الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الجهاد
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبي أَوْفَى رضي الله عنه: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ أيَّامِهِ الَّتِي لَقِيَ فِيهَا العَدُوَّ، انْتَظَرَ، حَتَّى إِذا مَالَتِ الشَّمْسُ، قَامَ فِيهِمْ فَقَالَ:"أَيُّهَا النَّاسُ! لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ العَدُوِّ، وَاسْأَلوا اللهَ العَافِيةَ، فَإذَا لَقِيتُمُوهُمْ، فَاصْبِرُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ الجِنة تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ"، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"اللَّهُمَّ مُنْزِلُ الكِتَابِ، ومُجْرِيَ السَّحَابِ، وَهَازِمَ الأَحْزَابِ! اهْزِمْهُمْ، وَانْصُرْنَا عَلَيْهِمْ"(1).
أما عبد الله بن أبي أوفى؛ فتقدم الكلام عليه قريبًا.
وأما انتظاره صلى الله عليه وسلم حتى مالت الشمس، وأنه قام فيهم، فقال: "يا أيها الناس
…
" وفي رواية في غير هذا الحديث: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا لم يقاتل أول النهار، انتظر حتى تزول الشمس (2).
فقال العلماء: سببه أنه أمكنُ للقتال؛ فإنه وقتُ هبوب الرياح ونشاط النفوس، وكلما طالَ ازدادوا نشاطًا وإقدامًا على عدوهم. وفي "صحيح
(1) رواه البخاري (2861)، كتاب: الجهاد والسير، باب: لا تمنوا لقاء العدو، ومسلم (1742)، كتاب: الجهاد والسير، باب: كراهة تمني لقاء العدو، والأمر بالصبر عند اللقاء.
(2)
رواه أبو داود (2655)، كتاب: الجهاد، باب: في أي وقت يستحب اللقاء، والترمذي (1613)، كتاب: السير، باب: ما جاء في الساعة التي يستحب فيها القتال، وقال: حسن صحيح، والإمام أحمد في "المسند"(5/ 444)، وغيرهم، عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
البخاري": آخر: حتى تهبَّ الأرواحُ وتحضرَ الصلوات (1)، وذلك لفضيلة أوقات الصلاة والدعاء عندها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية"؛ إنما نهى عن ذلك؛ خشيةَ ألا تكون الأمور المقدرة في النفس، كالأمور المحققة عند التحقيق، فكره تمني لقاء العدو لذلك، ونهى عنه خوفًا من إعجاب النفس والاتكال عليها والوثوق بالقوة، وهو نوع بغي؛ وقد ضمن الله تعالى لمن بُغي عليه أن ينصره، ولأنه يتضمن قلة الاهتمام بالعدو واحتقاره، وهذا كله يخالف الاحتياط والحزم.
وقد ثبت في الصحيح النهيُ عن تمني الموت؛ فإن قوله المطلع شديد، وفي الجهاد زيادة على مطلق الموت، وتأول بعضهم النهي عن التمني على صورة خاصة، وهي: إذا شك في المصلحة فيه، وحصول ضرر، وإلا فالقتال كله فضيلة وطاعة.
والصحيح: الأول؛ ولهذا نبه صلى الله عليه وسلم عقب نهيه عن التمني بسؤال العافية؛ فينها لا يعدلها شيء، والسلامة الدنيوية والأخروية مطلوبة للشرع، ولهذا حذر من الفتن والاختلاف ومواضعها ومواقعها؛ طلبًا للسلامة.
فالتمني منهي عنه؛ لما يخشى فيه من عدم الثبات والافتتان. وطلبُ النصر والشهادة مأمور بهما؛ لما فيهما من إعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله تعالى، والجزاء عليهما. وسؤالُ العافية مطلوب من الألفاظ العامة المتناولة لدفع جميع المكروهات في الظاهر والباطن، في البدن والدين، والدنيا والآخرة.
وقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم العافية في ذلك جميعه، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا لقيتموهم فاصبروا"؛ لما كان ملاقاة العدو محلًا للتزلزل، وعدم الثبات على المطلوب، أمر الشرع فيه بالصبر؛ وهو كظم ما يؤلم. والصبر
(1) رواه البخاري (2989)، كتاب: الجزية والموادعة، باب: الجزية والموادعة مع أهل الذمة والحرب، عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه.
المأمور به أن يكون جميلًا، فلا يكون فيه شكوى ولا جزع. وهذا أحد أركان القتال.
وقد جمع الله تعالى آداب القتال في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 45 - 47].
وقوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أنَّ الجنةَ تحتَ ظلالِ السيوف"؛ معناه: أن السبب الموصل إلى الجنة ورفع درجاتها: هو الضربُ بالسيوف في سبيل الله، مع المشي إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، فينبغي لكم أن تحضروا فيه بصدق، وتثبتوا.
وهذا اللفظ الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو من باب البلاغة وحسن المجاز، فيكون من باب التشبيه مع حذف المضاف؛ فإن الظل لما كان ملازمًا للشيء القائم، جعل ثواب الجنة واستحقاقها عن الجهاد وإعمال السيوف لازمًا لذلك؛ كما يلزم الظل.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "اللهمَّ منزلَ الكتاب، ومجريَ السحاب، وهازمَ الأحزاب! اهزمْهم وانصرْنا عليهم!؛ هذا الدعاء إشارة إلى ثلاثة أسباب تطلب بها الإجابة؛ وهي: الإنزال، والقدرة بالإجراء، والهزم، وفي كل شيء سبب معنى يصلح السؤال به، فكأنه طلب النصر للكتاب المنزل بقوله: "منزل الكتاب"، فكما أنزلته، فانصره وأَعْلِه، وطلبَ بالقدرة على إجراء السحاب وهزم الأحزاب هزمَ الأعداء والنصرَ عليهم، وذلك إشارة إلى تفرده سبحانه وتعالى بالفعل، وتجريد التوكل واطراح الأسباب، واعتقاد أن الله عز وجل هو الفاعل، وهذه الأسباب توسل بالنعمة السابقة إلى نعمه اللاحقة، وقد ضمن الله ذلك في كتابه العزيز حكاية عن يحيى صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى:{وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4]، وعن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله تعالى:{سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)} [مريم: 47].