الكفر يطمع، لما يرى من رحمة الله، عز وجل
(2)
.
(فإِنَّمَا) وفي رواية: "وإنما"، بالواو
(3)
، (يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ) نصب على "إنما" في قوله:"فإنما" كافة، أو رفع على أنها موصولة أي: إن الذي يرحمهم الله من عباده الرحماء، ومن في قوله:"من عباده" بيانية، وهي حال من المفعول قدمت عليه؛ ليكون أوقع، وفي رواية شعبة في أواخر الطب "ولا يرحم الله من عباده إلا الرحماء"
(4)
، وهو: جمع رحيم، من صيغ المبالغة ومقتضاه: إن رحمة الله تعالى تختص بمن اتصف بالرحمة، وتحقق بها، بخلاف من فيها أدنى رحمة؛ لكن ثبت في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، عند أبي داود وغيره:"الراحمون يرحمهم الرحمن"
(5)
والراحمون، جمع راحم، فيدخل فيه كل من فيه أدنى رحمة.
فإن قيل: ما الحكمة في إسناد فعل الرحمة في حديث الباب إلى الله وأسناده في حديث أبي داود إلى الرحمن؟
فالجواب: أنّ لفظ الجلالة دال على العظمة، وقد عرف بالاسقراء أنّه حيث ورد يكون الكلام مسوقًا للتعظيم، فلما ذكر هنا ناسب ذكر من كثرت رحمته وعظمته؛ ليكون الكلام جاريًا على
(1)
صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الصبيان (7/ 117)، (5655).
(2)
كما جاء في صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب الرجاء مع الخوف (8/ 99)، (6469).
(3)
إرشاد الساري (2/ 402).
(4)
صحيح البخاري، كتاب المرضى، باب عيادة الصبيان (7/ 117)، (5655).
(5)
وسنن أبي داود، كتاب الأدب، باب في الرحمة (4/ 285)، (4941) من طريق: سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي قابوس، عن عبد الله بن عمر. وسنن الترمذي، أبواب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة المسلمين (4/ 323) (1924) بهذا الإسناد وقال: هذا حديث حسن صحيح.
نسق التعظيم، بخلاف الحديث الآخر، فإنّ لفظ الرحمن دال على العفو، فناسب أن يذكر معه كل ذي رحمة، وإن قلّت، والله أعلم
(1)
.
[61 ب/ص]
ورجال إسناد الحديث ما بين مروزي وبصري، وقد أخرج / متنه في (الطب) و (النذور) و (التوحيد)، وأخرجه مسلم في (الجنائز)، وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجه
(2)
.
وفي الحديث من الفوائد:
جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر؛ لرجاء بركتهم ودعائهم.
وجواز القسم عليهم لذلك، وجواز المشي إلى التعزية والعيادة بغير إذنٍ، بخلاف الوليمة.
[139 أ/ص]
واستحباب /إبرار القسم
(3)
، وأمر صاحب المصيبة بالصبر قبل وقوع الموت؛ ليقع وهو مستشعر بالرضى مقاومًا للحزن بالصبر، وتقديم السلام على الكلام، وعيادة المريض، ولو كان مفضولًا أو صبيًا أو صغيرًا.
وإن أهل الفضل لا ينبغي أن ييأس من فضلهم ولو ردوا أول مرة، واستفهام التابع من إمامه عما أشكل عليه مما يتعارض ظاهره، وحسن الأدب في السؤال، لتقديمه قوله:"يا رسول الله" على الاستفهام، والترغيب في الشفقة على خلق الله والرحمة لهم، والترهيب من قساوة القلب وجمود العين.
(1)
فتح الباري (3/ 158).
(2)
صحيح البخاري، وكتاب المرضى، باب عيادة الصبيان (7/ 117)، (5655). وكتاب التوحيد، باب قول الله تبارك وتعالى:{قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110](9/ 115)، (7377)، وكتاب الإيمان والنذور، باب قول الله تعالى:{وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [الأنعام: 109](8/ 133)، (6655). *صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب البكاء على الميت (2/ 635)، (923). * سنن الصغرى، كتاب الجنائز، الأمر بالاحتساب والصبر عند نزول المصيبة (4/ 21)، (1868). * سنن أبي داود، كتاب الجنائز، باب في البكاء على الميت (3/ 193)، (3125). * سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت (1/ 506)، (1588).
(3)
إبرار القسم سقط في ب.
وجواز البكاء من غير نوح ونحوه
(1)
.
وروى الترمذي في "الشمائل" من رواية سفيان الثوري، والنسائي من رواية أبي الأحوص كلاهما، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال:" أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ابنة له تقضي فأحتضنها -أي: ضمها إلى صدره -فوضعها بين يديه فماتت وهي بين يديه وصاحت أم أيمن فقال- يعني النبي صلى الله عليه وسلم: "أتبكين يا أم أيمن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ألست أراك تبكي؟ قال: " إني لست أبكي، إنما هي رحمة، إنّ المؤمن بكل خير على كل حال، إنّ نفسه تنزع من بين جنبيه، وهو يحمد الله تعالى
(2)
".
ولابن عباس حديث آخر رواه أبو داود الطيالسي قال: " بكت النساء على رقية رضي الله عنها، فجعل عمر رضي الله عنه، ينهاهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مه يا عمر" ثم قال: " إياكم ونعيق الشيطان: فإنه يكون من العين، ومن القلب فمن الرحمة، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان" قال: وجعلت فاطمة رضي الله عنها، تبكي على شفير قبر رقية، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يمسح الدموع عن
(1)
فتح الباري (3/ 158) وعمدة القاري (8/ 75).
(2)
الشمائل المحمدية والخصائل المصطفوية، محمد بن عيسى بن سَوْرة بن موسى بن الضحاك، الترمذي، أبو عيسى (المتوفى: 279 هـ) المحقق: سيد بن عباس الجليمي، المكتبة التجارية، مصطفى أحمد الباز- مكة المكرمة، الطبعة: الأولى، 1413 هـ - 1993 م باب ما جاء في بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم (266)(326). * السنن الصغرى للنسائي كتاب الجنائز، في البكاء على الميت (4/ 12)، (1843)، إسناده حسن، عطاء بن السائب روى له أصحاب السنن وباقي رجاله ثقات رجال الشيخين، قال ابن حجر في "التقريب" (ص: 391) (4592): وهو صدوق لكنه اختلط.
وجهها باليد أو بالثياب"
(1)
، ورواه البيهقي في "سننه": ثم قال: وهذا وإن كان غير قوي فقوله في الحديث الثابت: " إن الله لا يعذب بدمع العين"، يدلّ على معناه ويشهد له بالصحة
(2)
.
[140 أ/س]
وروى الطبراني من رواية شريك عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: " شهدت صنيعًا فيه أبو مسعود وقرظة بن كعب، وجوار يغنين، فقلت: سبحان الله [أتفعلون]
(3)
/هذا وأنتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأهل بدر؟ فقالوا: رخص لنا في الغناء في العرس، والبكاء في غير نياحة"
(4)
.
وروى النسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: " مات ميت من آل الرسول صلى الله عليه وسلم، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر رضي الله عنه، ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعهن يا عمر فإن العين دامعة، والقلب المصاب، والعهد قريب"
(5)
.
وروى ابن ماجه من رواية شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد، قالت: لما توفي ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم بكى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال المعزي: إما أبو بكر، وإما عمر رضي الله عنهما: أنت أحق
من عظم الله حقه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تدمع العين، وتحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب،
(1)
مسند أبي داود الطيالسي، وما أسند عبد الله بن العباس بن عبد المطلب (4/ 411)، (2817)، حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، فيه علي بن زيد، قال ابن حجر في "التقريب" (ص: 401) (4734): ضعيف، وذكره في المطالب العالية، وقال: سيء الحفظ. أورده الذهبي في "الميزان"(3/ 128 - 129) من طريق أحمد، عن عفان، به. وقال: هذا حديث منكر.
(2)
السنن الكبرى للبيهقي، جماع أبواب البكاء على الميت، باب سياق أخبار تدل على جواز البكاء بعد الموت (4/ 117)، (7160).
(3)
سقط (أتفعلون) في (أ-ب).
(4)
المعجم الكبير، باب العين، عمر بن سعد البجلي، عن أبي مسعود (17/ 248)، (691)، من طريق: شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، إسناده حسن رجاله ثقات عدا شريك بن عبد الله القاضي وهو صدوق سيء الحفظ يخطئ كثيرًا، قاله ابن حجر في"التقريب" (ص: 266) (2787).
(5)
السنن الصغرى للنسائي، كتاب الجنائز، باب الرخصة في البكاء على الميت (4/ 19)، (1859) من طريق: محمد بن عمرو بن حلحلة، عن محمد بن عمرو بن عطاء، أن سلمة بن الأزرق قال: سمعت أبا هريرة.
وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/ 537)(1406) من طريق: هشام بن عروة، عن وهب بن كيسان، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن أبي هريرة وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
لولا أنّه وعد صادق، وموعود جامع، وأن الآخر تابع للأول، لوجدنا عليك يا إبراهيم أفضل مما وجدنا، وإنا بك لمحزونون"
(1)
.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1285 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِىٍّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - قَالَ شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ عَلَى الْقَبْرِ - قَالَ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ قَالَ - فَقَالَ «هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَنَا. قَالَ «فَانْزِلْ» . قَالَ فَنَزَلَ في قَبْرِهَا.
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسندي
(2)
، (قال حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ
(3)
): عبدالملك بن عمرو العقدي، وقد تقدما في "باب أمور الإيمان".
(قال حَدَّثَنَا فُلَيْحُ
(4)
) بضم الفاء، هو: ابن سليمان الخزاعي، قال الواقدي: اسمه عبد الملك وفليح لقبه، وقد مرّ في "كتاب العلم".
(1)
سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت (1/ 509)، (1589) من طريق: يحيى بن سليم، عن ابن خثيم، عن شهر بن حوشب، إسناده حسن من أجل شهر بن حوشب، قال ابن حجر في "التقريب" (ص: 269) (2824) صدوق كثير الإرسال. وأخرجه البخاري (2/ 83)(1303) من طريق: قريش: هو ابن حيان، عن ثابت، عن أنس بن مالك.
(2)
هو: عبد الله بن محمد بن عبد الله بن جعفر بن اليمان بن أخنس بن خنيس الجعفي، أبو جعفر البخاري، المعروف بالمسندي (ت: 229)، تهذيب الكمال (16/ 56)(3536).
(3)
هو: عبد الملك بن عمرو القيسي، أبو عامر العقدي، ثقة، من التاسعة، مات سنة أربع أو خمس ومائتين، تقريب التهذيب (ص: 364) (4199).
(4)
هو: فليح بن سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي أو الأسلمى، أبو يحيى المدني، ويقال: فليح لقب واسمه عبد الملك صدوق كثير الخطأ من السابعة مات سنة ثمان وستين ومائة، تقريب التهذيب (ص: 448) (5443).
(عَنْ هِلَالِ بْنِ عَلِىٍّ): ابن أسامة العامري
(1)
، (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: شَهِدْنَا بِنْتًا لِرَسُولِ اللَّهِ) ويروي: " للنبي"، (صلى الله عليه وسلم) أي: جنازتها، وكانت سنة: تسع، وهي أم كلثوم، زوج عثمان بن عفان رضي الله عنهما، رواه الواقدي عن فليح بن سليمان، بهذا الإسناد، أخرجه ابن سعد في الطبقات، في ترجمة أم كلثوم
(2)
.
وكذا الدولابي في "الذرية الطاهرة"
(3)
، وكذلك رواه الطبراني والطحاوي من هذا الوجه
(4)
.
ورواه حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، فسماها رقية، أخرجه البخاري في "التاريخ الأوسط"
(5)
، والحاكم في مستدركه
(6)
قال البخاري: ما أدري ما هذا، فإن رقية رضي الله عنها، ماتت والنبيّ صلى الله عليه وسلم ببدر، ولم يشهد جنازتها
(7)
.
وقال الحافظ العسقلاني: ووهم حماد في تسميتها
(8)
، وأغرب الخطابي فقال: هذه البنت كانت لبعض بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنسبت إليه، وكأنه ظن أنّ الميت في حديث أنس هي المحتضرة في حديث أسامة رضي الله عنه، وليس كذلك، كما عرفته
(9)
.
(1)
هو: هلال بن علي بن أسامة [ويقال: ابن أبي ميمونة، ويقال: ابن أبي هلال] العامري المدني وقد ينسب إلى جده، ثقة، من الخامسة، مات سنة بضع عشرة ومائة، تقريب التهذيب (ص: 576) (7344).
(2)
طبقات الكبرى (8/ 31).
(3)
الذرية الطاهرة النبوية (1/ 60).
(4)
شرح مشكل الآثار، أبو جعفر أحمد بن محمد بن سلامة بن عبد الملك بن سلمة الأزدي الحجري المصري المعروف بالطحاوي (المتوفى: 321 هـ)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى - 1415 هـ، 1494 م (6/ 322)، (2512).
(5)
التاريخ الأوسط (مطبوع خطأ باسم التاريخ الصغير)، محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة البخاري، أبو عبد الله (المتوفى: 256 هـ)، المحقق: محمود إبراهيم زايد، دار الوعي، مكتبة دار التراث - حلب، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1397 - 1977 (1/ 18)، (50).
(6)
المستدرك على الصحيحين، كتاب معرفة الصحابة رضي الله عنهم، ذكر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم (4/ 52)، (6853) وقال الذهبي: على شرط البخاري ومسلم.
(7)
التاريخ الأوسط (1/ 18)، (50).
(8)
فتح الباري (3/ 158).
(9)
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (1/ 328).
[140 أ/ص]
(قَالَ) أنس رضي الله عنه: (وَرَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، جَالِسٌ عَلَى) جانب/ (الْقَبْرِ، قَالَ: فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَدْمَعَانِ) بفتح الميم قال ابن التين: المشهور في اللغة أن ماضيه دَمَعَ بفتح الميم، فيجوز في مستقبله تثليث الميم
(1)
، وذكر أبو عبيد لغة أخرى، أنّ ماضيه مكسور العين، فيتعين الفتح في مستقبله
(2)
، وهذا هو موضع الترجمة.
(قَالَ - فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم (هَلْ مِنْكُمْ رَجُلٌ لَمْ يُقَارِفِ اللَّيْلَةَ) بالقاف والفاء، من المقارفة، زاد ابن المبارك عن فليح:"أراه يعني الذنب" ذكره المؤلف في باب من يدخل قبر المرأة تعليقًا
(3)
وصله الإسماعيلي، وكذا قال شريح بن النعمان: عن فليح، أخرجه أحمد عنه
(4)
، ولذا قال الخطابي: معناه لم يذنب
(5)
.
[62 ب/س]
وقيل: لم يجامع أهله تلك الليلة، وبه جزم ابن حزم، وقال /معاذ الله أن يتبجح أبو طلحة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنه لم يذنب تلك الليلة، انتهى
(6)
.
ويقويه أنّ في رواية ثابت بلفظ "لا يدخل القبر أحد قارف أهله البارحة، فتنحى عثمان رضي الله عنه "
(7)
.
وحكى عن الطحاوي: أنّه قال: لم يقارف تصحيف، والصواب: لم يقاول
(8)
، أي: لم ينازع غيره في الكلام؛ لأنهم كانوا يكرهون الحديث بعد العشاء.
(1)
عمدة القاري (8/ 76).
(2)
التوضيح، (9/ 524).
(3)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب من يدخل قبر المرأة (2/ 91)، (1342).
(4)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه (21/ 83)، (13383).
(5)
أعلام الحديث في شرح صحيح البخاري (1/ 328).
(6)
المحلى (3/ 370).
(7)
شرح مشكل الآثار (6/ 322)، (2512) من طريق: حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس رضي الله عنه، إسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (4/ 51)(6852) بهذا الإسناد، وقال:«هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه» سكت عنه الذهبي في التلخيص.
(8)
شرح مشكل الآثار (6/ 322)، (2512).
وتعقب بأنّه تغليط للثقة بغير مستند وكأنّه استبعد أن يقع من عثمان رضي الله عنه، ذلك لحرصة على مراعاة الخاطر الشريف النبوي.
ويجاب عنه باحتمال أن يكون مرض المرأة طال، واحتاج عثمان رضي الله عنه إلى الوقاع، ولم يكن يظن أنها تموت تلك الليلة، وليس في الخبر ما يقتضي أنه واقع بعد موتها، بل ولا حين احتضارها، والعلم عند الله تعالى
(1)
.
قال الكرماني: لعل الحكمة فيه على تقدير تفسير المقارفة بالمجامعة هي: أنّه لما كان النزول في القبر لمعالجة أمر النساء، لم يرد أن يكون النازل فيه القريب العهد بمخالطة النساء؛ لتكون نفسه مطمئنة ساكنة، كالناسية للشهوة
(2)
.
ويقال: إن عثمان رضي الله عنه، باشر في تلك الليلة جارية له، فعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بذلك فلم يعجبه، حيث شغل عن المريضة المحتضرة بها، وهي أم كلثوم زوجته، بنت النبيّ صلى الله عليه وسلم، فأراد أن لا ينزل في قبرها معاقبة عليه، فكنى به عنه
(3)
.
[141 أ/س]
(فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ:) زيد بن سهل الأنصاري الخزرجي، شهد المشاهد، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لصوت أبي طلحة في الجيش، خير من مائة رجل"
(4)
، وقتل يوم حنين عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم، وكان يحثو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحرب، ويقول: نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء، لم ينثر كنانته بين يديه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرفع رأسه من خلفه؛ ليرى مواقع
النبل / فكان يتطاول بصدره؛ ليقي به رسول الله صلى الله عليه وسلم،
(5)
وقد مر في "باب: ما يذكر من الفخذ".
(1)
فتح الباري (3/ 159).
(2)
الكواكب الدراري (7/ 829).
(3)
ذكره الكرماني في شرحه الكواكب الدراري (7/ 829).
(4)
مسند الإمام أحمد بن حنبل (20/ 375)(13105) من طريق يزيد بن هارون، حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، إسناده متصل، رجاله ثقات، رجاله رجال البخاري عدا حماد بن سلمة البصري روى له البخاري تعليقًا.
(5)
الاستيعاب، باب الطاء، أَبُو طلحة الأَنْصَارِيّ، (4/ 1647)، (3055).
(أَنَا) لم أقارف الليلة (قَالَ:) صلى الله عليه وسلم، لأبي طلحة رضي الله عنه، (فَانْزِلْ، قَالَ: فَنَزَلَ في قَبْرِهَا) وفي "الاستيعاب" في ترجمة أم كلثوم رضي الله عنها، استأذن أبو طلحة أن ينزل في قبرها فأذن له
(1)
.
وفي الحديث: جواز البكاء كما ترجم له بقوله، وما يرخص من البكاء في غير نوح.
وفيه: إدخال الرجال المرأة قبرها؛ لكونهم أقوى على ذلك من النساء.
وفيه: إيثار البعيد العهد عن الملاذ في مواراة الميت، ولو كان امرأة على الأب والزوج.
وفيه: جواز الجلوس على شفير القبر عند الدفن، وهو قول أنس بن مالك
(2)
، وزيد بن ثابت وعلي رضي الله عنهم
(3)
.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه وعطاء: لا يجلس عليه
(4)
، وبه قال الشافعي
(5)
، والجمهور؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فيخلص إلى جلده، خير له من أن يجلس على قبر" أخرجه مسلم
(6)
.
وظاهر إيراد المحاملي وغيره أنه حرام
(7)
، ونقله النووي في شرح مسلم، عن الأصحاب
(8)
، وتأوّل مالك، وخارجة بن زيد على الجلوس لقضاء الحاجة، وهو بعيد
(9)
.
(1)
الاستيعاب، باب الكاف، أم كلثوم بنت رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم.، (4/ 1647)، (4201).
(2)
شرح التلقين، أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر التَّمِيمي المازري المالكي (المتوفى: 536 هـ)
المحقق: سماحة الشيخ محمَّد المختار السّلامي، دار الغرب الإِسلامي، الطبعة الأولى، 2008 م (1/ 1199)
(3)
وجاء في عمدة القاري (وهو قول مالك)(8/ 76).
(4)
روى عنهما عبد الرزاق في مصنفه، كتاب الجنائز، باب المزابي والجلوس على القبر (3/ 510 - 511)، (6509 - 6512).
(5)
المجموع (5/ 312).
(6)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة عليه (2/ 667)، (971).
(7)
المجموع (5/ 312).
(8)
شرح صحيح مسلم للنووي (7/ 27).
(9)
عمدة القاري (8/ 76).
وفي التوضيح: لا يوطأ إلا لضرورة ويكره أيضًا الاستناد إليه احترامًا
(1)
، وقال: لو تولى النساء شأنها في القبر فحسن، نصّ عليه في الأم
(2)
.
وفيه فضيلة لعثمان رضي الله عنه
(3)
، لا يثاره الصدق، وإن كان عليه فيه
(4)
غضاضة.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1286 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ قَالَ تُوُفِّيَتِ ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ - رضى الله عنه - بِمَكَّةَ وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا، وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهم - وَإِنِّى لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا - أَوْ قَالَ جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا. ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمَرَ - رضى الله عنهما - لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» .
-
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هو: عبد الله بن عثمان، وقد مرّ عن قريب، (قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ) هو: ابن المبارك (قال: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
(5)
) عبدالملك بن عبدالعزيز.
(قَالَ أَخْبَرَنِى) بالإفراد، (عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى مُلَيْكَةَ
(6)
) بالتكبير في الابن والصغير في الأب، وأبو مليكة بالتصغير أيضًا اسمه: زهير.
(1)
التوضيح (9/ 523).
(2)
الأم (1/ 315).
(3)
رضي الله عنه سقط من ب.
(4)
(فيه عليه) في ب.
(5)
هو: عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج الأموي، مولاهم المكي، ثقة، فقيه، فاضل، وكان يدلس ويرسل، من السادسة، مات سنة خمسين ومائة أو بعدها، تقريب التهذيب (ص: 363) (4180).
(6)
هو: عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة بالتصغير بن عبد الله ابن جدعان، يقال: اسم أبي مليكة زهير التيمي المدني، أدرك ثلاثين من الصحابة، ثقة فقيه من الثالثة، مات سنة سبع عشرة ومائة، تقريب التهذيب (ص: 312) (3455).
(قَالَ تُوُفِّيَتِ) على صيغة المجهول أي: قبضت، (ابْنَةٌ لِعُثْمَانَ رضي الله عنه بِمَكَّةَ) هي: أم أبان وقد صرح بها مسلم بإسناده إلى عبد الله بن عبيد الله قال: " كنت جالسًا إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما، ونحن ننتظر جنازة أم أبان بنت عثمان رضي الله عنه، وعنده عمرو بن عثمان، فجاء ابن عباس رضي الله عنهما، يقوده قائد، فأراه أخبر بمكان ابن عمر رضي الله عنهما، فجاء حتى جلس إلى جنبي، فكنت بينهما، فإذا صوت من الدار، فقال ابن عمر رضي الله عنهما، كأنه يعرض على عمرو أن يقوم، فينهاهم: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، /يقول: " إن الميت ليعذب ببكاء أهله"
(1)
، الحديث.
[141 أ/ص]
(وَجِئْنَا لِنَشْهَدَهَا) جنازتها، (وَحَضَرَهَا ابْنُ عُمَرَ): ابن الخطاب، (وَابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، (وَإِنِّي لَجَالِسٌ بَيْنَهُمَا) أي: بين ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، (أَوْ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى أَحَدِهِمَا) شك ابن جريج، وقد مرّ في رواية مسلم:"كنت جالسًا إلى جنب ابن عمر رضي الله عنهما " وأمّا جلوسه بينهما، وهما أفضل منه، مع أنّ الأدب أن المفضول لا يجلس بين الفاضلين؛ فمحمول على عذر، إما لأنّ ذلك أوفق
(2)
بالجائي بعده، وإما لغيره.
(ثُمَّ جَاءَ الآخَرُ، فَجَلَسَ إِلَى جَنْبِى) زاد مسلم "فإذا صوت من الدار" وعند الحميدي من رواية عمرو بن دينار، عن ابن أبي مليكة "فبكى النساء"
(3)
فظهر السبب من قول ابن عمر لعمرو بن عثمان ما
(4)
قال.
(فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمَرَ) رضي الله عنهما (لِعَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ) أخي ابنة عثمان رضي الله عنه: (أَلَا تَنْهَى عَنِ الْبُكَاءِ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ).
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 640)(928).
(2)
[أرفق] في شرح مسلم للنووي.
(3)
مسند الحميدي، أبو بكر عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله القرشي الأسدي الحميدي المكي (المتوفى: 219 هـ)، تحقيق: حسن سليم أسد الدَّارَانيّ، دار السقا، دمشق - سوريا، الطبعة: الأولى، 1996 م، أحاديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 267)، (222)
(4)
ما سقط من ب.
ولمسلم من حديث عمرة بنت عبدالرحمن، سمعت عائشة رضي الله عنها، ذكر لها أنّ عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، يقول:"إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه"
(1)
الحديث.
[62 ب/ص]
واللفظان مرفوعان، فهل يحمل المطلق على المقيد ويكون عذابه ببكاء أهله عليه فقط أو يكون الحكم للرواية العامة وأنه يعذب ببكاء الحي عليه سواء كان من أهله أو لا، والظاهر أنّه عام لا يختص بأهله بدليل النائحة التي ليست من أهل الميت بل أهله أعذر في البكاء عليه، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي رواه النسائي، وابن ماجه عنه قال:" مات ميت من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم فاجتمع /النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعهن يا عمر، فإنّ العين دامعة، والقلب مصاب، والعهد قريب"
(2)
وهذا التعليل الذي رخص لأجله في البكاء خاص بأهل الميت فقوله: " ببكاء أهله عليه" خرج مخرج الغالب الشائع، إذْ المعروف أنّه إنّما يبكي على الميت أهله
(3)
.
ثم إنّه يمكن أن يكون قوله: الحي، احترازًا عن غير الحي من الجمادات، لقوله تعالى:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)} [الدخان: 29]، فمفهومه: أنّ السماء والأرض يقع منهما البكاء على غيرهم.
[142 أ/س]
/وفي الحديث: "ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض"
(4)
.
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه، (2/ 643)، (932).
(2)
السنن الصغرى للنسائي، كتاب الجنائز، باب الرخصة في البكاء على الميت (4/ 19)، (1859). *سنن ابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في البكاء على الميت (1/ 509)، (1589)، تقدم تخريجه في (ص:450).
(3)
عمدة القاري (8/ 78).
(4)
شعب الإيمان، فصل في ذكر ما في الأوجاع والأمراض والمصيبات من الكفارات (12/ 295)(9422)، من طريق يحيى ابن يحيى، ثنا إسماعيل بن عياش، عن صفوان بن عمر، وعن شريح بن عبيد الحضرمي، وقال البيهقي: هكذا وجدته مرسلًا.
وقد روى ابن مردويه في تفسيره من رواية يزيد الرقاشي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما من مؤمن إلا له بابان في السماء، باب يخرج منه رزقه، وباب يدخل فيه كلامه وعمله، فإذا مات فقداه وبكيا عليه، وتلا هذه الآية:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29]
(1)
فعلى ظاهر الآية والحديث يكون ذلك البكاء على الميّت ولا عذاب عليه بسببه إجماعًا.
وقال الزمخشري: ذلك على سبيل التمثيل والتخييل، وكذلك ما يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، من بكاء مصلى المؤمن، وآثاره في الأرض، ومصاعد عمله، ومهابط رزقه في السماء: تمثيل، ونفي ذلك عنهم في قوله:{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} تهكم بهم وبحالهم المنافية لحال من يعظم فقده، فيقال فيه: بكت عليه السماء والأرض، فإنّه إذا مات رجل خطير قالت العرب في تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء والأرض، وبكته الريح، وأظلّمت له الشمس.
وعن الحسن: فما بكي عليهم الملائكة والمؤمنون، بل كانوا بهلاكهم مسرورين، يعني: فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض، وما كانوا منظرين لما جاء وقت هلاكهم لم ينظروا إلى وقت آخر، ولم يمهلوا إلى الآخرة، بل عجل لهم في الدنيا
(2)
.
ثم إن قول ابن عمر رضي الله عنهما "أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه" مطلق سواء كان بنوح أو لا، لكن في بعض طرق حديث ابن عمر رضي الله عنهما، في "مصنف" ابن أبي شيبة:"من نيح عليه فإنّه يعذب بما نيح عليه يوم القيامة"
(3)
، فيحمل المطلق على المقيد فيكون البكاء الذي يكون سببًا لتعذيب الميت، هو البكاء الذي يكون بنوح ونحوه، كما أشار إليه البخاري في الترجمة.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1287 -
فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَدْ كَانَ عُمَرُ - رضى الله عنه - يَقُولُ بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ قَالَ صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ - رضى الله عنه - مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إِذَا كُنَّا
(1)
سنن الترمذي، أبواب تفسير القران، باب: ومن سورة الدخان (5/ 380)، (3255). وقال «هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا الوجه، وموسى بن عبيدة، ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان في الحديث»
(2)
تفسير الزمخشري (4/ 278).
(3)
مصنف ابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، في النياحة على الميت وما جاء فيه (3/ 60)، (12099) من طريق وكيع، عن سعيد بن عبيد، عن عبادة بن الوليد بن عبادة، عن ابن عمر. ورواه أحمد في مسنده (9/ 201) (5262) من طريق: وكيع، بهذا الإسناد، وإسناده صحيح على شرط الشيخين.
بِالْبَيْدَاءِ، إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ فَقَالَ اذْهَبْ، فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ قَالَ فَنَظَرْتُ فَإِذَا صُهَيْبٌ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ ادْعُهُ لِى. فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ ارْتَحِلْ فَالْحَقْ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ دَخَلَ صُهَيْبٌ يَبْكِى يَقُولُ وَاأَخَاهُ، وَاصَاحِبَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه - يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَىَّ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ»
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ) رضي الله عنهما، (قَدْ كَانَ عُمَرُ): ابن الخطاب رضي الله عنه، (يَقُولُ: بَعْضَ ذَلِكَ، ثُمَّ حَدَّثَ) أي: ابن عباس رضي الله عنهما، (قَالَ: صَدَرْتُ مَعَ عُمَرَ) رضي الله عنه (مِنْ مَكَّةَ) قافلًا من حجة، (حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ) بفتح الموحدة وسكون التحتانية، هي: المفازة، ولكن المراد هنا مفازة خاصة بين مكة والمدينة
(1)
.
[142 أ/ص]
(إِذَا هُوَ بِرَكْبٍ) كلمة "إذا" للمفاجأة والركب أصحاب الإبل العشرة، فما فوقها مسافرين
(2)
، أي: /فاجأهم عمر رضي الله عنه، (تَحْتَ ظِلِّ سَمُرَةٍ) بفتح السين المهملة وضم الميم: شجرة عظيمة من شجر العضاة
(3)
.
(فَقَالَ: اذْهَبْ، فَانْظُرْ مَنْ هَؤُلَاءِ الرَّكْبُ، قَالَ: فَنَظَرْتُ، فَإِذَا صُهَيْبٌ) بضم الصاد، هو: ابن سنان، بالنونين، ابن قاسط، بالقاف، كان من النَمر، بفتح النون، وكانوا بأرض الموصل، فأغارت الروم على تلك الناحية، فسبته وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فاشتراه عبد الله بن جُدعان
(1)
لسان العرب، فصل الباء الموحدة (3/ 97).
(2)
الصحاح، [ركب](1/ 138).
(3)
العين، باب السين والراء والميم معهما (7/ 255).
بضم الجيم وإسكان الدال المهملة: التيمي، فأعتقه، ثم أسلم بمكة، وهو من السابقين إلى الإسلام، المعذبين في الله تعالى، وهاجر إلى المدينة، ومات بها سنة ثمان وثلاثين رضي الله عنه
(1)
.
(فَأَخْبَرْتُهُ) أي: أخبرت عمر رضي الله عنه، بذلك، (فَقَالَ: ادْعُهُ لِى. فَرَجَعْتُ إِلَى صُهَيْبٍ فَقُلْتُ) له: (ارْتَحِلْ) بكسر الحاء المهملة أمر من الارتحال، (فَالْحَقْ) بفتح الحاء المهملة: أمر من اللّحوق (بأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ) وفي رواية: " أمير المؤمنين"، بدون الباء
(2)
.
(فَلَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ) رضي الله عنه، يعني بالجراحة التي مات بها، وفي رواية أيوب: أن ذلك كان عقيب الحجة المذكورة، ولفظه:"فلما قدمنا لم يلبث عمر رضي الله عنه، أن أصيب"
(3)
، وفي رواية عمرو بن دينار "لم يلبث أن طعن"
(4)
.
[143 أ/س]
طعنه أبو لؤلؤة فيروز غلام المغيرة بن شعبة، وهو قائم في صلاة الصبح بسكين مسمومة ذات طرفين، وطعن معه ثلاثة عشر رجلًا، توفي منهم سبعة، وعاش الباقون، ثم قتل العلج نفسه وسار، إلى لعنة الله وغضبه، وشرب عمر رضي الله عنه، لبنًا فخرج من جرحه، فعلم أنّه لا يعيش فأوصى بالخلافة، وجعلها شورى بين ستة: عثمان، وعلي، وطلحة، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، رضي الله عنهم، وحسب الدين الذي أخذ من بيت المال لمصالح نفسه، في مدة خلافته، فوجده ستًا وثمانين ألف درهم، فقال لأبنه عبد الله: إن وفى مال عمر به فأدوه منه، وإلا فسل في بني عدي، ثم بعثه إلى عائشة رضي الله عنها، فقال: قل: يقرأ عمر عليك السلام، ولا تقل أمير المؤمنين، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرًا، وقل: يستأذن عمر أن يدفن مع صاحبيه، فجاء فسلم واستأذن، فدخل فوجدها تبكي، فقال لها، فأذنت، وقالت: كنت أردته لنفسي، ولأوثرنه اليوم على نفسي، فلما أقبل عبد الله من عندها، قيل لعمر: هذا عبد الله، /قال: أرفعوني، فأسنده رجل، فقال: ما
(1)
الاستيعاب، صهيب بن سنان الرومي، (2/ 728)، (1226)
(2)
إرشاد الساري (2/ 403).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 641)، (927).
(4)
مسند الحميدي، أحاديث عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (1/ 267)، (222)، من طريق: سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة.
لديك؟ فقال: الذي تحب، قد أذنت قال: الحمد لله، ما كان شيء أهم إليّ من هذا، فإذا أنا قبضت فاحملوني، ثمّ سلّم يا عبد الله، وقل: يستأذن عمر بن الخطاب، فإن أذن لي فأدخلوني، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين، فلما قبض حمل على سرير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصلى عليه صهيب رضي الله عنه، ونزل في قبره ابنه عبد الله، وعثمان بن عفان، وسعيد بن زيد، وعبدالرحمن بن عوف رضي الله عنهم، ودفن يوم الأحد، هلال محرم سنة: أربع وعشرين وكان /خلافته عشر سنين وخمسة أشهر واحدى وعشرون يومًا، وعمره على الصحيح، ثلاث وستون سنة
(1)
رضي الله عنه.
[63 ب/س]
(دَخَلَ صُهَيْبٌ) حال كونه (يَبْكِى) حال كونه (يَقُولُ وَا أَخَاهُ، وَا صَاحِبَاهُ) كلمة: وا، للندبة، والألف في أخرهما ليس مما يلحق الأسماء الستة لبيان الإعراب، بل هو مما يزاد في آخر المندوب؛ لتطويل مد الصوت، والهاء ليست بضمير بل هاء السكت، وشرط المندوب أن يكون معروفًا، فلا بد من القول بأن الإخوة والصاحبية له كانا معروفين، حتى يصح وقوعهما في الندبة
(2)
.
(فَقَالَ عُمَرُ - رضى الله عنه -: يَا صُهَيْبُ أَتَبْكِى عَلَىَّ) بهمزة الاستفهام الإنكاري، (وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الْمَيِّتَ يُعَذَّبُ بِبَعْضِ بُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ) قيده بالبعضية، فحمل على ما فيه نياحة، جمعًا بين الأحاديث على ما تقدم.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1288 -
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ - رضى الله عنه - ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ - رضى الله عنها - فَقَالَتْ رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ، وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ. وَلَكِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا
بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ». وَقَالَتْ حَسْبُكُمُ الْقُرْآنُ (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
(1)
الاستيعاب في معرفة الأصحاب (3/ 1144 - 1155)(1878)، وتهذيب الأسماء واللغات، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (المتوفى: 676 هـ)، عنيت بنشره وتصحيحه، شركة العلماء بمساعدة إدارة الطباعة المنيرية، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان (2/ 13).
(2)
عمدة القاري (8/ 80).
- رضى الله عنهما - عِنْدَ ذَلِكَ وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى. قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رضى الله عنهما - شَيْئًا.
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما فَلَمَّا مَاتَ عُمَرُ رضي الله عنه ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَائِشَةَ رضي الله عنها) هذا صريح في أن حديث عائشة رضي الله عنها، من رواية ابن عباس عنها، ورواية مسلم توهم أنّه من رواية ابن أبي مليكة عنها، وأن القصة كانت بعد موت عائشة رضي الله عنها؛ لقوله:"فجاء ابن عباس رضي الله عنهما، يقوده قائده" فإنّه إنما عمي في وآخر عمره، ويؤيّد كون ابن أبي مليكة لم يحمله عنها أنّ عند مسلم في آخر القصة، قال ابن أبي مليكة: حدثني القاسم بن محمد، لما بلغ عائشة رضي الله عنها، قول عمر، وابن عمر، قالت:"إنكم لتحدثوني عن غير كَاذِبَيْنِ، وَلَا مُكَذَّبَيْنِ، ولكن السمع يُخطئ"
(1)
، وهذا يدلّ على أنّ ابن عمر رضي الله عنهما، كان قد حدث به مرارًا، وسيأتي في الحديث الذي بعده، أنه حدّث بذلك أيضًا لما مات رافع بن خديج رضي الله عنه.
[143 أ/ص]
(فَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ عُمَرَ) قال الطيبي: /هذا من الآداب الحسنة على منوال قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] فاستغربت من عمر رضي الله عنه، ذلك القول، فجعلت قولها:" يرحم الله عمر" تمهيدًا، ودفعًا لما يوحش من نسبته إلى الخطأ
(2)
.
(وَاللَّهِ مَا حَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّ اللَّهَ لَيُعَذِّبُ الْمُؤْمِنَ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ
(3)
) يحتمل أن يكون جزم عائشة رضي الله عنها، بذلك؛ لكونها سمعت صريحا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، اختصاص العذاب بالكافر، أو فهمت الاختصاص بالقرائن.
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 640)، (928).
(2)
الكاسف عن حقائق السنة (4/ 1425).
(3)
سقط [عليه] من أصل البخاري.
(وَلَكِنَّ) وفي رواية: "ولكن"، يروي بالتخفيف والتشديد
(1)
، (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَيَزِيدُ الْكَافِرَ عَذَابًا بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَقَالَتْ: حَسْبُكُمُ) بسكون السين المهملة، أي: كافيكم، أيها المؤمنون، (الْقُرْآنُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) أي: لا تؤاخذ نفس بغير ذنبها، فإن قيل: الآية عامة، للمؤمن والكافر، ثم إنّ زيادة العذاب عذاب، فكما أنّ أصل العذاب لا يكون بفعل غيره فكذا زيادته، فلا يتم استدلالها بالآية.
فالجواب: أن العادة فارقة بين الكافر والمؤمن، فإن الكفّار كانوا يرضون بالنياحة ويوصون بها
(2)
، وكان ذلك مشهورًا في الجاهلية، وهو موجود في أشعارهم.
كقول طرفة بن العبد:
إذا مت فأنعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يا أم معبد
(3)
.
بخلاف المؤمنين، فإنّهم لا يرضون بالمعصية صدرت منه، أو من غيره، فلفظ "الميت" وإن كان مطلقًا مقيّد بالموصي وهو الكافر عرفًا وعادة
(4)
، وعلى ذلك حمل الجمهور قوله:" إن الميت ليعذب ببكاء أهله "كما سيجيئ تفصيله إن شاء الله تعالى، وبهذا يرتفع المنافاة بين الخبريين الصحيحين، خبر عمر، وخبر عائشة رضي الله عنها.
(قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: عِنْدَ ذَلِكَ) أي: عند انتهاء حديثه، عن عائشة رضي الله عنها، (وَاللَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى) أي: أن العبرة لا يملكها ابن آدم، ولا تسبب له فيها، فكيف يعاقب عليها فضلًا عن الميت؟ وقال الداودي: معناه: أن الله أذن في الجميل من البكاء، فلا يعذب على ما أذن فيه
(5)
.
(1)
إرشاد الساري (2/ 403).
(2)
الكواكب الدراري (7/ 84).
(3)
محاضرات الأدباء ومحاورات الشعرء والبلغاء (2/ 513).
(4)
عمدة القاري (8/ 80).
(5)
فتح الباري (3/ 160).
[144 أ/س]
وقال الطيبي: غرضه تقرير قول عائشة رضي الله عنها، أي: أنّ بكاء الإنسان وضحكه وحزنه وسروره من الله تعالى، يظهرها فيه، / فلا أثر له في ذلك
(1)
.
وقال الكرماني: لعلّ غرضه من هذا الكلام في هذا المقام: أن الكل بخلق الله وإرادته، فالأولى فيه أن يقال بظاهر الحديث، وأن له تعالى أن يعذبه بلا ذنب، ويكون البكاء عليه علامة، لذلك أو يعذبه بذنب غيره في الدنيا، لقوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وكذا في البرزخ؛ لا سيّما وهو السبب في وقوع الغير فيه، ولا يسأل عما يفعل، وأمّا آية الوزارة: فتختص بيوم القيامة
(2)
.
(قَالَ ابْنُ أَبِى مُلَيْكَةَ: وَاللَّهِ مَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ) رضي الله عنهما، (شَيْئًا) أي: بعد ذلك يعني ما ردّ كلامه، قال الطيبي وغيره: ظهرت لابن عمر الحجة فسكت مُذعنا
(3)
، وقال الزين ابن المنير: سكوته لا يدلّ على الإذعان، فلعلّه كره المجادلة في ذلك المقام
(4)
.
وقال القرطبي: ليس سكوته لشكّ طرأ له بعد ما صرح برفع الحديث، ولكن احتمل عنده أن يكون الحديث قابلًا للتأويل، ولم يتعين له محملّ يحمله عليه إذ ذاك، أو كان المجلس لا يقبل المماراة ولم يتعين الحاجة إلى ذلك حينئذ
(5)
.
ويحتمل أن يكون ابن عمر رضي الله عنهما، فهم من استشهاد ابن عباس بالآية قبول روايته؛ لأنها
(6)
يمكن أن يستدل بها في أن لله أن يعذب بلا ذنب ويكون بكاء الحيّ علامة لذلك، كما أشار إليه الكرماني
(7)
.
(1)
الكاسف عن حقائق السنة (4/ 1425).
(2)
الكواكب الدراري (7/ 84).
(3)
الكاسف عن حقائق السنة (4/ 1425).
(4)
فتح الباري (3/ 160).
(5)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/ 583 - 584).
(6)
[لأنهما] في ب.
(7)
الكواكب الدراري (7/ 84).
وقال الخطابي: الرواية إذا ثبتت لم يكن إلى دفعها سبيل بالظن، وقد رواه عمر وابنه رضي الله عنهما، وليس فيما حكت عائشة رضي الله عنها، ما يرفع روايتهما؛ لجواز أن يكون الخبران صحيحين معًا، ولا منافاة بينهما، وأمّا احتجاجها بالآية، فإنّهم كانوا يوصون أهليهم بالنياحة، وكان ذلك مشهورًا منهم، فالميّت إنما تلزمه العقوبة بما تقدم من وصيته إليهم به،
(1)
وقد تقدم آنفًا.
[63 ب/ص]
وقال النووي: أنكرت عائشة رضي الله عنها، روايتهما ونسبتهما إلى النسيان /والاشتباه، وأوّلت الحديث بأنّ معناه يعذب في حال بكاء أهله لا بسببه، كحديث اليهودية الآتي بعد هذا الحديث
(2)
.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1289 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَتْ إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِى عَلَيْهَا أَهْلُهَا فَقَالَ «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ في قَبْرِهَا» .
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ) التنيسي
(3)
، (قال أَخْبَرَنَا مَالِكٌ) الأمام (عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ) أي: بن محمد بن عمرو بن حزم، وقد مرّ مرارًا.
[144 أ/ص]
(عَنْ أَبِيهِ
(4)
) أبي بكر، (عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
(5)
) الأنصارية، (أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا سَمِعَتْ عَائِشَةَ رضي الله عنها زَوْجَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم /تقول
(6)
) أي: حين سألها ابن عباس رضي الله عنهما، عن ذلك.
(1)
معالم السنن (1/ 303).
(2)
شرح صحيح مسلم (6/ 228).
(3)
هو: عبد الله بن يوسف التنيسي، أبو محمد الكلاعي، أصله من دمشق، ثقة متقن، من أثبت الناس في الموطأ، من كبار العاشرة مات سنة ثماني عشرة ومائتين، تقريب التهذيب (ص: 330) (3721).
(4)
هو: أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم الأنصاري، النجاري، المدني القاضي، [وقد ينسب إلى جده] اسمه وكنيته واحد، وقيل: إنه يكنى أبا محمد، ثقة عابد، من الخامسة، مات سنة: عشرين ومائة، تقريب التهذيب (ص: 624) (7988).
(5)
هي: عمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية، المدنية، أكثرت عن عائشة، ثقة من الثالثة ماتت قبل المائة ويقال بعدها، تقريب التهذيب (ص: 750) (8643).
(6)
[قالت] في أصل البخاري.
وهذا الحديث أيضًا في الواقع نفي لما قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: "إن الله ليعذب الميت ببكاء أهله عليه"، فالتقدير ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم، ذلك (إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى يَهُودِيَّةٍ يَبْكِى عَلَيْهَا أَهْلُهَا، فَقَالَ: «إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ في قَبْرِهَا) ويدل عليه أن الحديث أخرجه مالك في "الموطأ" بلفظ: "ذكر لها أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، يقول: " إن الميت يعذب ببكاء الحي عليه"، فقالت عائشة رضي الله عنها: يغفر الله لأبي عبدالرحمن، أما إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطا، إنّما مَرَّ. . . "
(1)
الحديث.
وكذا أخرجه مسلم من حديث القاسم بن محمد، قال: لما بلغ عائشة رضي الله عنها، قول عمر وابن عمر رضي الله عنهما، قالت:" إِنَّكُمْ لَتُحَدِّثُونِّي عَنْ غَيْرِ كَاذِبَيْنِ، وَلَا مُكَذَّبَيْنِ، وَلَكِنَّ السَّمْعَ يُخْطِئُ"
(2)
، وفي رواية لمسلم أيضًا عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: ذكر عند عائشة رضي الله عنها، قول ابن عمر رضي الله عنهما: أن الميت يعذب ببكاء أهله، فقالت: رحم الله أبا عبدالرحمن
(3)
، سمع شيئًا فلم يحفظ، إنّما مرت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، جنازة يهوديٍّ، وهم يبكون عليه، فقال:"أنكم تبكون، وإنّه ليعذب"
(4)
.
(1)
موطأ الإمام مالك، كتاب الجنائز، باب النهي عن البكاء على الميت (1/ 234)، (37)، من طريق: عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن عمرة بنت عبد الرحمن، إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(2)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 641)، (929).
(3)
[عبد الله] في ب.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 642)، (931).
وفي رواية أخرى له ذُكر عند عائشة رضي الله عنهما، أن ابن عمر رضي الله عنهما، يرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، "إنّ الميت يُعذب في قبره ببكاء أهله" فقالت: وَهلَ، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إنّه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون الآن"
(1)
.
وأخرجه أبو عوانة من رواية سفيان عن عبد الله بن أبي بكر كذلك، وزاد أن ابن عمر رضي الله عنهما، لما مات رافع قال لهم: لا تبكوا عليه، فإن بكاء الحي على الميت عذاب على الميت، قالت عمرة: فسألت عائشة رضي الله عنها، عن ذلك، فقالت: يرحمه الله، إنما مرّ. . . "
(2)
،
فذكر الحديث ورافع هذا هو ابن خديج بن رافع بن عدى الأوسي الحارثي، أبو عبد الله وقيل: أبو صالح شهد أحدا، وأصابه يومئذ سهم
(3)
.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1290 -
حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ - وَهْوَ الشَّيْبَانِىُّ - عَنْ أَبِى بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ - رضى الله عنه - جَعَلَ صُهَيْبٌ يَقُولُ وَا أَخَاهُ. فَقَالَ عُمَرُ أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ» .
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ
(4)
): أبو عبد الله الخزاز، بزايين معجمتين، الكوفي قال البخاري: جاءنا نعيه سنة: خمس وعشرين ومائتين
(5)
.
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 642)، (932).
(2)
صحيح ابن حبان، فصل في أحوال الميت في قبره (7/ 407)، (3137).
(3)
الاستعاب، رافع بن خديج (2/ 479)، (727).
(4)
هو: إسماعيل بن الخليل الخزاز، أبو عبد الله الكوفي، ثقة، من العاشرة مات سنة خمس وعشرين مائتين، تهذيب الكمال (3/ 83)(441).
(5)
التاريخ الكبير، اسمعيل بن الخليل (1/ 352)، (1109).
(قال: حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ مُسْهِرٍ
(1)
) بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء، أبو الحسن القرشي.
(قال: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ): سليمان بن أبي سليمان، واسم أبي سليمان فيروز
(2)
، (وَهْوَ الشَّيْبَانِىُّ) بفتح الشين المعجمة.
(عَنْ أَبِى بُرْدَةَ
(3)
) بضم الموحدة الحارث ويقال: عامر، (عَنْ أَبِيهِ
(4)
): أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه.
(قَالَ: لَمَّا أُصِيبَ عُمَرُ رضي الله عنه) بالجراحة التي مات فيها، وقد تقدم التفصيل في ذلك، (جَعَلَ صُهَيْبٌ) رضي الله عنه (يَقُولُ: وَا أَخَاهُ) بألف الندبة وهاء السكت، (فَقَالَ عُمَرُ:) رضي الله عنه، منكرًا عليه بكاءه؛ لرفعه صوته بقوله:"وا أخاه"، خوفًا من استصحابه ذلك أو من زيادته عليه بعد موته.
[145 أ/س]
(أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ الْحَىِّ) الظاهر أنّ المراد من الحيّ مقابل الميت، وقيل يحتمل /أن يكون المراد به القبيلة، ويكون اللّام فيه بدل الضمير، والتقدير يعذب ببكاء قبيلته، فيوافق قوله من الرواية الأخرى:" ببكاء أهله".
وفي رواية لمسلم، عن أبي موسى قال:" لما أصيب عمر رضي الله عنه، أقبل صهيب رضي الله عنه، من منزله، حتى دخل على عمر رضي الله عنه، فقام بحياله يبكي، فقال له عمر رضي الله عنه: علام تبكي؟ أعليَّ تبكي؟ قال: إي والله، لَعليك يا أمير المؤمنين، قال: والله لقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: " من يبكي عليه
(1)
هو: علي بن مسهر القرشي الكوفي، قاضي الموصل، ثقة له غرائب بعد أن أضر، من الثامنة مات سنة تسع وثمانين، التاريخ الكبير، عَلِيّ بْن مسهر (2/ 297)، (2456).
(2)
هو: سليمان بن أبي سليمان [فيروز] أبو إسحاق الشيباني، الكوفي ثقة من الخامسة مات في حدود الأربعين، التاريخ الكبير، أَبُو إِسْحَاقَ (9/ 89)(945).
(3)
أبو بردة بن أبي موسى الأشعري، قيل: اسمه عامر، وقيل: الحارث، ثقة من الثالثة، مات سنة أربع ومائة، تقريب التهذيب (ص: 621) (7951).
(4)
وهو: عبد الله بن قيس بن سليم بن حَضّار، أبو موسى الأشعري صحابي مشهور، أمره عمر ثم عثمان وهو أحد الحكمين بصفين، مات سنة خمسين، تقريب التهذيب (ص: 318) (3535).
يعذب"، قال: فذكرت ذلك لموسى بن طلحة، فقال: كانت عائشة رضي الله عنها، تقول: إنما كان أولئك اليهود"
(1)
أنتهى.
وفي الحديث دلالة على أنّ الحكم ليس خاصًا بالكافر وعلى أنّ صهيبًا رضي الله عنه، أحد من سمع هذا الحديث من النبيّ صلى الله عليه وسلم، وكأنه نسيه حتى ذكره به عمر رضي الله عنه.
وقال ابن بطال: إنْ قيل: كيف نهى صهيبًا عن البكاء، وأقرّ نساء بني المغيرة على البكاء على خالد، كما سيأتي في الباب الذي يليه؟
فالجواب: أنّه خشي أن يكون رفعه لصوته من باب ما نهي عنه، ولهذا قال في قصة خالد: مالم يكن نقع أو لقلقة
(2)
.
(تكميل) اعلم أنّه قد أختلف العلماء في مسألة تعذيب الميت بالبكاء عليه، فمنهم من حمله على ظاهره، وهو البيّن من قصة عمر مع صهيب رضي الله عنهما، كما مرّ وإن كان يحتمل أن يكون عمر رضي الله عنه، كان يرى أنّ المؤاخذة على الميت إذا كان قادرًا على النهي ولم يقع منه، فلذلك بادر إلى نهي صهيب رضي الله عنه، وكذلك نهى حفصة رضي الله عنها، كما رواه مسلم من طريق نافع، عن ابن عمر
(3)
رضي الله عنهما.
وممن أخذ بظاهره: عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فروى عبد الرزاق، من طريقه: أنّه شهد جنازة رافع بن خديج رضي الله عنه، فقال لأهله: إنّ رافعًا شيخ كبير لا طاقة له بالعذاب، وإن الميت يعذب ببكاء أهله عليه"
(4)
.
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 639)، (927).
(2)
شرح صحيح البخارد لابن بطال (3/ 277).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 638)(927).
(4)
مصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب الصبر والبكاء والنياحة (3/ 556)، (6678)، من طريق: معمر قال: سمعت شيخا، يقال له أبو عمر قال: سمعت ابن عمر. وأخرجه الطبراني في الكبير (4/ 240)(4244) من طريق خالد بن يزيد الهدادي، حدثني أبو عمرو، أنه شهد جنازة رافع بن خديج ونساء يبكين فقام عبد الله بن عمر.
[64 ب/س]
ومنهم مَن ردّ حديث تعذيب الميت، وعارضه بقوله تعالى:{وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] مثل عائشة رضي الله عنها، وممن روى عنه الإنكار /أبو هريرة رضي الله عنه، كما رواه أبو يعلى من طريق بكر بن عبد الله المزني، قال: قال أبو هريرة رضي الله عنه: "تاالله لئن انطلق رجل مجاهدًا في سبيل الله، فاستشهد فعمدت امرأته سفهًا وجهلًا، فبكت عليه، ليعذبن هذا الشهيد بذنب هذه السفيهة "
(1)
، قاله في مقام الإنكار وإلى هذا احتجّ جماعة من الشافعية منهم الشيخ أبو حامد وغيره
(2)
.
روى البيهقي في سننه عن الشافعي أنّه قال: وما روت عائشة رضي الله عنها، أشبه أن يكون محفوظًا عنه صلى الله عليه وسلم، بدلالة الكتاب والسنة:
أمّا الكتاب: فقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164].
[145 أ/ص]
/وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]. وقوله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)} [الزلزلة: 7 _8]، وقوله تعالى:{لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15)} [طه: 15].
وأمّا السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم، لرجل:" هذا ابنك"، قال: نعم قال: " أما إنّه لا يجني عليك ولا تجني عليه" فأعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل ما أعلم الله من أن جناية كل امرئ عليه كعمله لا لغيره
(3)
.
ومنهم من أوّل قوله: "ببكاء أهله" المؤلف، حيث قال: إذا كان النوح من سنته سواء أوصى به أو لم يوص على ما سبق تفصيله، قيل: وهو أوجه التأويلات.
(1)
مسند أبي يعلى (3/ 165)، (1592)، من طريق: صالح، حدثنا حاجب يعني ابن عمر، قال: دخلت مع الحكم الأعرج على بكر بن عبد الله، فحدثنا بكر قال: حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال الهيثمي في المجمع (3/ 13)(4036) رواه أبو هريرة، وفيه من لا يعرف.
(2)
الوسيط في المذهب، أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الطوسي (المتوفى: 505 هـ) المحقق: أحمد محمود إبراهيم، ومحمد محمد تامر، دار السلام - القاهرة، الطبعة: الأولى، 1417 (2/ 392).
(3)
سنن الكبرى للبيهقي، جماع أبواب البكاء على الميت (4/ 122)، (7177)، ولفظ الحديث أخرجه أحمد، من طريق، حماد عن عبد الملك بن عمير، حدثنا إياد بن لقيط، عن أبي رمثة، رجاله ثقات رجال الشيخين غير حماد بن سلمة وإياد بن لقيط فمن رجال مسلم.
ومنهم من حمل على الوصية بذلك، وبه قال المزني، وإبراهيم الحربي، وأخرون من الشافعية وغيرهم
(1)
، حتى قال أبو الليث السمرقندي: أنّه قول عامة أهل العلم
(2)
، وكذا نقله النووي عن الجمهور، وهو مشهور في الجاهلية وموجود في أشعارهم، كقول طرفة بن العبد:
إذا مت فأنعيني. . . . . . البيت
(3)
.
وأعترض بأنّ التعذيب بسبب الوصيّة يستحق بمجرد صدور الوصية، والحديث دال على أنّه إنّما يقع عند وقوع الامتثال.
وأجيب بأنّه ليس في السياق حصر، فلا يلزم من وقوعه عند الامتثال أن لا يقع إذا لم يمتثلوا مثلًا
(4)
.
ومنهم من حمل على ترك الوصية بتركه، والنهي عنه، وهو قول: داود وطائفة، ولا يخفى محله إذا علم ما جاء في النهي عن النوح، وعرف أنّ أهله من شأنهم أن يفعلوا ذلك ولم يعلمهم بتحريمه ولا زجرهم عن تعاطيه، فإذا عذب على ذلك عذب بفعل نفسه لا بفعل غيره بمجرده
(5)
.
ومنهم قال: إن المراد بقوله: "يعذب ببكاء أهله"، بنظير ما يبكيه أهله به من الأفعال المنهية التي يعددون عليه ويمدحونه بها، زعمًا منهم أنها محاسن، وهي في الشرع قبائح، كقولهم: يا مرمل النسوان، وموتم الولدان، ومخرب العمران، ومفرق الأخدان، ويرون ذلك شجاعة وفخرًا، وهو يعذب بفعله ذلك، وهو عين ما يمدحونه به، وهذا اختيار ابن حزم وطائفة، واستدل له بحديث ابن عمر رضي الله عنهما، الآتي في "باب البكاء عند المريض:، وفيه: " ولكن يعذب بهذا أو أشار إلى لسانه
(6)
"،
(1)
مختصر المزني (8/ 134).
(2)
فتح الباري (3/ 154).
(3)
شرح صحيح مسلم (6/ 228).
(4)
فتح الباري (3/ 154).
(5)
المحلى (3/ 372)، وفتح الباري (3/ 154).
(6)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز (2/ 84)(1304).
قال ابن حزم: فصحّ أنّ البكاء الذي يعذب به الإنسان /ما كان منه باللسان، إذ
[يندبونه]
(1)
برياسته التي جار فيها، وشجاعته التي صرفها في غير طاعة الله، وجوده الذي لم يضعه في الحق، فأهله يبكون عليه بهذه المفاخر، وهو يعذب بذلك
(2)
.
[146 أ/س]
وقال الإسماعيلي: كثر كلام العلماء في هذه المسألة، وقال كل فيه مجتهدًا على ما
(3)
حسب ما قدر له، ومن أحسن ما حضرني وجه لم أرهم ذكروه، وهو: أنّهم كانوا في الجاهلية يغيرون ويسبون ويقتلون، وكان أحدهم إذا مات بَكَتْهُ بواكيه بتلك الأفعال المحرمة، فمعنى الحديث: أن الميت يعذب بذلك الذي يبكي عليه أهله به؛ لأنّ الميت يندب بأحسن أفعاله وكانت محاسن أفعالهم ما ذكر، وهي زيادة ذنب في ذنوبه يستحق العذاب عليها انتهى.
(4)
، فليتأمل.
ومنهم من قال: معنى التعذيب توبيخ الملائكة له بما يندبه أهله به، كما روى أحمد من حديث أبي موسى رضي الله عنه، مرفوعًا: "الميت يعذب ببكاء الحي، إذا قالت النائحة: واعضداه، وا ناصراه، وا كاسباه، جبذ الميت وقيل له: آنت عضدها؟ آنت ناصرها؟ آنت كاسبها؟
(5)
"، ورواه ابن ماجه بلفظ "يتعتع به يقال: أنت كذلك؟ "
(1)
في محلى [يعذبونه].
(2)
المحلى (3/ 374).
(3)
سقط [ما] في ب.
(4)
فتح الباري (3/ 155).
(5)
مسند الإمام أحمد، حديث أبي موسى الأشعري (32/ 488) (19716) من طريق: زهير، عن أسيد بن أبي أسيد، عن موسى بن أبي موسى الأشعري، عن أبيه. وأخرجه الحاكم (2/ 511)(3755) من طريق أبي عامر العقدي، به. وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وسكت عنه الذهبي، وأخرجه الترمذي في سننه، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت (3/ 317) (1003) وقال: هذا حديث حسن غريب. وأخرجه ابن ماجه في سننه، كتاب الجنائز، باب ما جاء في الميت يعذب بما نيح عليه (1/ 508)(1594) من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، به.
ورواه الترمذي بلفظ: " ما من ميّت يموت فيقوم ناديته، فتقول: وا جبلاه، وا سنداه، أو شبه ذلك-من القول- إلا وُكِّلَ به ملكان يلهزانه: أهكذا كنت؟ "
(1)
، وشاهده: ما روى المصنف في المغازي، من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أغمى على عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فجعلت أخته تبكي وتقول: واجبلاه، واكذا، واكذا، فقال حين أفاق:" ما قلت شيئًا إلا قيل لي: أنت كذلك؟ "
(2)
.
ومنهم من قال: معنى تعذيب الميت: أنّه يتألّم ويرقّ بما يقع من أهله من النياحة وغيرها، كما نتألّم ونرق ببكاء الأطفال، قال القرافي: وهو الأولى، انتهى
(3)
.
وهذا اختيار أبي جعفر محمد بن جرير الطبري
(4)
من المتقدمين، ورجّحه ابن المرابط، والقاضي عياض، ومن تبعه
(5)
، ونصره ابن تيمية وجماعة من المتأخرين
(6)
، واستشهدوا له بحديث قيلة بنت مخرمة إذ فيه: قلت: " يا رسول الله قد ولدته فقاتل معك يوم الزبدة، ثم أصابته الحمى فمات، وترك على البكاء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أيغلب أحدكم أن يصاحب صويحبه في الدنيا معروفًا، فإذا مات استرجع فوالذي نفس محمد بيده: إنّ أحدكم يبكي فيستعبر
(7)
، إليه صويحبه فيا عباد: الله لا
(1)
سنن الترمذي، أبواب الجنائز، باب ما جاء في كراهية البكاء على الميت (3/ 317)(1003) من طريق محمد بن عمار، به، وقال: هذا حديث حسن غريب.
(2)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة مؤتة من أرض الشأم (5/ 144)، (4267).
(3)
الفروق = أنوار البروق في أنواء الفروق، أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن المالكي الشهير بالقرافي (المتوفى: 684 هـ)، عالم الكتب (2/ 178).
(4)
تهذيب الآثار مسند عمر رضي الله عنه (2/ 510).
(5)
إكمال المعلم (3/ 372)، والتوضيح (9/ 527).
(6)
بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية الحراني الحنبلي الدمشقي (المتوفى: 728 هـ)، المحقق: مجموعة من المحققين، مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف، الطبعة: الأولى، 1426 هـ (8/ 518).
(7)
*قوله: "يستعبر" أي: يطلب نزول العبرات على بابه أو ينزل عبراته على غير بابه.
تعذبوا موتاكم"، وهذا طرف من حديث طويل حسن الإسناد، أخرجه ابن أبي خيثمة وابن أبي شيبة /والطبراني، وغيرهم
(1)
.
[64 ب/ص]
[146 أ/ص]
قال ابن المرابط: حديث قيْلة نصّ في المسألة، فلا يعدل عنه، واعترض عليه ابن رشيد بأنه ليس نصًا، وإنما هو يحتمل فإن قوله:"فيستعبر إليه صويحبه"، ليس نصًا في أن المراد به الميّت، بل يحتمل أن يراد به صاحبه الحي، وأن الميّت يعذب حينئذ ببكاء الجماعة عليه، ويحتمل أن يجمع بين هذه التأويلات والتوجيهات فتنزل على الاختلاف الأشخاص، بأن يقال مثلًا: من كانت طريقته النوح فمشى أهله /على طريقته أو أوصاهم بذلك عذب بصنيعه، ومن كان ظالمًا فندب بأفعاله الجائرة عذّب بما ندب به، ومن كان يعرف من أهله النياحة وأهمل نهيهم عنها، فإن كان راضيًا بذلك التحق بالأول، وإن كان غير راض عذب بالتوبيخ لم أهمل النهي، ومن سلِم من ذلك كله واحتاط فنهى أهله عن المعصية ثم خالفوه وفعلوا ذلك كان تعذيبه تأمله بما يراه منهم من مخالفة أمره وإقدامهم على معصية ربهم
(2)
.
وقال الكرماني: جاز التعذيب بفعل الغير في الدنيا لقوله تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال: 25] وكذا في عالم البرزخ، وأما آية [الوزارة]
(3)
فإنّها في القيامة فقط، وحسّنه في توجيه الحديث، والله أعلم
(4)
.
(1)
حديث قيلة ذكره الحافظ في الإصابة في تمييز الصحابة، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن حجر العسقلاني (المتوفى: 852 هـ) تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود وعلى محمد معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، الطبعة: الأولى - 1415 هـ (8/ 288 - 292) ونسبه للطبراني وابن منده، وساقه بطوله من لفظ ابن منده، وذكر أن البخاري -أيضًا- أخرج طرفًا منه في الأدب المفرد. وساقه الهيثمي في "مجمع الزوائد" (المتوفى: 807 هـ)، حسام الدين القدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 هـ، 1994 م (6/ 9 - 12) بطوله، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
(2)
فتح الباري (3/ 156).
(3)
[الوازرة].
(4)
الكواكب الدراري (7/ 86).
(تذييل) قد أوّل بعضهم قوله: "ببكاء أهله" على أنّ الباء للحال، لا بمعني السبب أي: أن ابتداء عذاب الميت يقع عند البكاء أهله عليه، وذلك أنّ شدة بكائهم غالبًا إنما يقع عند دفنه، وفي تلك الحالة يسأل ويبتدأ به عذاب القبر وكان معنى الحديث: أن الميت يعذب حالة بكاء أهله عليه، ولا يلزم من ذلك أن يكون بكاؤهم سببًا لتعذيبه، حكاه الخطابي
(1)
.
ولا يخفى ما فيه من التكلف، ولعل قائله أخذ من قول عائشة رضي الله عنها:"إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه ليعذب بمعصيته أو بذنبه، وإنّ أهله يبكون عليه الآن"
(2)
، أخرجه مسلم من طريق هشام بن عروة، عن أبيه عنها رضي الله عنها.
وعلى هذا يكون خاصًا ببعض الموتى، وهم الذين وجب عليهم العذاب بذنوب اقترحوها، وجرى من قضاء الله سبحانه فيهم أن يكون عذابه وقت البكاء عليهم لاستحقاقهم ذلك بذنوبهم، ويكون ذلك حالًا لا سببًا؛ لمخالفته القران هذا.
[147 أ/س]
وأوّله بعضهم على أن الراوي سمع بعض الحديث ولم يسمع بعضه /وأنّ اللام في الميّت لمعهود معين، كما جزم به القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره، وحجّتهم ما في رواية عمرة، عن عائشة رضي الله عنها،
(3)
وهو رابع أحاديث الباب، وقد رواه مسلم من الوجه الذي أخرجه منه البخاري، وزاد في أوّله ذكر لعائشة رضي الله عنها: أنّ ابن عمر رضي الله عنهما، يقول:"إنّ الميّت ليعذّب ببكاء الحي عليه، فقالت عائشة رضي الله عنها: يغفر الله لأبي عبدالرحمن، أما أنّه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ، إنما مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، على يهودية. . . "
(4)
، فذكرت الحديث.
وأوّله بعضهم على أنَّ ذلك مختص بالكافر، وأنّ المؤمن لا يعذب بذنب غيره أصلًا، وهو ظاهر من رواية ابن عباس عن، عائشة رضي الله عنهم، وهو ثالث أحاديث الباب، وفيها إشعار بأنّها لم ترد الحديث بحديث آخر، بل بما استشعرت هي من معارضة القران، قال الداودي: رواية ابن عباس عن
(1)
معالم السنن (1/ 304).
(2)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 643)، (932).
(3)
[رضي الله عنها] سقط في ب.
(4)
صحيح مسلم، كتاب الجنائز باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 643)، (932).
عائشة رضي الله عنها، تثبت ما نفته عمرة وعروة عنها، إلا أنّها خصته بالكافر؛ لأنّها أثبتت أنّ الميت يزاد عذابه ببكاء أهله، فأي فرق بين أن يزاد بفعل غيره أو يعذب ابتداء
(1)
انتهى، وقد مرّ الجواب عنه فيما سبق.
وقال القرطبي: إنكار عائشة رضي الله عنها، ذلك، وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان، أو على أنّه سمع بعضًا ولم يسمع بعضًا، بعيد؛ لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة رضي الله عنهم، كثيرون، وهم جازمون، فلا وجه للنفي من إمكان حمله على محمل صحيح
(2)
، انتهى.
وقد ذكرنا على التفصيل ما يمكن أن يكون محملًا صحيحًا، وإنّما أطنبنا في هذا المقام؛ لكونه من مزالق الأقدام، والله سبحانه وتعالى أعلم بالمراد.
(1)
فتح الباري (3/ 156).
(2)
المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (2/ 583 - 584).