الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما نذر المشي إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو إلى المسجد الأقصى، فلا ينعقد على أصح القولين في مذهب الشَّافعيّ.
ولو نذر المشي إلى ما سواهما من المساجد، لم يلزمه، بلا خلاف.
وأما المشي حافيا، فلا يصح نذره، ولا يلزم، اتفاقًا؛ حيث لم يقع التعبد به، والله أعلم.
ومنها: جواز النيابة والاستنابة في الاستفتاء، خصوصًا إذا كان المستنيب معذورًا؛ لعدم بروزه للنَّاس، أو مخالطته لهم، ونحو ذلك.
ومنها: أن من نذر الحج ماشيًا، فلم يطقه في بعض الأحوال: أنَّه يركب، وعليه دم؛ للحديث الذي ذكرناه عن أبي داود.
وأما البدنة؛ فإنَّها تطلق في اللغة على البعير والبقرة والواحد من الغنم، ولهذا؛ لو نذر أن يهدي شيئًا، لزمه ما يجزئ في الأضحية.
أما إذا نذر المشي إلى بيت الله، ولم يقل: الحرام، فإنَّه لا يلزمه المشي على المذهب، وقيل: يلزمه، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: أنَّهُ قَالَ: استَفتَى سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم في نَذْرٍ كَانَ عَلَى أمِّهِ، تُوُفِّيَت قَبْلَ أَنْ تَقْضِيهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"فَاقضِهِ عَنْهَا"(1).
أما أم سعد بن عبادة؛ فاسمها: عمرة بنت مسعود بن قيس بن عمرو بن زيد مناة بن عدي بن عمرو بن مالك بن النجار، وكانت من المبايعات، توفيت
(1) رواه البُخَارِيّ (6558)، كتاب: الحيل، باب: في الزكاة، وأن لا يفرق بين مجتمع، ولا يجمع بين متفرق خشية الصدقة، ومسلم (1638)، كتاب: النذر، باب: الأمر بقضاء النذر.
- رضي الله عنها في سنة خمس من الهجرة (1).
وأما ابنها سعد بن عبادة؛ فكنيته: أبو ثابت، وقيل: أبو قيس، ويقال: أبو الحباب: أنصاريٌّ خزرجيٌّ ساعديٌّ، وهو سيد بني الخزرج، ويقال له: سعد الخزرج، ابن عُبادة -بضم العين وتخفيف الباء- ابنِ دُليم -بضم الدال المهملة وفتح اللام ثم ياء مثناة تحت ساكنة ثم ميم- بنِ حارثة- بالحاء المهملة والثاء المثلثة- بن أبي حَزِيمة -بفتح الحاء المهملة وكسر الزاي-، ويقال: أبي حليمة -باللام بدل الزاي- بنِ ثعلبةَ بنِ طريف بنِ الخزرج بن ساعدة بن كعبِ بنِ الخزرج أكبر.
كان رضي الله عنه عفيفًا تقيًّا سيدًا جوادًا، وكان في الْأَنصار مقدمًا وجيهًا ذا سيادة ورئاسة، يعترف قومه له بها، ولم يكن في الخزرج والأوس أربعة مطعمون متوالدون يتوارثون في بيت واحد إلَّا قيس بن سعد بن عبادة بن دليم.
شهد سعدٌ العقبةَ وبدرًا في قول الأكثرين، وقيل: لم يشهدها، وشهد المشاهد كلها، وكان صاحب راية الْأَنصار في مشاهده كلها، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يزوره، ويدعو له، ويأكل طعامه.
روى عنه من الصَّحَابَة رضي الله عنهم: ابنه قيس، وعبد الله بن عباس، وابنه سعيد -على قول من جعله صحابيًّا، وهو المشهور-، وأبو أُمامة أسعد بن سهل بن حنيف، ومن التابعين: سعيد بن المسيّب، والحسن البَصْرِيّ، وروايتهما عنه منقطعة؛ لتقدم وفاته، وتأخر مولدهما.
وروى له: الإِمام أَحْمد في "مسنده"، وأبو داود، والتِّرمذيّ، والنَّسائيّ، وابن ماجه.
وأجمعوا على أنَّه مات بالشَّام بحوران، واختلفوا في تاريخ وفاته:
فالمشهور: أنَّه مات سنة أربع عشرة، وقيل: خمس عشرة، وقيل: إحدى
(1) وانظر ترجمتها في: "الاستيعاب" لابن عبد البر (4/ 1887)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (7/ 200)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (8/ 33).
عشرة من الهجرة، في خلافة الصديق رضي الله عنه، وأجمع أهل دمشق الآن على أن قبره بغوطة دمشق بقرية يقال لها: المنيحة، وزرته مرارًا لقصد زيارة الموتى من الصَّحَابَة رضي الله عنهم اقتداءً بزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه المدفونين ببقيع الغرقد وأحد، ولم يعرف أحد بحوران قبرًا لسعد بن عبادة، فيحتمل أنَّه مات بحوران، ودفن في المنيحة المذكورة، ويحتمل أن المنيحة كانت قديمًا داخلة في حدود حوران، ثم هجرت تلك الحدود، وصارت اليوم هذه الناحية مسماة بالغوطة؛ كالجولان والسواد من أرض حوران (1).
وذكر لي شيخنا العارف القدوة: أبو إسحاق إبراهيمُ بن الشيخ العارف أبي إبراهيم بن عبد الله المعروف والده بابن الأرمني -رحمهما الله تعالى-: أنَّه زار سعدًا مرارًا، وأنه اختلج في نفسه بعض المرات: هل هذا قبر سعد أم لا؟ فأخذته سِنَة، فإذا القبر قد انشقَّ من أعلاه، وإذا برجل طُوالٍ بدويٍّ ملثَّمٍ على كتفه رمحٌ، قد طلع من أعلاه وهو يقول: أنا سعد، قال: فأفقت، وعلمت أنَّه قبره، فقرأت شيئًا من القرآن العظيم، ودعوت وانصرفت، والله أعلم.
قوله: "في نذرٍ كانَ على أُمه"؛ هو نكرة في الإثبات، وهو لا يعم، ولم يبين في هذه الرواية ما كان النذر؟ ولا شك أن العبادات مالية وبدنية؛ فالمالية؛ كالزكاة والكفارة والنذر، والبدنية؛ كالصلاة والصوم، ومشترك بين البدنية والمالية؛ كالحج والجهاد، فاعلم أن المالية يجب قضاؤها من مال الميت، وتدخلها النيابة إجماعًا، وأما البدنية، ففيها خلاف، وهو مشكل دخول النيابة فيها.
(1) وانظر ترجمته في: "الطبقات الكبرى" لابن سعد (7/ 389)، و"التاريخ الكبير" للبخاري (4/ 44)، و"الآحاد والمثاني" لابن أبي عاصم (3/ 451)، و"الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (4/ 88)، و"الثِّقات" لابن حبان (3/ 148)، و"المستدرك" للحاكم (3/ 281)، و"الاستيعاب" لابن عبد البر (2/ 594)، و"تاريخ دمشق" لابن عساكر (20/ 237)، و"صفة الصفوة" لابن الجوزي (1/ 503)، و"أسد الغابة" لابن الأثير (2/ 441)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 207)، و"تهذيب الكمال" للمزي (10/ 277)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (1/ 270)، و"الإصابة في تمييز الصَّحَابَة" لابن حجر (3/ 65)، و"تهذيب التهذيب" له أَيضًا (3/ 412).
قال القاضي عياض رحمه الله: واختلفوا في نذر أم سعد هذا، فقيل: كان نذرًا مطلقًا، وقيل: كان صومًا، وقيل: كان عتقًا، وقيل: صدقة، واستدل كل قائل بأحاديث جاءت في قصة أم سعد، قال: والأظهر أنَّه كان نذرًا في المال، أو نذرًا مبهمًا، ويعضده ما رواه الدارقطني من حديث مالك، فقال له: -يعني النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: "اسق عنها الماء"(1).
وحديث الصوم معلل بالاختلاف في سنده ومتنه وكثرة اضطرابه، وذلك موجب ضعفه، وحديث من روى:"فاعتق عنها"(2) موافق -أَيضًا -؛ لأن العتق من الأموال ليس فيه قطع بأنه كان عليها عتق، والله أعلم.
ووقع الإجماع على صحة النذر ووجوب الوفاء به إذا كان الملتزم طاعة، فإن نذر معصية، أو مباحًا؛ كدخول السوق، لم ينعقد نذره، ولا كفارة عليه، وعند الشَّافعيّ وجمهور العلماء كما تقدم. وقال أَحْمد وطائفة: فيه كفارة يمين.
وفي هذا الحديث دليل لقضاء الحقوق الواجبة عن الميت، فإن كانت مالية، وجبت بلا خلاف عند الشافعية وطائفة. وتقدم ذلك، سواء أوصى بها أم لا؛ كديون الآدمي، وقال مالك وأبو حنيفة وأصحابه: لا يجب قضاء شيء من ذلك، إلَّا أن يوصي به، ولأصحاب مالك خلاف في الزكاة إذا لم يوص بها، والله أعلم.
واستدل أهل الظاهر بحديث سعد هذا: على أن الوارث يلزمه قضاء النذر والواجب على الميت إذا كان غير مالي، وإذا كان ماليًّا، ولم يخلف تركة.
ومذهب الشَّافعيّ وجمهور العلماء: أنَّه لا يلزمه ذلك، لكن يستحب، وأن الوارث لا يلزمه ذلك إلَّا بالتزامه، وحديث سعد محتمل لقضائه به متبرعًا، أو من
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (11/ 97). والحديث: رواه الإِمام أَحْمد في "المسند"(5/ 284)، وابن أبي شيبة في "المصنف"(24230)، وسعيد بن منصور في "سننه"(1/ 148)، والطبراني في "المعجم الكبير"(5383)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(3379).
(2)
رواه الإمام مالك في "الموطأ"(2/ 779)، ومن طريقه البيهقي في "السنن الكبرى"(6/ 279)، مرسلًا.