الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب حد السرقة
الحديث الأول
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَن النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَطَعَ في مِجَنٍّ قِيمَتُهُ -وفي لَفظٍ: ثمنُهُ- ثَلاثَةُ دراهِمَ (1).
اعلم أن الله عز وجل صان الأموال بإيجاب قطع السارق؛ حرمةً لها، ولم يجعل ذلك في غير السرقة؛ كالاختلاس والانتهاب والغصب؛ لأن ذلك قليل بالنسبة إلى السرقة؛ ولأنه يمكن استرجاع ذلك بالاستعداء إلى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البينة عليه، بخلاف السرقة؛ فإنه يندر إقامة البينة عليها، فعظم أمرها، واشتدت عقوبتها؛ لتكون أبلغ في الزجر عنها.
وقد أجمع المسلمون على قطع السارق في الجملة، وإن اختلفوا في فروع منه.
أما المجن -بكسر الميم وفتح الجيم وبالنون-، فهو: الترس، مِفْعَل من الاجتنان، وهو الاستتار والاختفاء ونحو ذلك. ومنه: الجن. وكسرت ميم المجن؛ لأنه آلة من الاجتنان، كأن صاحبه يستتر به عما يحاذره (2).
(1) رواه البخاري (6411)، كتاب: الحدود، باب: كراهية الشفاعة في الحد إذا رفع إلى السلطان، ومسلم (1686)، كتاب: الحدود، باب: حد السرقة ونصابها.
(2)
انظر: "النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 308)، و"شرح مسلم" للنووي (11/ 183)، و"لسان العرب" لابن منظور (13/ 400).
قال الشاعر (1):
فكانَ مِجَنِّي دونَ مَن كنتُ أَتَّقي
…
ثلاثُ شُخوصٍ كاعبان ومُعْصِرُ
وأما القيمة والثمن؛ فلأنهما مختلفان في الحقيقة، لكن المعتبر: القيمة، وذكر الثمن في بعض روايات الحديث، إما لتساويهما عند الناس في ذلك الوقت، أو في ظن الراوي، أو باعتبار الغلبة، وإلا فلو اختلفت القيمة والثمن الذي اشتراه به مالكه، لم تعتبر إلا القيمة، وتقدم الإجماع على قطع السارق، واختلف العلماء في اشتراط النصاب وقدره، فالجمهور على اشتراط النصاب في القطع.
وقال أهل الظاهر، وابن بنت الشافعي من الشافعية، وحكي عن الحسن البصري والخوارج: لا يشترط النصاب، بل يقطع في القليل والكثير.
والاستدلال لاشتراطه بهذا الحديث فيه ضعف؛ فإنه حكاية فعل لا يلزم به وجوب القطع في هذا المقدار، فضلًا عما دونه نطقًا.
وأما قدر النصاب: فقال الشافعي: النصاب ربع دينار، أو ما قيمته ربع دينار، سواء كانت قيمته ثلاثة دراهم، أو أقل أو أكثر، ولا تقطع في أقل منه.
وهو قول كثير من العلماء والصحابة والتابعين وغيرهم، منهم: عائشة، وعمر بن عبد العزيز، والأوزاعي، والليث، وأبو ثور، وإسحاق، وروي عن داود. ودليلهم حديث عائشة رضي الله عنها الآتي، ويقوَّم ما عدا الذهب بالذهب.
وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، وإسحاق في رواية عنه: يقطع في ربع دينار من الذهب، أو ثلاثة دراهم، أو ما قيمته أحدهما، ولا قطع فيما دون ذلك.
وجعل هؤلاء كل واحد قدر من الذهب والفضة المذكورين أصلًا لوجوب
(1) هو عمر بن أبي ربيعة، كما في "خزانة الأدب" للبغدادي (7/ 394).
القطع، زاد أبو حنيفة وقال: يقوم ما عداهما بالدراهم، وكلا حديثي الكتاب وعائشة يدلان على خلاف ذلك.
أما حديث الكتاب، فقال الشافعي رحمه الله: بين أنه لا يخالف حديث عائشة؛ فإن الدينار كان اثني عشر درهمًا، وربعه ثلاثة دراهم مصروفاتها، وبها قومت الدية اثني عشر ألفًا من الوَرِق بألف دينار من الذهب.
وبهذا الحديث استدل المالكية على أن الفضة أصل في التقويم دون الذهب، قالوا: فإن المسروق لما كان غير الذهب والفضة، وقوم بالفضة دون الذهب، قالوا: دل على أنها أصل في التقويم، وإلا كان الرجوع إلى الذهب الذي هو أصل التقويم أولى وأوجب عند من يرى التقويم به.
والحنفية ومن قال بقولهم، قالوا في هذا الحديث وحديث عائشة: إن القطع في ربع دينار فعلًا، تأولوه على أن التقويم أمر ظني تخميني، فيجوز أن تكون قيمته عند عائشة رضي الله عنها ربع دينار، أو ثلاثة دراهم، ويكون عند غيرها أكثر.
وضعف هذا التأويل غيرهم؛ بأن عائشة رضي الله عنها لم تكن لتخبر بما يدل على مقدار ما يقطع فيه إلا عن تحقيق؛ لعظم أمر القطع.
وقال سليمان بن يسار، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى، والحسن في رواية عنه: لا يقطع إلا في خمسة دراهم. وهو مروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا قطع إلا في عشرة دراهم، أو ما قيمته ذلك، وحكى القاضي عياض عن بعض الصحابة: أن النصاب أربعة دراهم، وعن النخعي: أربعون درهمًا، أو أربعة دنانير.
وحديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تُقطع يدُ السارق إلا في ربع دينار فصاعدًا"(1).
(1) سيأتي تخريجه قريبًا.