الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب مَا جَاءَ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
وَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ} [الأنعام: 93] هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)} [التوبة: 101] وَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 45 - 46].
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(باب مَا جَاءَ) من الأخبار والأحاديث (فِى) حقيّة (عَذَابِ الْقَبْرِ) لم يتعرض المؤلف في هذه الترجمة لكون عذاب القبر يقع على الروح وحده؟ أو عليه وعلى البدن، وفيه خلاف مشهور بين أهل السنة والمعتزلة، وقد مر الكلام فيه في باب:"الميت يسمع خفق النعال"
(1)
وكأنه تركه؛ لأن الأدلة التي يرضاها ليست بقاطعة في أحد الأمرين، فلم يتقلد الحكم في ذلك واكتفى بإثبات وجوده خلافًا لمن نفاه مطلقًا من الخوارج وبعض المعتزلة كضرار بن عمرو وبشر المريسي ومن وافقهما، وذهب بعض المعتزلة كالجبائي إلى أنه يقع على الكفار دون المؤمنين
(2)
.
(1)
(ص:722).
(2)
وقد أنكر عذاب القبر وسؤال منكر ونكير الجهمية، ذكر ذلك ورد عليه الإمام أبو الحسين الملطي في "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع" محمد بن أحمد بن عبد الرحمن، أبو الحسين المَلَطي العسقلاني (المتوفى: 377 هـ) محمد زاهد بن الحسن الكوثري، المكتبة الأزهرية للتراث - مصر (ص 124 - 125).
[113 ب/ص]
وبعض الأحاديث/ الآتية يرد
(1)
عليهم أيضًا، وقد كثرت الأحاديث في عذاب القبر؛ حتى قال غير واحد: إنها متواترة لا يصح التواطؤ عليها وإن لم يصح مثلها لم يصح شيء من أمر الدين.
[259 أ/س]
وقد ادعى قوم عدم ذكر عذاب القبر في القرآن، وزعموا /أنه لم يرد ذكره إلا من أخبار الآحاد
(2)
.
فذكر المؤلف آيات تدل على ثبوت عذاب القبر، فقال عطفًا على قوله "ما جاء":(وَقَوْلُهُ تَعَالَى (إِذِ الظَّالِمُونَ) وفي رواية: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم {فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} أي: شدائده وكرباته وسكراته، وهي جمع غمرة، وأصل الغمر من الماء فاستعيرت للشدة الغالبة
(3)
. وجواب "لو" محذوف ،وكلمة "إذ" ظرف مضاف إلي جملة اسمية، وهي قوله:{الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ} [الأنعام: 93] أي: ولو ترى زمان غمراتهم لرأيت أمرًا فظيعًا عظيمًا.
قال الزمخشري: يريد بالظالمين الذين ذكرهم من اليهود المتنبئة، فتكون اللام للعهد، ويجوز أن تكون للجنس فيدخل هؤلاء لاشتماله عليهم
(4)
.
وقال غيره: المراد من الظالمين قوم كانوا أسلموا بمكة أخرجهم الكفار إلى قتال بدر، فلما أبصروا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجعوا عن الإيمان، وقيل: هم الذين قالوا: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91]
(5)
.
({وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ}) يبسطون إليهم أيديهم بقبض أرواحهم يقولون: ({أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}) هاتوا أرواحكم أخرجوها إلينا من أجسادكم تغليظًا وتعنيفًا عليهم من غير تنفيس
(1)
[ترد].
(2)
فتح الباري (3/ 233).
(3)
النهاية في غريب الحديث والأثر، [غَمَرَ](3/ 383).
(4)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 46).
(5)
عمدة القاري (8/ 198).
وإهمال؛ وذلك لأن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والسلاسل والأغلال والجحيم وغضب الرحمن الرحيم، فيتفرق روحه في جسده ويعصي ويأبى الخروج، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم قائلين لهم: أخرجوا أنفسكم.
وروى [الطبراني]
(1)
وابن أبي حاتم من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ} الآية قال: هذا عند الموت، والبسط: الضرب، يضربون وجوههم وأدبارهم
(2)
.
ويشهد له قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)} [محمد: 27] وقال الضحاك وأبو صالح: باسطوا أيديهم بالعذاب
(3)
وقيل معنى قوله: {أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ} أخرجوا أنفسكم من العذاب إن قدرتم تقريعًا لهم وتوبيخًا
(4)
.
وهذا وإن كان قبل الدفن فهو من جملة العذاب الواقع قبل يوم القيامة؛ وإنما أضيف العذاب إلى القبر لكون معظمه يقع فيه، ولكثرة وقوعه على الموتى في القبور وإلا فالكافر ومن شاء الله تعذيبه من العصاة يعذب بعد موته ولو لم يدفن، ولكن ذلك محجوب عن الخلق إلا من شاء الله لحكمة اقتضت ذلك.
(1)
وروى (الطبري)، كما أشار إليه القسطلاني في إرشاد الساري (2/ 460).
(2)
تفسير الطبري (9/ 410). من طريق معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، إسناد ضعيف لأن به موضع انقطاع بين علي بن أبي طلحة الهاشمي وعبد الله بن العباس القرشي. وقال الذهبي في "ميزان الأعتدال" (3/ 134) (5870): وأخذ تفسير ابن عباس عن مجاهد، فلم يذكر مجاهدًا، بل أرسله عن ابن عباس. * وأخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره (4/ 1348)(7635) بهذا الإسناد.
(3)
تفسير الطبري (9/ 410).
(4)
تفسير الماوردي، أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب البصري البغدادي، الشهير بالماوردي (المتوفى: 450 هـ)، المحقق: السيد ابن عبد المقصود بن عبد الرحيم، دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان (2/ 145).
[259 أ/ص]
وقد اختلف في النفس والروح؛ فقال القاضي أبو بكر وأصحابه: إنهما /اسمان لشيء واحد، وقال ابن حبيب: الروح هو النفس الجاري يدخل ويخرج لا حياة للنفس إلا به، والنفس تألم وتلذ والروح لا يألم ولا يلذ. وعن ابن القاسم عن عبدالرحمن بن خلف: بلغني أن الروح له جسد ويدان ورجلان ورأس وعينان يسل من الجسد سلًا. وعن ابن القاسم: الروح مثل الماء الجاري
(1)
والله أعلم
({الْيَوْمَ}) قال الزمخشري: يجوز أن يريد به وقت الإماتة وما يعذبون به من شدة النزع، أو الوقت الممتد المتطاول من الإماتة إلى مالا نهاية الذي يلحقهم فيه العذاب في البرزخ والقيامة
(2)
.
({تُجْزَوْنَ عَذَابَ}) أي اليوم تهانون غاية الإهانة بما كنتم تقولون على الله غير الحق وكنتم عن آياته تستكبرون؛ أي: بما كنتم تكذبون على الله وكنتم عن اتباع آياته والانقياد لرسله تستكبرون، وقد فسر البخاري "الهون" بقوله:(هُوَ الْهَوَانُ) وفي رواية: قال أبو عبدالله- أي: البخاري-: الهون "هو الهوان"
(3)
يريد به العذاب المتضمن لشدة الإهانة، وإضافة العذاب إليه كقولك: رجل سوء. والمراد الغراقة والتمكن فيه.
ثم فسر بالمناسبة الهَون بفتح الهاء فقال: (وَالْهَوْنُ) أي: بالفتح (الرِّفْقُ) كما في قوله تعالى و {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان: 63] أي: برفق ومسكنة.
(وَقَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ) بالجر أيضًا {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} يعني حول بلدتكم وهي المدينة {مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ} وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار، كانوا نازلين حولها {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} عطف على خبر المبتدأ الذي هو {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ} ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا
(1)
المنتقى شرح الموطإ (2/ 32)، والتوضيح (10/ 155)، وعمدة القاري (8/ 199).
(2)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 47).
(3)
إرشاد الساري (2/ 460).
قدرت: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} قوم {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} تمهروا فيه، من [مرن]
(1)
فلان على عمله، ومرد عليه إذا درب به وضري، حتى لآن عليه ومهر فيه، ودل على مرانتهم عليه ومهارتهم فيه بقوله {لَا تَعْلَمُهُمْ} أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك؛ لفرط تنؤقهم
(2)
في تحامي ما يشكك في أمرهم، ثم قال الله تعالى:{نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ} أي: لا يعلمهم إلا الله، ولا يطلع على سرهم غيره؛ لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطانًا، ويبرزون لك ظاهرًا كظاهر المخلصين من المؤمنين، لا تشك معه في إيمانهم، وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به، فلهم فيه اليد الطولي
(3)
.
({سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}) قال مجاهد: القتل والسبي، وعند العذاب بالجوع وعذاب القبر
(4)
. وقيل: الفضيحة وعذاب القبر
(5)
.
[260 أ/س]
[114 ب/س]
وروى الطبري وابن أبي حاتم /والطبراني في الأوسط من طريق السدى، عن أبي مالك، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، فقال:"اخرج يا فلان فإنك منافق، واخرج يا فلان فإنك منافق"، فأخرج من المسجد ناسًا منهم وفضحهم، فجاء عمر رضي الله عنه، وهم يخرجون فاختبأ منهم /حياء أنه لم يشهد الجمعة، وظن أن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر رضي الله عنه ظنوا أنه قد علم بأمرهم، فجاء عمر رضي الله عنه فدخل المسجد فإذا الناس لم يصلوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر يا عمر، فقد فضح الله المنافقين. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: "فهذا العذاب الأول
(1)
[مرد] في ب.
(2)
قوله «لفرط تنؤقهم» أى: تأنفهم.
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 306).
(4)
تفسير البغوي (2/ 382)
(5)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 306).
حين أخرجهم من المسجد، والعذاب الثاني عذاب القبر"
(1)
. وكذا قال الثوري عن السدى عن أبي مالك نحو هذا
(2)
.
({ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ}) إلى عذاب النار.
(وَقَوْلُهُ تَعَالَى) بالجر أيضًا ({وَحَاقَ}) أي: أحاط، يقال: حاق به الشيء يحيق، أي: أحاط به، منه قوله تعالى:{وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا} [فاطر: 43] وحاق بهم العذاب، أي: أحاط بهم
(3)
({بِآلِ فِرْعَوْنَ}) أي: فرعون وقومه واستغنى بذكرهم عن ذكره ليعلم أنه أولى بذلك ({سُوءُ الْعَذَابِ}) ما هموا به من تعذيب المسلمين ورجع عليهم
(4)
كيدهم؛ والمراد الغرق في الدنيا ثم النقلة منه إلى النار.
فعلى هذا يكون قوله تعالى: ({النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا}) جملة مستأنفة مركبة من مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون قوله: "النار" بدلًا من "سوء العذاب". أو خبر مبتدأ محذوف كأن قائلًا قال: وما سوء العذاب؟ فقيل: هو النار، "ويعرضون عليها" فيكون "يعرضون" حالًا، وعرضهم عليها أحرقهم فيها، يقال: عرض الأساري على السيف إذا قتلهم به.
(1)
تفسير الطبري (11/ 644) من طريق الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، عن أبيه، عن أسباط بن نصر، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس، * تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم (6/ 1870)، بهذا الإسناد* المعجم الأوسط، باب الألف، من اسمه أحمد (1/ 241)(792) بهذا الإسناد أيضًا، وقال: لم يرو هذا الحديث عن السدي إلا أسباط بن نصر، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: فيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي وهو ضعيف.
(2)
عمدة القاري (8/ 199).
(3)
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، [حيق](4/ 1466)
(4)
[عليهم] سقط من ب.
({غُدُوًّا وَعَشِيًّا}) ويعنى: في هذين الوقتين يعذبون بالنار، وفيما بين ذلك الله أعلم بحالهم؛ فإما أن يعذبوا بجنس آخر من العذاب أو يتنفس عنهم، ويجوز أن يكون غدوًا وعشيًا عبارة عن الدوام، كقوله تعالى {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]،
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يعرضون يعني: أرواحهم على النار غدوًا وعشيًا، يعني في هذين الوقتين، وهكذا قال مجاهد وقتادة
(1)
.
وقال مقاتل: يعرض روح كل كافر على منازلهم من النار كل يوم مرتين
(2)
.
وقال أبو الليث السمرقندي: الآية تدل على عذاب القبر؛ لأنه ذكر دخولهم النار يوم القيامة. وذلك أنه يعرض عليهم النار قبل ذلك غدوًا وعشيًا
(3)
.
وقال ابن مسعود: رضي الله عنه "إن أرواح آل فرعون في أجواف طير سود تعرض على النار بكرة وعشيًا، فيقال لهم: هذه داركم"
(4)
[260 أ/ص]
/وقال مجاهد: غدوًا وعشيًا من أيام الدنيا
(5)
. وقال الفراء: ليس في القيامة غدو ولا عشي لكن مقدار ذلك
(6)
. ويرد عليه قوله تعالى الآتي: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ} على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى.
(1)
تفسير السمرقندي (3/ 208).
(2)
تفسير السمرقندي (3/ 208).
(3)
تفسير السمرقندي (3/ 208).
(4)
تفسير القرآن، عبد الرزاق بن همام الصنعاني، مكتبة الرشد - الرياض، الطبعة الأولى، 1410 هـ، تحقيق: د. مصطفى مسلم محمد (3/ 182) من طريق الثوري، عن أبي قيس الأودي، عن هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود، إسناده صحيح. ورواه البزار في "البحر الزخار"(4/ 284)(1454).
(5)
معاني القرآن للنحاس (6/ 229).
(6)
معاني القرآن للفراء (3/ 9).
وقال القرطبي: الجمهور على أن هذا العرض في البرزخ وهو حجة في إثبات عذاب القبر
(1)
.
وقال غيره: وقع ذكر عذاب الدارين في هذه الآية مفسرًا مبينًا لكنه حجة على من أنكر عذاب القبر مطلقًا لا على من خصه بالكفار.
واستدل بهذه الآية على أن الأرواح باقية بعد فراق الأجساد وهو قول أهل السنة
(2)
.
({وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ}) أي: هذه المذكور ما دامت الدنيا ويوم تقوم الساعة يقال للخزنة ({أَدْخِلُوا}) بفتح الهمزة من الإدخال ({آلَ فِرْعَوْنَ}) بنصب "آل" على المفعولية وقرئ: "اُدخُلوا" بضم الهمزة، من الدخول، فالمعني على هذا: ويوم تقوم الساعة يقال لهم: ادخُلوا يا آل فرعون، فيكون لفظ "آل" منصوبًا على النداء.
({أَشَدَّ الْعَذَابِ})[غافر: 45 - 46]. عذاب جهنم فإنه أشد مما كانوا أو أشد عذاب جهنم، فهذه الآية المكية أصل في الاستدلال لعذاب القبر؛ لكن استشكلت مع الحديث المروي في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح على شرط الشيخين:"أن يهودية في المدينة كانت تعيذ عائشة من عذاب القبر فسألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " كذبت يهود، لا عذاب دون يوم القيامة". فلما مضى بعض أيام نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم محمرًا عيناه بأعلى صوته "أيها الناس، استعيذوا بالله من عذاب القبر فإنه حق"
(3)
.
(1)
تفسير القرطبي (15/ 319).
(2)
فتح الباري (3/ 233).
(3)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها (41/ 66)(24520) من طريق هاشم، عن إسحاق بن سعيد، عن سعيد، عن عائشة،. وأورده الهيثمي في "المجمع"(3/ 54 - 55)(4281)، وقال: هو في الصحيح باختصار، رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وذكره الحافظ في "الفتح"(3/ 236)، وذكر أن إسناده على شرط البخاري.
وأجيب بأن الآية دلت على عذاب الأرواح في البرزخ، وما نفاه أولًا ثم أثبت صلى الله عليه وسلم عذاب الجسد فيه. والأَولى أن يقال: الآية دلت على عذاب الكفار، وما نفاه ثم أثبت عذاب القبر للمؤمنين.
ففي صحيح مسلم من طريق ابن شهاب، عن عروة عن عائشة رضي الله عنها "أن يهودية قالت: أشعرت أنكم تفتنون في القبور؟ فلما سمع صلى الله عليه وسلم قولها ارتاع وقال: إنما تفتن اليهود. ثم قال بعد ليال: "أشعرت أنه أوحى إلي أنكم تفتنون في القبور؟ "
(1)
.
وفي جامع الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: "ما زلنا نشك في عذاب القبر حتى نزلت {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2)} [التكاثر: 1_2]
(2)
.
وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا في قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124] قال: عذاب القبر"
(3)
والله أعلم.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1369 -
حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رضى الله عنهما - عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِى قَبْرِهِ
(1)
صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر (1/ 410)(584).
(2)
سنن الترمذي، أبواب تفسير القرآن، باب ومن سورة ألهاكم التكاثر (5/ 447)(3355)، من طريق الحجاج، عن المنهال بن عمرو، عن زر بن حبيش، عن علي وقال: هذا حديث غريب. وفي سنده الحجاج بن أرطاة وهو كثير الخطأ والتدليس، وقال الترمذي: هذا حديث غريب.
(3)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، فصل في أحوال الميت في قبره (7/ 388)(3119)، من طريق حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. إسناده حسن من أجل محمد بن عمرو- وهو ابن علقمة بن وقاص الليثي- قال ابن حجر في "التقريب" (ص: 499) (6188): صدوق له أوهام. وباقي السند ثقات من رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في "إثبات عذاب القبر"(1/ 59)(57) من طريق أبي خليفة، بهذا الإسناد. وأخرجه الحاكم (1/ 537)(1405) من طريق سليمان بن الأشعث، عن أبي الوليد الطيالسي، به.
أُتِىَ، ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ (27)} [إبراهيم: 27]». حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ بِهَذَا وَزَادَ {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا}
…
نَزَلَتْ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ.
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
[261 أ/س]
(/حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ
(1)
) الحوضي قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) بن الحجاج (عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ
(2)
) بفتح الميم وسكون الراء وفتح المثلثة وبالمهملة الحضرمي الكوفي.
(عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ) بسكون العين في الأول وبضم المهملة وفتح الموحدة في الثاني، وقد صرح في رواية أبي الوليد الطياليسي الآتية - إن شاء الله تعالى- في التفسير بالأخبار بين شعبة وعلقمة، وبالسماع بين علقمة وسعد بن عبيدة
(3)
.
(عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رضي الله عنهما عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أُقْعِدَ) بضم الهمزة مَبنيًا للمفعول (الْمُؤْمِنُ فِى قَبْرِهِ أُتِىَ) على البناء للمفعول حال من المؤمن أي: حال كونه مأتيًا إليه، والآتي الملكان: منكر ونكير.
(1)
هو: حفص بن عمر بن الحارث بن سَخْبرة الأزدي النَمَري، أبو عمر الحوضي، وهو بها أشهر ثقة ثبت، عيب بأخذ الأجرة على الحديث، من كبار العاشرة مات سنة خمس وعشرين ومائتين، تهذيب الكمال (7/ 26) (1397) تقريب التهذيب (ص: 172) (1412).
(2)
هو: علقمة بن مَرْثد الحضرمي، أبو الحارث الكوفي، ثقة، من السادسة، مات سنة تسع عشرة ومائة، تهذيب الكمال (20/ 308)(4018)، وتقريب التهذيب (ص: 397) (4682).
(3)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] (6/ 80)(4699).
(ثُمَّ شَهِدَ) بلفظ الماضي وفي رواية: "ثم يشهد". بلفظ المضارع عطف على قوله: "أقعد"
(1)
(أَنْ لَا إِلَهَ إِلَاّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) وفي رواية أبي الوليد الآتية: "المسلم إذا سئل في القبر: يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"
(2)
، والمسئول عنه محذوف؛ أي: عن ربه ونبيه ودينه.
[114 ب/ص]
وفي رواية / الإسماعيلي قال: "إن المؤمن إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف محمدًا في قبره"
(3)
وأخرجه ابن مردويه بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر عذاب القبر فقال: إن المسلم إذا شهد أن لا إله إلا الله وعرف أن محمدًا رسول الله"
(4)
.
(فَذَلِكَ) أي: قول المؤمن: لا إله إلا الله، هو:(قَوْلُهُ) تعالى ({يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ})[إبراهيم: 27] الذي ثبت بالحجة عندهم، وهي كلمة التوحيد؛ لأنها ثابتة راسخة في قلب المؤمن، وهو معتقد لحقيقتها، ومطمئن القلب بها.
وزاد في رواية أبي الوليد {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]
(5)
، وتثبيتهم في الدنيا أنهم إذا فتنوا في دينهم لم يزالوا عنها، وإن ألقوه في النار ولم يرتابوا بالشبهات. كما ثبت الذين فتنهم أصحاب الأخدود، والذين نشروا بالمنشار، ومشطت لحومهم بأمشاط الحديد، وكما ثبت جرجيس وشمسون وغيرهما ينظر، وتثبيتهم في الآخرة، أنهم إذا سئلوا في القبر لم يتوفوا في الجواب
وإذا سئلوا في الحشر وعند موقف الإشهاد عن معتقدهم ودينهم لم يدهشهم أهوال القيامة، وبالجملة فالمرء على قدر ثباته في الدنيا يكون ثباته في القبر وما بعده، وكلما كان أسرع إجابة كان أسرع تخلصًا من الأهوال
(6)
.
(1)
عمدة القاري (8/ 200).
(2)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] (6/ 80)(4699).
(3)
أخرجه ابن حجر في فتح الباري (3/ 234).
(4)
أخرجه ابن حجر في فتح الباري (3/ 234)، من طريق أبي خليفة عن حفص بن عمر شيخ البخاري.
(5)
صحيح البخاري، (6/ 80)(4699).
(6)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (2/ 554).
وقال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح وفي الآخرة في القبر
(1)
، وكذا روى عن غير واحد من السلف.
[261 أ/ص]
وذكر ابن كثير في تفسيره عن حماد بن سلمة أنه قال: عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: /" {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] قال: ذلك إذا قيل له في القبر: من ربك؟ وما دينك؟، فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيِّيِ محمد جاءنا بالبينات من عند الله، فآمنت به وصدقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت وعليه مت، وعليه تبعث"
(2)
.
وقال أيضًا: قال سفيان الثوري: عن أبي
(3)
خيثمة عن البراء في قوله تعالى: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [إبراهيم: 27] قال: عذاب القبر
(4)
.
ورجال إسناد هذا الحديث ما بين بصري وكوفي.
وقد أخرج متنه المؤلف في التفسير أيضًا ، وأخرجه مسلم في صفة النار، وابن ماجه في الزهد
(5)
.
(حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة العبدي البصري، ويقال له: بندار قال: (حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ) بضم الغين المعجمة وفتح الدال المهملة، محمد بن جعفر.
(1)
تفسير الطبري (13/ 666).
(2)
تفسير ابن كثير (4/ 430)، وأخرجه الطبري في تفسيره بهذا الإسناد، إسناده حسن رجاله ثقات عدا محمد بن عمرو الليثي وهو صدوق له أوهام،.
(3)
عن أبيه، عن خيثمة في تفسير ابن كثير.
(4)
نفس المصدر (4/ 426)، وأخرجه الطبري في "تفسيره" من طريق أبي أحمد عن سفيان، عن أبيه، عن خيثمة، عن البراء، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، (4/ 2202)(2871) بهذا الإسناد.
(5)
صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] (6/ 80)(4699) *صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4/ 2201)(2871) * سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (2/ 1427)(4269).
قال: (حَدَّثَنَا شُعْبَةُ) أي: ابن الحجاج (بِهَذَا) الحديث السابق (وَزَادَ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) نَزَلَتْ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ) وبهذه الزيادة أخرجه مسلم، حدثنا محمد بن بشار بن عثمان العبدي، ثنا محمد بن جعفر، ثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سعد بن عبيدة، عن البراء بن عازب، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}
…
قال: نزلت في عذاب القبر"
(1)
.
قال الطيبي: في شرح المشكاة وكذا الكرماني فإن قلت: ليس في الآية ما يدل على عذاب المؤمن في القبر، فما معنى:"نزلت في عذاب القبر"؟
قلت: لعله سمي أحوال العبد في القبر بعذاب القبر على تغليب فتنة الكافر على
(2)
فتنة المؤمن ترهيبًا وتخويفًا؛ ولأن القبر مقام الهول والوحشة؛ ولأن ملاقاة الملكين مما يهيب المؤمن في العادة
(3)
، رزقنا الله في الدارين السعادة
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1370 -
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبراهيم حَدَّثَنِى أَبِى عَنْ صَالِحٍ حَدَّثَنِى نَافِعٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ: «وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا» . فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا فَقَالَ «مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ» .
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(1)
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا أهل الجنة وأهل النار (4/ 2201)(2871).
(2)
[تغليب] زاد في ب.
(3)
كواكب الدراري (7/ 146)، والكاشف عن حقائق السنن (2/ 587).
(حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ) المعروف بابن المديني قال (حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري.
قال: (حَدَّثَنِى) بالإفراد وفي رواية: "حدثنا"(أَبِى) إبراهيم المذكور (عَنْ صَالِحٍ) هو ابن كيسان أبو محمد قال: (حَدَّثَنِى نَافِعٌ) مولى ابن عمر.
[262 أ/س]
(أَنَّ ابْنَ عُمَرَ) بن الخطاب (رضى الله عنهما - أَخْبَرَهُ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ) قليب بدر، كما في حديث آخر، والقَلِيب: بفتح القاف /وكسر اللام وبالموحدة هو البئر قبل أن تطوي، يذكر ويؤنث
(1)
.
وقال أبو عبيدة: هو البئر القديمة، وجمع القلة أقلبة. والكثرة قُلُب بضمتين
(2)
. والمراد به ههنا: قَليب بدر.
وتبينه في الحديث في رواية أخرى بقوله: "قليب بدر
(3)
" بالجر بدل من القليب، والمراد من أهل القليب: أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، يعنى: رآهم صلى الله عليه وسلم مقتولين في غزوة بدر، وحضرهم وهم يعذبون
(4)
.
(فَقَالَ) صلى الله عليه وسلم لهم: (وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا) وفي نسخة: "وعدكم"
(5)
.
(فَقِيلَ لَهُ) صلى الله عليه وسلم والقائل: هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما في مسلم على ما سيأتي
(6)
. (تَدْعُو) بحذف همزة الاستفهام وفي نسخة بإثباتها
(7)
(أَمْوَاتًا؟ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ) لما أقول
(1)
مجمل اللغة لابن فارس، كتاب القاف، باب القاف واللام (1/ 730).
(2)
الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية [قلب](1/ 206).
(3)
صحيح البخاري، باب قتل أبي جهل (5/ 77)(3980)
(4)
فتح الباري (1/ 271)، وإرشاد الساري (2/ 462).
(5)
إرشاد الساري (2/ 462).
(6)
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه، وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه (4/ 2203)(2874).
(7)
إرشاد الساري (2/ 462).
(وَلَكِنْ لَا يُجِيبُونَ) أي: لا يقدرون على الجواب، وهذا يدل على وجود حياة في القبر يصلح معها التعذيب.
وفي صحيح مسلم من رواية أنس رضي الله عنه، "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ترك قتلى بدر ثلاثة، ثم أتاهم فقام عليهم فناداهم، فقال: يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقًا؟ فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقًا. فسمع عمر رضي الله عنه قول النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله كيف يسمعواوأنى يجيبوا وقد جيفوا؟ قال: "والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا. ثم أمر بهم فسحبوا، فألقوا في القليب بدر"
(1)
.
ورجال إسناد الحديث مدنيون، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي.
وقد أخرج متنه المؤلف في المغازي مطولًا، وأخرجه مسلم في الجنائز، وكذا النسائي
(2)
.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1371 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ حَقٌّ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى)» .
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
[115 ب/س]
(1)
صحيح مسلم، (4/ 2203)(2874).
(2)
صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب قتل أبي جهل (5/ 77)(3980)، *صحيح مسلم، كتاب الجنائز، باب الميت يعذب ببكاء أهله عليه (2/ 643)(932)، * السنن الصغرى للنسائي، كتاب الجنائز، أرواح المؤمنين (4/ 110)(2076).
/ (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) هو ابن أبي شيبة بن إبراهيم الكوفي، قال:(حَدَّثَنَا سُفْيَانُ) أي: ابن عيينة (عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ) عروة بن الزبير.
(عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: إِنَّمَا قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ حَقٌّ) وفي رواية: "أن ما كنت أقول لهم حق"
(1)
، وهذا مصير من عائشة رضي الله عنها إلى رد روايةابن عمر رضي الله عنهما المذكورة، ثم استدلت لما نفته بقولها:(وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}) وخالفها الجمهور في ذلك، وقبلوا حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، لموافقة رواية غيره.
[262 أ/ص]
وقال السهيلي: عائشة رضي الله عنها لم تحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم، فغيرها ممن حضر أحفظ /للفظ النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد قالوا له: يا رسول الله أتخاطب قومًا قد جيفوا؟ فقال: " ما أنتم بأسمع لما أقول منهم"، قال: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمَين، جاز أن يكونوا سامعِين، إما بآذان رؤوسهم، كما هو قول الجمهور، أو بأذن الروح على رأي من يوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع إلى الجسد. قال: وأما الآية فإنها كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ} [الزُّخرُف: 40] أي: أن الله هو الذي يسمع ويهدي. انتهى
(2)
.
قال الحافظ العسقلاني: وقوله: إنها لم تحضر. صحيح لكن لا يقدح ذلك في روايتها؛ لأنه مرسل صحابي، وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله عليه وسلم بعد، ولو كان ذلك قادحًا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر رضي الله عنهما؛ فإنه لم يحضر أيضًا ، ولا مانع أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قال اللفظين معًا؛ فإنه لا تعارض بينهما
(3)
.
وقال ابن التين: لا معارضة بين حديث ابن عمر رضي الله عنهما والآية؛ لأن الموتى لا يسمعون، بلا شك لكن إذا أراد الله إسماع ما ليس من شأنه السماع لم يمتنع، كقوله تعالى:{وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا}
(1)
إرشاد الساري (2/ 462).
(2)
الروض الأُنُف (5/ 105).
(3)
فتح الباري (3/ 235).
[فُصِّلَت: 11] الآية. وكقوله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ} [الأحزاب: 72] الآية. وأن النار اشتكت إلى ربها، وسيأتي في المغازي قول قتادة: إن الله أحياهم حتى سمعوا كلام نبيه توبيخًا ونقمة. انتهى
(1)
. فيكون معنى قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى} [النمل: 80] مثل قوله تعالى {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56].
وقال المفسرون في قوله تعالى: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)} [النمل: 80]: هذا مَثَل، ضربه الله للكفار؛ أي: فكما أنك لا تسمع الموتى، فكذلك لا تفقّه كفار مكة ولا تُسمِع الصم الدعاءَ إذا أعرضوا عن الحق مكذبين
(2)
.
وقال الزمخشري: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} تأكيد لحال الأصم، لأنه إذا تباعد عن الداعي بأن يولى عنه مدبرًا كان أبعد عن إدراك صوته هذا
(3)
.
وقد أخذ ابن جرير وجماعة من الكرامية من هذه القصة أن السؤال في القبر يقع على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكًا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم
(4)
.
وذهب ابن حزم وابن [مسرة]
(5)
إلى أن السؤال يقع على الروح فقط من غير عود إلى الجسد
(6)
.
[263 أ/س]
وخالفهم الجمهور فقالوا: تعاد الروح إلى الجسد أو بعضه كما ثبت في الحديث، ولو كان على الروح فقط لم يكن للقبر بذلك اختصاص، ولا يمنع من ذلك كون الميت قد تتفرق أجزاؤه؛ لأن الله
(1)
التوضيح (10/ 152).
(2)
تفسير السمرقندي (2/ 592).
(3)
الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (3/ 383).
(4)
فتح الباري (3/ 235).
(5)
هُبَيْرَة في المحلى.
(6)
المحلى، [مسألة عذاب القبر ومساءلة الأرواح بعد الموت حق](1/ 42).
تعالى قادر أن يعيد الحياة /إلى جزء من الجسد يقع عليه السؤال كما هو قادر على أن يجمع أجزاءه المتفرقة.
والحامل للقائلين بأن السؤال يقع على الروح فقط، أن الميت قد يشاهد في قبره حال المسألة لا أثر فيه من إقعاد ولا غيره ولا ضيق في قبره ولا سعة، وكذلك غير المقبور كالمصلوب.
والجواب عنه: أن ذلك غير ممتنع في القدرة؛ بل له نظير في العادة؛ وهو النائم ،فإنه يجده لذة وألمًا لا يدركها جليسه؛ بل اليقظان قد يجد ألمًا ولذة لما يسمعه أو يفكر فيه ولا يدرك ذلك جليسه، وإنما أتى الغلط من قياس الغائب على الشاهد، وأحوال ما بعد الموت على ما قبله.
والظاهر أن الله تعالى صرف أبصار العباد وأسماعهم عن مشاهدة ذلك، وستره عنهم إبقاء عليهم لئلا يتدافنوا، وليست للجوارح الدنيوية قدرة على إدراك أمور الملكوت إلا من شاء الله، وقد ثبتت الأحاديث بما ذهب إليه الجمهور كقوله:"إنه يسمع خفق نعالهم"، وقوله:"يختلف أضلاعه لضمة القبر"، وقوله:"يسمع صوته إذا ضرب بالمطرق"،وقوله:"يضرب بين أذنيه"،وقوله:"فيقعدانه"
(1)
، وكل ذلك من صفات الأجساد
(2)
.
وذهب أبو الهذيل ومن تبعه إلى أن الميت لا يشعر بالتعذيب ولا بغيره إلا بين النفختين. قالوا: وحاله كحال النائم والمغشي عليه لا يحس بالضرب ولا بغيره إلا بعد الإفاقة. والأحاديث الثابتة في السؤال حال تولى أصحاب الميت عنه، ترد عليهم
(3)
.
ثم إن وجه إدخال حديث ابن عمر وحديث عائشة رضي الله عنهم في ترجمة عذاب القبر أنه لما ثبت من سماع أهل القليب كلامه وتوبيخه لهم دل إدراكهم الكلام بحاسة السمع على جواز إدراكهم ألم العذاب ببقية الحواس؛ بل بالذات أو الجامع بينهما وبين بقية الأحاديث أن المؤلف رحمه الله أشار إلى التوفيق بين حديثي ابن عمر وعائشة رضي الله عنها بحمل حديث ابن عمر على أن
(1)
تقدم تخريج هذه الأحاديث في باب: الْمَيِّتُ يَسْمَعُ خَفْقَ النِّعَالِ (ص: 722).
(2)
فتح الباري (3/ 235).
(3)
الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة، محمد بن أبي بكر بن أيوب بن سعد شمس الدين ابن قيم الجوزية (المتوفى: 751 هـ)، دار الكتب العلمية - بيروت (ص 51)، وفتح الباري (3/ 235).
مخاطبة أهل القليب وقعت وقت المسألة، وحينئذ كانت الروح قد أعيدت إلى الجسد، وقد تبين من الأحاديث الأخرى أن الكافر المسئول يعذب، وأما إنكار عائشة رضي الله عنها فمحمول على غير وقت المسألة فيتفق الخبران
(1)
. والله أعلم.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1372 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنِى أَبِى عَنْ شُعْبَةَ سَمِعْتُ الأَشْعَثَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا: أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ: «نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ» . قَالَتْ عَائِشَةُ - رضى الله عنها - فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ صَلَّى صَلَاةً إِلَاّ تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. زَادَ غُنْدَرٌ «عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ» .
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
[263 أ/ص]
[115 ب/ص]
(حَدَّثَنَا عَبْدَانُ) هو لقب عبدالله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد ثابت (أَخْبَرَنِى) بالإفراد (أَبِى) عثمان (عَنْ شُعْبَةَ) أي: ابن الحجاج قال: (سَمِعْتُ الأَشْعَثَ) بالمثلثة في آخره (عَنْ أَبِيهِ
(2)
) /أبي الشعثاء بالمد سليم بن أسود المحاربي ، وفي رواية / أبي داود الطيالسي:"عن شعبة عن أشعث سمعت أبي"
(3)
.
(1)
الروح لابن قيم الجوزية (ص 51). وفتح الباري (3/ 235).
(2)
هو: سليم بن أسود بن حنظلة، أبو الشعثاء المحاربي الكوفي، ثقة باتفاق، من كبار الثالثة، مات في زمن الحجاج [دون المائة] وأرخه ابن قانع سنة ثلاث وثمانين، تهذيب الكمال (11/ 340)(2484)، وتقريب التهذيب (ص: 249) (2524).
(3)
مسند أبي داود الطيالسي، مسند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها (3/ 35)(1514).
(عَنْ مَسْرُوقٍ) هو ابن الأجدع (عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ يَهُودِيَّةً) قال الحافظ العسقلاني: لم أقف على اسمها
(1)
(دَخَلَتْ عَلَيْهَا) أي: على عائشة رضي الله عنها (فَذَكَرَتْ) تلك اليهودية (عَذَابَ الْقَبْرِ، فَقَالَتْ لَهَا) أي: لعائشة رضي الله عنها (أَعَاذَكِ اللَّهُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ. فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ عَذَابُ الْقَبْرِ) أي: حق أو ثابت، بحذف الخبر. وفي رواية الحموي والمستملي:"عذاب القبر حق" بإثبات الخبر؛ لكن قال الحافظ العسقلاني: إنه ليس بجيد؛ لأن المصنف قال عقب هذه الطريق: "زاد غندر: عذاب القبر حق". فبين أن لفظة "حق" ليست في رواية عبدان عن أبيه عن شعبة، وأنها ثابتة في رواية غندر يعني عن شعبة وهو كذلك. وقد أخرج طريق غندر النسائي والإسماعيلي كذلك
(2)
، وكذلك أخرجه أبو داود الطياليسي في مسنده
(3)
عن شعبة،
(4)
.
وتعقبه العيني بأن قوله: " زاد غندر: عذاب القبر حق" ليس بموجود في كثير من النسخ، وإنما في رواية أبي ذر، ولئن سلمنا وجوده فلا نسلم أنه يستلزم حذف الخبر، مع أن الأصل ذكر الخبر،
وكيف ينفي الجودة من رواية المستملي مع كونها على الأصل؟ فماذا يلزم من المحذور إذا ذكر الخبر في الروايات كلها
(5)
. انتهى. وفيه تأمل.
(قَالَتْ عَائِشَةُ) رضي الله عنها (فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدُ) مبني على الضم، أي: بعد سؤالي إياه صلى الله عليه وسلم (صَلَّى صَلَاةً إِلَاّ تَعَوَّذَ) فيها (مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) وزاد أبو ذر هنا قوله: (زَادَ غُنْدَرٌ: عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ) ففي هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم أقر اليهودية على أن عذاب القبر حق، وقد وقع في رواية أبي وائل عن مسروق عند البخاري في الدعوات: "دخل عجوزان من عجز يهود
(1)
فتح الباري (3/ 235).
(2)
السنن الصغرى للنسائي (3/ 56)(1308).
(3)
مسند أبي داود الطيالسي، مسند عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها (3/ 35)(1514).
(4)
فتح الباري (3/ 236).
(5)
عمدة القاري (8/ 203).
المدينة، فقالتا: إن أهل القبور يعذبون في قبورهم" فهذه الرواية محمولة على أن إحداهماتكلمت وأقرّتها الأخرى على ذلك، فنسب القول إليهما مجازًا والإفراد يحمل على التكلم. وزاد في رواية أبي وائل: "فكذبتهما"
(1)
.
[264 أ/س]
فإن قيل: روى مسلم من طريق ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها
(2)
/قالت: " دخلت عليَّ امرأة من اليهود وهي تقول: هل شعرت أنكم تفتنون في القبور؟ قالت: فارتاع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إنما تفتن يهود. قالت عائشة رضي الله عنها: فلبثنا ليالي، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل شعرت أنه أوحى إليَّ أنكم تفتنون في القبور؟ قالت عائشة: فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعيذ من عذاب القبر"
(3)
.
وبين هاتين الروايتين مخالفة؛ لأن في هذه أنه صلى الله عليه وسلم أنكر على اليهودية وفي الأولى أنه أقرها.
فالجواب ما قاله النووي تبعًا للطحاوي وغيره: أنهما قضيتان أنكر النبي صلى الله عليه وسلم في القضية الأولى، ثم أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ولم يعلم عائشة رضي الله عنها ، فجاءت اليهودية مرة أخرى فذكرت لعائشة رضي الله عنها ذلك فأنكرت عليها مستندة إلى الإنكار الأول فأعلمها النبي صلى الله عليه وسلم بأن الوحي نزل بإثباته. انتهى
(4)
.
وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ سرًا فلما رأى استغراب عائشة رضي الله عنها حين سمعت ذلك من اليهودية أعلن ليترسخ ذلك في عقائد أمته ويكونوا على خيفة من فتنته. انتهى
(5)
.
(1)
صحيح البخاري، كتاب الدعوات، باب التعوذ من عذاب القبر (8/ 78)(6366).
(2)
[رضي الله عنها] سقط من ب.
(3)
صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب التعوذ من عذاب القبر (1/ 410)(584).
(4)
شرح مشكل الآثار (13/ 197). وشرح صحيح مسلم (5/ 86).
(5)
الكواكب الدراري (7/ 147).
قال الحافظ العسقلاني: وكأنه لم يقف على رواية الزهري عن عروة التي تقدمت آنفًا؛ أي: فلذلك ذكر ما ذكره بالاحتمال، وقد تقدم في باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف من طريق عمرة، عن عائشة رضي الله عنها:"أن يهودية جاءت تسألها، فقالت: أعاذك الله من عذاب القبر، فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيعذب الناس في قبورهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عائذًا بالله من ذلك. ثم ركب ذات غداة مركبًا، فخسفت الشمس" فذكر الحديث وفي آخره "ثم أمرهم أن يتعوذوا من عذاب القبر"
(1)
. وفي هذا موافقة لرواية الزهري وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده علم بعذاب القبر لهذه الأمة.
[264 أ/ص]
وأصرح منه ما رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح على شرط البخاري عن سعيد بن عمرو بن سعيد الأموي عن عائشة رضي الله عنها " أن يهودية كانت تخدمها، فلا تصنع عائشة رضي الله عنها إليها شيئًا من المعروف، إلا قالت لها اليهودية: وقاك الله عذاب القبر، قالت: قلت: يا رسول الله، هل للقبر عذاب؟ قال: كذبت يهود، لا عذاب دون القيامة. ثم مكث بعد ذلك ما شاء الله أن
يمكث، فخرج ذات يوم نصف النهار، وهو /ينادي بأعلى صوته: أيها الناس، استعيذوا بالله من عذاب القبر حق"
(2)
، وفي هذا كله أنه صلى الله عليه وسلم إنما علم بحكم عذاب القبر؛ إذ هو بالمدينة في آخر الأمر.
فإن قيل: الآية، أعني قوله تعالى:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} [إبراهيم: 27] الآية مكية، وكذا قوله تعالى:{النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46]؟.
فالجواب: أن عذاب القبر يؤخذ من الآية الأولى بطريق المفهوم في حق من لم يتصف بالإيمان، وكذا بالمنطوق. وفي الآية الثانية
(3)
في حق آل فرعون، وإن التحق بهم من كان له حكمهم
(1)
صحيح البخاري، أبواب الكسوف، باب التعوذ من عذاب القبر في الكسوف (2/ 36)(1059).
(2)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها (41/ 66)(24520).
(3)
[الثالثة] في ب.
من الكفار، فالذي أنكره النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو وقوع العذاب على الموحدين، ثم أعلم صلى الله عليه وسلم أن ذلك قد يقع على من شاء منهم فجزم به وحذر منه وبالغ في الاستعاذة منه تعليمًا لأمته وإرشادًا به، فزال التعارض
(1)
.
وفي الحديث: أن عذاب القبر حق وأنه ليس بخاص بهذه الأمة، بخلاف المسألة ففيها اختلاف كما سيأتي ذكره في آخر الباب إن شاء الله تعالى.
[116 ب/س]
/وفيه: جواز التحديث عن أهل الكتاب إذا وافق قول الرسول صلى الله عليه وسلم.
وفيه: التوقف عن خبرهم حتى يعرف أصدق أم كذب.
وفيه: استحباب التعوذ من عذاب القبر عقيب الصلاة لأنه وقت إجابة الدعوة.
وفيه: جواز دخول اليهودية عند المسلمات، وفي حديث أحمد جواز استخدام أهل الذمة.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1373 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَخْبَرَنِى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ - رضى الله عنهما - تَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِى يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ ضَجَّةً.
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ
(2)
) أبو سعيد الجعفي الكوفي نزيل البصرة، قال:(حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ) عبدالله المصري بالميم (قَالَ: أَخْبَرَنِى) بالإفراد (يُونُسُ) هو ابن يزيد الأيلي.
(1)
فتح الباري (3/ 236).
(2)
هو: يحيى بن سليمان بن يحيى بن سعيد الجعفي، أبو سعيد الكوفي نزيل مصر، صدوق يخطئ، من العاشرة، مات سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومائتين، تهذيب الكمال (31/ 369)(6842)، وتقريب التهذيب (ص: 591) (7564).
(عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) الزهري قال: (أَخْبَرَنِى) بالإفراد (عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ) أي: ابن العوام (أَنَّهُ سَمِعَ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِى بَكْرٍ) الصديق (رضي الله عنهما تَقُولُ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم) حال كونه (خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الَّتِى يَفْتَتِنُ فِيهَا الْمَرْءُ) بفتح المثناة التحتية من الافتنان، ويروي:"يُفتن" بضم المثناة التحتية على البناء للمفعول من الثلاثي
(1)
.
(فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ) بتفاصيلها كما تجري على المرء في قبره (ضَجَّ الْمُسْلِمُونَ) صاحوا وجزعوا (ضَجَّةً عظيمة
(2)
) هكذا أخرجه البخاري مختصرًا.
[265 أ/س]
وقد أخرجه النسائي من الوجه الذي أخرجه البخاري فزاد بعد قوله: "ضجة"، "حالت بيني وبين أن أفهم آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما سكنت ضجتهم، قلت لرجل قريب مني: أي بارك
الله فيك، ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر كلامه؟ قال:" قد أوحى إليّ أنكم تفتنون في القبور /قريبًا من فتنة الدجال"
(3)
يريد فتنة عظيمة؛ إذ ليس فتنة أعظم من فتنة الدجال.
وقد تقدم هذا الحديث في كتاب العلم، وفي الكسوف، والجمعة، من طريق فاطمة بنت المنذر عن أسماء بتمامه
(4)
.
قال الحافظ العسقلاني: ولم أقف على اسم الرجل الذي استفهمت منه عن ذلك
(5)
، ولأحمد من طريق محمد بن المنكدر عن أسماء مرفوعًا: "إذا دخل الإنسان قبره، فإن كان مؤمنًا، احتفّ به
(1)
إرشادالساري (2/ 463).
(2)
عظيمة زاد على أصل البخاري
(3)
السنن الصغرى للنسائي، كتاب الجنائز، التعوذ من عذاب القبر (4/ 103)(2062)، من طريق: ابن شهاب، أخبرني عروة بن الزبير، أنه سمع أسماء بنت أبي بكر.
(4)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (1/ 28)(85) وكتاب الجمعة، باب من قال في الخطبة بعد الثناء: أما بعد (2/ 10)(922) وأبواب الكسوف، باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف (2/ 37)(1053).
(5)
فتح الباري (3/ 237).
عمله، فيأتيه الملك فيرده الصلاة والصيام، فيناديه: اجلس فيجلس، فيقول: ما تقول في هذا الرجل محمد؟ قال: أشهد أنه رسول الله، قال: على ذلك عشت، وعليه مت وعليه تبعث"
(1)
الحديث.
ووقع في بعض النسخ هنا: زاد غندر: "عذاب القبر" بحذف الخبر؛ أيْ: حق. قال الحافظ العسقلاني: وهو غلط؛ لأن هذا إنما هو في آخر حديث عائشة رضي الله عنها الذي قبله، وأما حديث أسماء فلا رواية لغندر فيه
(2)
. والله أعلم.
قَالَ الْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ رحمه الله:
1374 -
حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ، وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم. فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ، قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا» . قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ يُفْسَحُ فِى قَبْرِهِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ قَالَ: «وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِى، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ. وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ، غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» .
(1)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، (44/ 535)، (26976)، من طريق حجين بن المثنى، عن عبد العزيز يعني ابن أبي سلمة الماجشون، عن محمد يعني ابن المنكدر، قال: كانت أسماء، رجاله ثقات رجال الصحيح، وأخرجه الطبراني في "الكبير"(24/ 105)(281) من طريق حجين بن المثنى، بهذا الإسناد. مختصرا. وذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (3/ 51) (4268) وقال: رواه أحمد، والطبراني طرفا منه في "الكبير"، ورجال أحمد رجال الصحيح.
(2)
فتح الباري (3/ 237).
قَالَ الشَّارِحُ رحمه الله:
(حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ
(1)
) بفتح المهملة وتشديد المثناة التحتية وبالشين المعجمة قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى) بن عبد الأعلى السامي بالسين المهملة قال: (حَدَّثَنَا سَعِيدٌ) هو ابن أبي عروبة (عَنْ قَتَادَةَ) بن دعامة (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه -) وسقط في رواية: لفظ "ابن مالك"
(2)
.
(أَنَّهُ حَدَّثَهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ) كذا وقع عنده مختصرًا وأوله عند أبي داود من طريق عبدالوهاب بن عطاء، عن سعيد بهذا السند "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل نخلا لبني النجار، فسمع صوتًا ففزع، فقال: من أصحاب هذه القبور؟ قالوا: يا رسول الله ناس ماتوا
في الجاهلية، فقال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، ومن فتنة الدجال. قالوا: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: إن العبد إذا وضع في قبره"
(3)
.
(وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ) بالواو والضمير للميت، وفي رواية:" إنه" بدون الواو (لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ) زاد مسلم: "إذا انصرفوا"
(4)
(أَتَاهُ مَلَكَانِ) وفي رواية مسلم: "يأتيه ملكان"
(5)
وزاد ابن
(1)
هو: عياش بن الوليد الرقام، أبو الوليد البصري، ثقة، من العاشرة، مات سنة ست وعشرين ومائتين، تهذيب الكمال (22/ 562)(4603)، وتقريب التهذيب (ص: 437) (5272).
(2)
إرشاد الساري (2/ 463).
(3)
سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر (4/ 238)(4751)، وأخرجه البخاري في "صحيحه"، كتاب الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال (2/ 90)(1338).
(4)
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (4/ 2201)(2870).
(5)
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (4/ 2200)(2870).
حبان والترمذي من طريق سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه "أسودان أزرقان، يقال لأحدهما: المنكر، وللآخر: النكير"
(1)
فعيل بمعنى مفعول، وفي رواية ابن حبان "يقال لهما: منكر ونكير"
(2)
.
وسميا بذلك؛ لأن الميت لم يعرفهما، ولم ير صورهما، وإنما صوّرا كذلك ليخاف الكافر ويتحير في الجواب، وأما المؤمن فيثبته الله بالقول الثابت فلا يخاف؛ لأن من خاف في الدنيا وآمن بالله ورسله وكتبه لم يخف في القبر
(3)
.
[265 أ/ص]
وزاد الطبراني /في الأوسط، من طريق أخرى عن أبي هريرة رضي الله عنه:"أعينهما مثل قدور النحاس، وأنيابهما مثل صياصي البقرة، وأصواتهما مثل الرعد"
(4)
.
ونحوه لعبد الرزاق من مرسل عمرو بن دينار، وزاد:"يحفران بأنيابهما، ويطآن في أشعارهما، معهما مرزبة لو اجتمع عليها أهل منى لم يقلوها"
(5)
.
وأورد ابن الجوزي في الموضوعات حديثًا فيه "أن فيهم رومان وهو كبيرهم"
(6)
.
وذكر بعض الفقهاء أن اسم اللذين يسألان المذنب منكر ونكير، وأن اسم اللذين يسألان المطيع مبشر وبشير ،كذا ذكره الحافظ العسقلاني
(7)
.
(فَيُقْعِدَانِهِ) وفي حديث البراء رضي الله عنه "فيجلسانه، فتعاد روحه في جسده"
(8)
، وزاد ابن حبان من طريق أبي سلمة، عن أبي هريرة رضي الله عنه: "فإذا كان مؤمنًا كانت الصلاة عند رأسه، والزكاة عن يمينه،
(1)
سنن الترمذي، أبواب الجنائز، (3/ 375) (1071) تقدم تخريجه في (ص: 729).
(2)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، فصل في أحوال الميت في قبره (7/ 386)(3117) من طريق بشر بن معاذ العقدي عن يزيد بن زريع، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، وأخرجه الترمذي في سننه، أبواب الجنائز، (3/ 375) (1071) تقدم تخريجه في (ص: 729).
(3)
إرشاد الساري (2/ 464).
(4)
المعجم الأوسط، باب العين، من اسمه: عبيد الله (5/ 44)(4629)، تقدم تخريجه في (ص: 730).
(5)
المصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب فتنة القبر (3/ 582)(6738)، عن معمر، عن عمرو بن دينار.
(6)
لم أجده في كتاب الموضوعات لابن الجوزي، ووجدته في "فتح الباري" وعزاه إلى ابن الجوزي (3/ 237).
(7)
فتح الباري (3/ 237).
(8)
سنن أبي داود، كتاب السنة، (4/ 239)(4753)، تقدم تخريجه في (ص:722).
والصوم عن شماله، وفعل المعروف من قبل رجليه، فيقال له: اجلس فيجلس وقد مثلت له الشمس عند الغروب"
(1)
، وزاد ابن ماجه من حديث جابر رضي الله عنه "فيجلس يمسح عيينه، ويقول: دعوني أصلي"
(2)
فانظر كيف يبعث المرء على ما عاش عليه.
[116 ب/ص]
حكى أنه اعتاد بعضهم أنه كلما انتبه ذكر الله واستاك، وتوضأ وصلّى، فلما مات رئي، فقيل له: ما فعل الله بك. قال: لما جاءني الملكان، وعادت إلى روحي، حسبت أني انتبهت من الليل، فذكرت الله على العادة، وأردت أن أقوم أتوضأ، فقالا لي: أين تريد تذهب؟ فقلت: الوضوء والصلاة، فقالا: نم نوم العروس، فلا خوف عليك ولا بؤس
(3)
. اللهم اجعلنا من الذين / لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
(فَيَقُولَانِ) له (مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هذا الرَّجُلِ، لِمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم) بيان من الراوي أي: لأجل محمد صلى الله عليه وسلم ،وفي رواية أبي داود:"ما كنت تقول في هذا الرجل؟ "
(4)
وفي رواية أحمد من حديث
عائشة رضي الله عنها: "ما هذا الرجل الذي كان فيكم؟ "
(5)
وعبر بذلك امتحانًا، لئلا يتلقن تعظيمه عن عبارة القائل.
والإشارة في قوله: "هذا"، إلى الحاضر، فقيل: يكشف للميت حتى يرى النبي صلى الله عليه وسلم وهي بشرى عظيمة للمؤمن إن صح ذلك، قال القسطلاني: ولا نعلم حديثًا صحيحًا في ذلك مرويًا.
(1)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، (7/ 380) (3113) تقدم تخريجه في (ص:723).
(2)
سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (2/ 1428) (4272) من طريق: إسماعيل بن حفص الأبلي، أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن أبي سفيان، وقال البوصيري في "مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجه" (4/ 252): إسناده حسن.
(3)
إرشاد الساري (2/ 464).
(4)
سنن أبي داود، كتاب السنة، (4/ 238)(4751)، تقدم تخريجه في (ص:957).
(5)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها (42/ 12)(25089)، من طريق ابن أبي ذئب، عن محمد بن عمرو بن عطاء، عن ذكوان، عن عائشة. إسناده صحيح، وأورده المنذري فى "الترغيب والترهيب"(4/ 195)(5396)، وقال: رواه أحمد بإسناد صحيح.
والقائل به إنما استند بمجرد أن الإشارة لا تكون إلا لحاضر. لكن يحتمل أن يكون الإشارة لما في الذهن، فيكون مجازًا
(1)
.
وزاد أبو داود في أوله: " ما كنت تعبد؟ فإن الله هداه قال: كنت أعبد الله. فيقال له ما كنت تقول في هذا الرجل؟ "
(2)
.
[266 أ/س]
/ (فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ) ولأحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه "فإن كان مؤمنًا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقال: له صدقت"
(3)
وزاد أبو داود "فلا يسأل عن شيء، غيرها"
(4)
.
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما المتقدم في كتاب العلم والطهارة وغيرهما: "فأما المؤمن أو الموقن، فيقول: محمد رسول الله، جاءنا بالبينات والهدى، فأجبنا وآمنا واتبعناه، فيقال له: نم صالحًا"
(5)
.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند سعيد بن منصور "فيقال له نم نومة عروس فيكون في أحلى نومة نامها أحد حتى يبعث"
(6)
.
(1)
إرشاد الساري (2/ 464).
(2)
سنن أبي داود، كتاب السنة، (4/ 238) (4751) تقدم تخريجه في (ص:957).
(3)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (17/ 32)(11000) من طريق داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، حديث صحيح، رجاله ثقات، وأورده الهيثمي في "المجمع" (3/ 47 - 48) (4264): وقال: رواه أحمد والبزار. . . ورجاله رجال الصحيح.
(4)
سنن أبي داود، كتاب السنة، (4/ 238)(4751)، تقدم تخريجه في (ص:957).
(5)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (1/ 28)(86)، وكتاب الوضوء، باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل (1/ 48)(184).
(6)
لم أقف عليه في مطبوعات سعيد بن منصور، أورده الحافظ ابن حجر في فتح الباري (3/ 238).
وللترمذي في حديث أبي هريرة: رضي الله عنه "ويقال له: نم فينام نومة العروس الذي لا يوقظه
(1)
إلا أحب أهله إليه، حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك"
(2)
ولابن حبان وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأحمد من حديث عائشة رضي الله عنها: "فيقال له: على اليقين كنت، وعليه مت ووعليه تبعث إن شاء الله تعالى"
(3)
.
(فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ) وفي رواية أبي داود "فيقال له هذا بيتك كان في النار"
(4)
.
(قَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ بِهِ مَقْعَدًا مِنَ الْجَنَّةِ، فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا)، ولأبي داود:"ولكن الله عز وجل عصمك ورحمك، فأبدلك به بيتًا في الجنة، فيقول دعوني حتى أذهب فأبشر أهلي، فيقال له: اسكن"
(5)
.
وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد "كان هذا منزلك لو كفرت بربك"
(6)
،
وفي رواية ابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بإسناد صحيح: "فيقال له: هل رأيت الله؟ فيقول: ما ينبغي لأحد أن يرى الله، فيفرج له فرجة قبل النار فينظر إليها يحطم بعضها بعضًا، فيقال له: انظر
(7)
إلى ما وقاك الله"
(8)
، وسيأتي في أواخر الرقاق من وجه آخر، عن أبي هريرة رضي الله عنه " لا
(1)
[يوقظها] في ب.
(2)
سنن الترمذي، أبواب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (3/ 375) (1071) تقدم تخريجه في (ص: 729).
(3)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، فصل في أحوال الميت في قبره (7/ 380)(3113) * سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر القبر والبلى (2/ 1426)(4268) * مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها (42/ 12) (25089) تقدم تخريجه في (ص:959).
(4)
سنن أبي داود، كتاب السنة، (4/ 238) (4751) تقدم تخريجه في (ص:957).
(5)
سنن أبي داود، (4/ 238)(4751).
(6)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (17/ 32) (11000) تقدم تخريجه في (ص: 960).
(7)
[انظري] في ب.
(8)
سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، (2/ 1426) (4268) تقدم تخريجه في (ص:729).
يدخل أحد الجنة إلا أُريَ مقعده من النار لو أساء"
(1)
؛ ليزداد فرحًا إلى فرح ويعرف نعمة الله عليه بتخليصه من النار وإدخاله الجنة.
(قَالَ قَتَادَةُ: وَذُكِرَ لَنَا) على صيغة البناء للمفعول (أَنَّهُ يُفْسَحُ له فِى قَبْرِهِ) كلمة "في" زائدة؛ إذ الأصل: يفسح له قبره. وفي رواية: "يفسخ في قبره" بدون كلمة: "له"
(2)
،
وزاد مسلم من طريق شيبان عن قتادة: "سبعون ذراعًا، ويملأ خضرًا إلى يوم يبعثون"
(3)
. وقال الحافظ العسقلاني: ولم أقف على هذه الزيادة موصولة من حديث قتادة
(4)
.
[266 أ/ص]
وفي حديث /أبي سعيد رضي الله عنه من وجه آخر عند أحمد: "ويفسح له في قبره"
(5)
.
وفي رواية الترمذي وابن حبان من حديث أبي هريرة: رضي الله عنه "فيفسح له في قبره سبعين ذراعًا"
(6)
، وزاد ابن حبان:"في سبعين ذراعًا"
(7)
، ولابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه:"ويرحب له في قبره سبعون ذراعًا، وينور له كالقمر ليلة البدر"
(8)
.
وفي حديث طويل للبراء رضي الله عنه: "فينادي مناد من السماء أن صدق عبدي فافرشوه من الجنة وافتحوا له بابًا في الجنة وألبسوه من الجنة. قال: فيأتيه من روحها وطيبها ويفسح له فيها مد بصره"
(9)
. زاد
(10)
(1)
صحيح البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار (8/ 117)(6569).
(2)
إرشاد الساري (2/ 464).
(3)
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (4/ 2200)(2870).
(4)
فتح الباري (3/ 238).
(5)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (17/ 32) (11000) تقدم تخريجه في (ص: 960).
(6)
سنن الترمذي، أبواب الجنائز، (3/ 375) (1071) تقدم تخريجه في (ص: 729).
(7)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، (7/ 386) (3117) تقدم تخريجه في (ص: 957).
(8)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، (7/ 392) (3122) تقدم تخريجه في (ص:731).
(9)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أول مسند الكوفيين، حديث البراء بن عازب (30/ 499) (18534). ورواه الحاكم في مستدركه في كتاب الإيمان وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه (1/ 93)(107)، وهو في الصحيحين مختصر أخرجاه عن سعد بن عبيدة عن البراء بن عازب مرفوعًا. تقدم تخريجه في (ص: 742).
(10)
[وزاد] في ب.
ابن حبان من وجه آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه: "فيزداد غبطة وسرورًا فيعاد الجلد إلى ما بدأ منه، ويجعل روحه في نسم طائر يعلق في شجر الجنة"
(1)
.
(ثُمَّ رَجَعَ) قتادة (إِلَى حَدِيثِ أَنَسٍ) رضي الله عنه (قَالَ: وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ) كذا بواو العطف في هذا الطريق، وتقدم في باب:"الميت يسمع خفق النعال "وأما الكافر أو المنافق"
(2)
بالشك.
وفي حديث أبي داود: "أن الكافر إذا وضع" كذا لابن حبان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وكذا في حديث البراء الطويل
(3)
رضي الله عنه، وفي حديث أبي سعيد رضي الله عنه عند أحمد:"وإن كان كافرًا أو منافقًا"
(4)
بالشك، وله في حديث أسماء رضي الله عنها "فإن كان فاجرًا أو كافرًا"
(5)
، وفي الصحيحين:"وأما المنافق أو المرتاب"
(6)
.
وفي حديث جابر عند عبدالرزاق وحديث أبي هريرة عند الترمذي: "وأما المنافق"
(7)
.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها عند أحمد وأبي هريرة رضي الله عنه عند ابن ماجه "وأما الرجل السوء"
(8)
، وللطبراني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه:"وإن كان من أهل الشك"
(9)
.
(1)
صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز (7/ 380) (3113) تقدم تخريجه (ص:723).
(2)
صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال (2/ 90)(1338).
(3)
سنن أبي داود، كتاب السنة، باب في المسألة في القبر وعذاب القبر (4/ 238)(4751). * صحيح ابن حبان، كتاب الجنائز، فصل في أحوال الميت في قبره (7/ 380)(3113). * مسند الإمام أحمد بن حنبل، أول مسند الكوفيين، حديث البراء بن عازب (30/ 499)(18534).
(4)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند أبي سعيد الخدري رضي الله عنه (17/ 32)(11000)، تقدم تخريجه في (ص: 960).
(5)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، حديث أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما (44/ 535) (26976) تقدم تخريجه في (ص: 955).
(6)
صحيح البخاري، كتاب العلم، باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس (1/ 28)(86). *صحيح مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الكسوف من أمر الجنة والنار (2/ 624)(905).
(7)
المصنف عبد الرزاق، كتاب الطهارة، باب الحمام للنساء (1/ 293)(1131).
(8)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، مسند الصديقة عائشة بنت الصديق رضي الله عنها (42/ 12)(25089) *سنن ابن ماجه، كتاب الزهد باب ذكر الموت والاستعداد له (2/ 1423) (4262) تقدم تخريجه في (ص:959).
(9)
المعجم الأوسط، باب العين، من اسمه: عبيد الله (5/ 44)(4629) تقدم تخريجه في (ص: 730).
فاختلفت هذه الروايات لفظًا، وهي مجتمعة على أن كلا من الكافر أو المنافق يسأل، ففيه رد على من زعم أن السؤال إنما يقع على من يدعي الإيمان، إن محقًا وإن مبطلًا ،ومستندهم في ذلك ما رواه عبد الرزاق من طريق عبيد بن عمير أحد كبار التابعين قال:"إنما يفتتن رجلان مؤمن ومنافق، وأما الكافر فلا يسأل عن محمد ولا يعرفه"
(1)
وهذا موقوف
(2)
. والأحاديث الناصة على أن الكافر يسأل مرفوعة مع كثرة /طرقها الصحيحة، فهي أولى بالقبول.
[267 أ/س]
[117 ب/س]
وجزم الترمذي الحكيم بأن الكافر يسأل
(3)
. /واختلف في الطفل غير المميز؛ فجزم القرطبي في التذكرة بأنه يسأل، وهو منقول عن الحنفية
(4)
، وجزم غير واحد من الشافعية بأنه لا يسأل، ومن ثمة قالوا: لا يستحب أن يلقن
(5)
، واختلف أيضًا في النبي هل يسأل؟
(6)
.
قال الحافظ العسقلاني: وأما الملك فلا أعرف أحدًا ذكره، والذي يظهر أنه لا يسأل؛ لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يقبر
(7)
.
وقد مال ابن عبد البر إلى أن الكافر لا يسأل، وقال: الآثار تدل على أن الفتنة لمن كان منسوبًا إلى أهل القبلة، وأما الكافر الجاحد فلا يسأل
(8)
.
وتعقبه ابن القيم في "كتاب الروح"، وقال: في الكتاب والسنة دليل على أن السؤال للكافر والمسلم قال الله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ
(1)
المصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب فتنة القبر (3/ 590)(6758).
(2)
فتح الباري (3/ 239).
(3)
نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم (3/ 226).
(4)
التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة، باب في سؤال الملكين للعبد وفي التعوذ من عذاب القبر وعذاب النار (1/ 348).
(5)
المجموع (5/ 304).
(6)
فتح الباري (3/ 239).
(7)
فتح الباري (3/ 239).
(8)
التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (22/ 252).
وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ} [إبراهيم: 27]، وذكر أحاديث تدل على ذلك، ثم قال: وأما قول أبي عمر - يعني ابن عبدالبر-: "فأما الكافر الجامد فليس ممن يسأل عن دينه" فجوابه: أنه نفى بلا دليل؛ بل في الكتاب العزيز الدلالة على أن الكافر يسأل عن دينه، قال الله تعالى:{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)} [الأعراف: 6]، وقال تعالى:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92)} [الحِجر: 92] لكن للنافي أن يقول: هذا السؤال يكون يوم القيامة
(1)
.
(فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ) محمد صلى الله عليه وسلم (فَيَقُولُ: لَا أَدْرِى). وفي رواية أبي داود: "وإن الكافر إذا وضع في قبره أتاه ملك فينتهره فيقول له: ما كنت تعبد؟ "
(2)
.
وفي حديث البراء "فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري"
(3)
وهو أتم الأحاديث سياقًا، وقد مر بتمامه في باب: الميت يسمع خفق النعال.
(كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ) المسلمون (فَيُقَالُ) له (لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ) أصله: تلوت، بالواو، والمحدثون إنما يروونه بالياء للازدواج؛ أي: لا فهمت ولا تلوت القران، أو المعنى: لا دريت ولا اتبعت من يدري، وفي رواية "ولا أتْليت" بزيادة الهمزة وإسكان المثناة الفوقية، وصوبها يونس بن
حبيب
(4)
، كأنه يدعو عليه بأنه لا يكون له من يتبعه من الأولاد
(5)
. واستبعد هذا في الدعاء الملكين. وأجيب: بأن هذا أصل الدعاء ثم استعمل في معنى: لا يتبعك عون من الله ولا نصرة.
(1)
الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة (ص: 86).
(2)
سنن أبي داود، كتاب السنة، (4/ 238) (4751) تقدم تخريجه في (ص:957).
(3)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (30/ 499) (18534) تقدم تخريجه في (ص: 742).
(4)
هو: يونس بن حبيب الضبي بالولاء، أبو عبد الرحمن، ويعرف بالنحوي: علامة بالأدب، كان إمام نحاة البصرة في عصره، (ت: 182 هـ)، وفيات الأعيان (7/ 244)(852).
(5)
إصلاح المنطق لابن السكيت (1/ 228).
[267 أ/ص]
ووقع عند أحمد من حديث أبي سعيد رضي الله عنه "لا دريت ولا اهتديت"
(1)
، / وفي مرسل عبيد بن عمير عند عبدالرزاق "لا دريت ولا أفلحت"
(2)
وقد مر الكلام في هذا مستقصى.
(وَيُضْرَبُ بِمَطَارِقَ حَدِيدٍ) بإضافة المطارق إلى الحديد كإضافة "خاتم فضة". ويروي: "بمطارق من حديد". وقد تقدم في باب: "الميت يسمع خفق نعالهم" بلفظ: بمطرقة، على الإفراد، وكذا هو معظم الأحاديث.
وقال الكرماني: الجمع مؤذن بأن كل جزء من أجزاء تلك المطرقة مطرقة برأسها مبالغة. انتهى
(3)
.
وقد يقال: الجمع باعتبار مرات الضرب تجوزًا عن الضرب بآلته، كما تقول: ضربته خمسين سوطًا، والسوط واحد.
وفي حديث البراء: "لو ضرب بها جبل لصار ترابًا"
(4)
هذا لكن الأعضاء الأخروية تطيق بما لا تطيق به الأعضاء الدنيوية، نعوذ بالله من عذاب الله جميع أنواعه.
وفي حديث أسماء: "وتسلط عليه دابة في قبره معها سوط، ثمرته جمرة مثل عرق البعير، تضربه ما شاء الله صماء لا تسمع صوته فترحمه"
(5)
، وزاد في حديث أبي سعيد رضي الله عنه، وكذا في حديث أبي هريرة وعائشة رضي الله عنهما " ثم [تفتح]
(6)
له باب إلى الجنة فيقال له: هذا منزلك لو آمنت بربك،
(1)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (17/ 32) (11000) تقدم تخريجه في (ص: 960).
(2)
المصنف عبد الرزاق، كتاب الجنائز، باب فتنة القبر (3/ 590)(6758).
(3)
الكواكب الدراري (7/ 148).
(4)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (30/ 576) (18614) تقدم تخريجه في (ص:742).
(5)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (44/ 535) (26976) تقدم تخريجه في (ص:955).
(6)
[يفتح] في مسند أحمد.
فأما إذا كفرت فإن الله أبدلك هذا، ويفتح له باب إلى النار"
(1)
، وزاد في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "فيزداد حسرة وثبورًا ويضيق عليه قبره حتى [يختلف]
(2)
أضلاعه"
(3)
وفي حديث البراء: "فينادي مناد من السماء أفرشوه من النار وألبسوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار، فيأتيه من حرها، وسمومها"
(4)
.
(ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ) قال المهلب: المراد الملائكة الذين يلون فتنته، هذا، ولا وجه لتخصيصه بالملائكة فقد ثبت أن البهائم تسمعها
(5)
، وفي حديث البراء:"يسمعها من بين المشرق والمغرب"
(6)
، وفي حديث أبي سعيد عند أحمد "يسمعه خلق الله كلهم"
(7)
.
(غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ) الجن والإنس، قيل لهم ذلك لأنهم كالثقل على وجه الأرض. و"غير" نصب على الاستثناء، ويدخل في هذا وفي حديث البراء الحيوان والجماد لكن يمكن أن يخص منه الجماد لما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند البزار:"يسمعه كل دابة إلا الثقلين"
(8)
.
(1)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (17/ 32) (11000) تقدم تخريجه في (ص: 960).
(2)
تختلف.
(3)
المستدرك على الصحيحين، كتاب الجنائز (1/ 535) (1403) تقدم تخريجه في (ص:730).
(4)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، أول مسند الكوفيين، حديث البراء بن عازب (30/ 576)(18537)، من طريق الأعمش، عن منهال بن عمرو، عن زاذان، عن البراء بن عازب، إسناده صحيح، وأورده المنذري في "الترغيب والترهيب" (4/ 195) (5396) وقال: حديث حسن، رواته محتج بهم في الصحيح.
(5)
فتح الباري (17/ 90).
(6)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (30/ 576)(18537)، تقدم تخريجه في (ص:967).
(7)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (17/ 32) (11000) تقدم تخريجه في (ص: 960).
(8)
مسند البزار، مسند أبي حمزة أنس بن مالك (17/ 154)(9759)، من طريق الوليد بن القسام، عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة وقال: وهذا الحديث لا نعلم رواه عن يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، رجاله ثقات، إلا الوليد بن القاسم، وهو صدوق يخطئ، كما في " التقريب " (ص: 583) (7437)، ومن فوقه من رجال الشيخين.
والحكمة في عدم سماع الثقلين أنهم إذا سمعوا ذلك لما تدافنوا، ثم الحكمة في أن الله تعالى يُسمع الجن قول الميت: قدموني، ولا يُسمعهم صوته إذا عذِّب، أنّ كلامه قبل الدفن متعلق بأحكام الدنيا، وصوته إذا عذب متعلق بأحكام الآخرة، وقد أخفى الله عن المكلفين /أحوال الآخرة إلا من شاء الله تعالى
(1)
.
[268 أ/س]
وفي أحاديث الباب من الفوائد: إثبات عذاب القبر، وأنه واقع على الكفار ومن شاء الله تعالى من الموحدين، وقد صح أن المرابط في سبيل الله لا يفتن، كما في حديث مسلم وغيره
(2)
، كشهيد المعركة، والصابر في الطاعون الذي لم يخرج من البلد الذي يقع به قاصدًا بإقامته ثواب الله، راجيًا صدق موعوده، عارفًا أنه إن وقع له فهو بتقدير الله تعالى، وإن صرف عنه فبتقديره تعالى أيضًا، غير متضجر به لو وقع، معتمدًا على ربه في الحالتين؛ لحديث البخاري والنسائي، عن عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: "فليس من رجل يقع الطاعون، فيمكث في بلده صابرًا محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب
(3)
له، إلا كان له مثل أجر الشهيد"
(4)
.
/ وجه الدلالة أن الصابر في الطاعون، المتصف بالصفات المذكورة، نظير المرابط في سبيل الله. وقد صح أن المرابط لا يفتن، ومن مات في الطاعون فهو أولى.
[117 ب/ص]
فإن قيل: هل المساءلة تختص بهذه الأمة؟ أو عامة على جميع الأمم؟.
فالجواب: أن ظاهر الحديث الأول، وبه جزم الحكيم الترمذي، وقال: كانت الأمم قبل هذه الأمة يأتيهم الرسل فإن أطاعوا فذاك وإن أبوا اعتزلوهم وعوجلوا بالعذاب، فلما أرسل الله نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أمسك عنهم العذاب، وقَبِلَ الإسلام ممن أظهره سواء أسر الكفر أو لا،
(1)
فتح الباري (3/ 240).
(2)
صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب فضل الرباط في سبيل الله عز وجل (3/ 1520) (1913) بلفظ:«رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله، وأجري عليه رزقه، وأمن الفتان» .
(3)
[الله] سقط من أصل البخاري
(4)
صحيح البخاري، كتاب الطب، باب أجر الصابر في الطاعون (7/ 131)(5734) * السنن الكبرى، كتاب الطب ثواب الصابر في الطاعون (7/ 68)(7485).
فلما ماتوا قيض الله لهم فتاني القبر ليستخرج سرهم بالسؤال، وليميز الله الخبيث من الطيب، ويثبت الله الذين آمنوا ويضل الظالمين. انتهى
(1)
.
ويؤيده حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه مرفوعًا: "إن هذه الأمة تبتلى في قبورها"
(2)
الحديث أخرجه مسلم. ويؤيده أيضًا قول الملكين: "ما تقول في هذا الرجل محمد؟ "، وحديث عائشة رضي الله عنها أيضًا عند أحمد بلفظ:"وأما فتنة القبر تفتنون وعنى تسألون"
(3)
.
وذهب ابن القيم إلى عموم المساءلة، وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي المساءلة عمن تقدم من الأمم وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بكيفية امتحانهم في القبور لا أنه نفى ذلك عن غيرهم، قال: والذي يظهر أن كل نبي مع أمته كذلك فيعذب كفارهم في قبورهم بعد سؤالهم وإقامة الحجة عليهم كما يعذبون في الآخرة
(4)
.
وحكى في مساءلة الأطفال احتمالًا، وقد ذكر أصحابنا أنهم يسألون وقطعوا بذلك كما تقدم.
[268 أ/ص]
وفي الحديث أيضًا ذم التقليد في الاعتقاد؛ لمعاقبة من قال: "كنت /أسمع الناس يقولون شيئًا فقلته".
وفيه: أن الميت يحيا في قبره للمساءلة خلافًا لمن رده، وقد مر الكلام فيه مستقصى.
وفي حديث عائشة رضي الله عنها جواز التحديث عن أهل الكتاب إذا وافق الحق.
(1)
نوادر الأصول في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، في الحكمة في فتاني القبر (4/ 160).
(2)
صحيح مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه (4/ 2199)(2867).
(3)
مسند الإمام أحمد بن حنبل، (42/ 12) (25089) تقدم تخريجه في (ص:959)
(4)
الروح في الكلام على أرواح الأموات والأحياء بالدلائل من الكتاب والسنة (ص: 87).
(تذييل) قال عبيد بن عمير، فيما ذكره الحافظ [زيد]
(1)
بن رجب في كتاب أهوال القبور: المؤمن يفتن سبعًا والمنافق أربعين صباحًا
(2)
. ومن ثمة كانوا يستحبون أن يطعم عن المؤمن سبعة أيام من يوم دفنه
(3)
. وهذا مما انفرد به، لا أعلم أحدًا غيره قاله
(4)
. نعم، تبعه في ذلك، وفي قوله السابق، بعص العصريين، فلم يصب، والله الموفق. ذكره الإمام القسطلاني
(5)
.
(1)
وصحيح هو: زين الدين.
(2)
أهوال القبور، زين الدين عبد الرحمن بن أحمد بن رجب بن الحسن، السَلامي، البغدادي، ثم الدمشقي، الحنبلي (المتوفى: 795 هـ)، المحقق: عاطف صابر شاهين، دار الغد الجديد، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1426 هـ/2005 م (ص: 16).
(3)
قال السيوطي: وذكر بن رجب في القبور عن مجاهد أن الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم الدفن لا تفارقه. ولم أقف على سنده. الديباج على صحيح مسلم بن الحجاج عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي (المتوفى: 911 هـ) تحقيق: أبو إسحق الحويني الأثري، دار ابن عفان للنشر والتوزيع - المملكة العربية السعودية - الخبر، الطبعة: الأولى 1416 هـ - 1996 م،: وذكر بن رجب في القبور عن مجاهد أن الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم الدفن لا تفارقه. ولم أقف على سنده. (2/ 491)
(4)
[قال] في ب.
(5)
إرشاد الساري (2/ 465).