الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: عقوبة المحاربين، وهو موافق للآية الكريمة.
واختلف العلماء في المراد من الآية الكريمة في القتل والصلب وقطع الأيدي والأرجل من خلاف: هل هو للتخيير أو للتقسيم؟ وهو راجع إلى الاختلاف في "أو"، فقال مالك: هي على التخيير، فيتخير الإِمام بين الأمور الثلاثة المذكورة، إلا أن يكون المحارب قد قَتل، فيتحتم قتله، وقال أبو حنيفة، وأبو مصعب المالكي: الإمام بالخيار، وإن قَتلوا، وقال بعض الحنفية: هذا النقل عن بعض الحنفية غلط؛ لأن مذهبه فيمن أخذ المال، وقتل: أن الإِمام بالخيار، إن شاء قطعه وقتله أو صلبه، وإن شاء قتله ابتداء أو صلبه.
وقال الشافعي وآخرون: هي على التقسيم، فإن قتلوا، ولم يأخذوا المال، قُتلوا، وإن قتلوا وأخذوا، قُتلوا وصُلبوا، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا، قُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، وإن أخافوا السبيل، ولم يأخذوا شيئًا، ولم يقتلوا، طلبوا حتى يُعَزَّروا، وهو المراد بالنفي عند الشافعية.
وقالوا: لأن ضرر هذه الأفعال مختلف، فكانت عقوباتها مختلفة، فلم تكن للتخيير، والله أعلم.
* * *
الحديث الثاني
عَنْ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن عُتبَةَ بْنِ مَسْعُودِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ، وَزَيْدِ بْنِ خَالِدِ الجُهَنِيِّ رضي الله عنهما: أنهُمَا قَالَا: إن رَجُلًا مِنَ الأعْرَابِ أتى رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنْشُدُكَ اللهَ، إلا قَضَيْتَ بينَنَا بِكِتَابِ اللهِ، وَائذنْ لِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "قُلْ"، قَالَ: إن ابْنِي كَانَ عَسِيفًا عَلَى هَذَا، فَزَنَى بِامْرَأَتِهِ، وإنِّي أخْبِرتُ أَن عَلَى ابْنِي الرَّجْمَ، فَافْتدَيْتُ مِنْهُ بِمِئَةِ شَاةٍ وَوَلِيدَةِ، فَسَأَلْتُ
= حبان في "صحيحه"(4581)، والطبراني في "المعجم الأوسط"(2988)، وفي "الدعاء"(2123)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
أَهْلَ العِلْمِ فَأَخْبَرونِي: أَنَّمَا عَلَى ابْنِي جَلْدُ مِئة وَتَغرِيْبُ عَامٍ، وأَنَّ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا الرَّجْمَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ: الوَليدَةُ وَالغَنَمُ رَدٌّ، وَعَلَى ابْنِكَ جَلْدُ مِئه وَتَغرِيبُ عَامٍ، وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ -لِرَجُلٍ مِنْ أَسْلَم- إلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَت، فَارْجُمْهَا"، فَغَدَا عَلَيْهَا، فَاعْتَرَفَت، فَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَرُجِمَت (1).
العسيف: الأجير.
أما عُبيد الله بنُ عبد الله بنِ عتبةَ بنِ مسعود؛ فكنيته: أبو عبد الله، الفقيه الأعمى، هذليٌّ مدنيٌّ تابعيٌّ، أحد فقهاء المدينة السبعة، سمع عبدَ الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وأبا سعيد الخدري، وأبا واقد الليثي، وزيدَ بن خالد الجهني، والنعمان بن بشير، وعائشةَ أم المؤمنين، وفاطمةَ بنت قيس، وأم قيس بنتَ محصنٍ، وروى عن أبي طلح، وسهيل بن حنيف.
وروى عنه جماعة من التابعين، اتفقوا على توثيقه وإمامته وجلالته وأمانته وكثرة علمه وفقهه وحديثه وصلاحه، وكان معلمَ عمرَ بنِ عبد العزيز.
قال الزهري: ما جالست أحدًا من العلماء، إلا وأرى أني قد أتيت على ما عنده، ما خلا عبيدَ الله بنَ عبد الله بنِ عتبة، فإني لم آته إلا وجدت عنده علمًا طريفًا.
وروى له: البخاري، ومسلم، وأصحاب السنن والمساند.
مات سنة تسعٍ، وقيل: سنة ثمان، وقيل: خمس أو أربع وتسعين، والله أعلم (2).
(1) رواه البخاري (2575)، كتاب: الشروط، باب: الشروط التي لا تحل في الحدود، ومسلم (1697)، كتاب: الحدود، باب: من اعترف على نفسه بالزنى.
(2)
وانظر ترجمته في "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 250)، و "التاريخ الكبير" للبخاري (5/ 385)، و "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (5/ 319)، و"الثقات" لابن حبان (5/ 63)، و"حلية الأولياء" لأبي نعيم (2/ 188)، و"تهذيب الأسماء واللغات" للنووي (1/ 290)، و"تهذيب الكمال" للمزي (19/ 73)، و"سير أعلام النبلاء" للذهبي (4/ 475)، و"تذكرة=
وأما أبو هريرة، وزيد بن خالد الجهني؛ فتقدم ذكرهما.
وأنيس هذا صحابي مشهور، وهو أنيس بن الضحاك الأسلمي، معدود في الشاميين، وقال ابن عبد البر: أنيس بن مرثد، والأول: هو الصحيح المشهور (1)، والمرأة شامية -أيضًا-، والله أعلم.
وأما الرجلُ الأعرابيُّ وابنه، والمرأة المزنيُّ بها وزوجُها؛ فلا أعرف لهم ذكرًا في الأسماء المبهمات.
وقوله: "أَنْشُدُكَ اللهَ إلَّا قضيتَ بيننا بكتاب الله"؛ معنى أنشدك: أسألك رافعًا نَشيدي، وهو صوتي، وأنشدك: بفتح الهمزة وضم الشين.
وقوله: "إِلا قضيتَ بيننا بكتاب الله"؛ ينطلق ذلك على القرآن خاصة، وقد ينطلق كتاب الله على حكم الله مطلقًا، والأولى حمله على ذلك؛ لأنه ذكر في الحديث الحكم بالتغريب، وليس هو منصوصًا في القرآن إلا بواسطة أمر الله عز وجل باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته.
وقوله: "إن ابني كان عَسيفًا على هذا"، هو بالعين والسين المهملتين؛ أي: أجيرًا، وجمعه عُسفاء، كأجير وأجراء، وفقيه وفقهاء.
وقوله: "فافتديتُ منهُ"؛ أي: من الرجم.
وقوله: "لأقضينَّ بينكما بكتاب الله"؛ يحتمل أن المراد: بحكم الله، وقيل: هو إشارة إلى قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15)} [النساء: 15].
وفسر النبي صلى الله عليه وسلم السبيل بالرجم في حق المحصن.
وقيل: هو إشارة إلى آية: (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما)، وهي مما نسخت تلاوته وبقي حكمه، فعلى هذا، يكون الجلد قد أخذه من قوله تعالى:{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2].
= الحفاظ" له أيضًا (1/ 78)، و"تهذيب التهذيب" لابن حجر (7/ 22).
(1)
انظر: "الاستيعاب" لابن عبد البر (1/ 114)، و"الإصابة في تمييز الصحابة" لابن حجر (1/ 138).
وقيل: المراد: نقضُ صلحهما الباطلِ على الغنم والوليدة.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الوليدةُ والغنمُ رَدٌّ"؛ أي: مردودة، ومعناه: يجب ردها إليك.
وأطلق المصدر على اسم المفعول.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وعلى ابنِك جلدُ مئةٍ وتغرببُ عام"؛ هذا متضمن: أن ابنه كان بِكرًا، وعلى أن ابنه اعترف بالزنا؛ فإن إقرار الأب عليه لا يقبل إلا أن يكون هذا من باب الفتوى، فيكون معناه: إن كان ابنك زنى وهو بكر، فحده ذلك.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "واغدُ يا أُنَيْسُ على امرأةِ هذا، فإنِ اعترفت، فارجمها، فغدا عليها، فاعترفتْ، فأَمرَ بها فَرُجمت"؛ معناه عند العلماء: إعلام المرأة بأن هذا الرجل قذفها بابنه؛ لتعلم أن لها حد القذف، ويجب عليها حد الزنا، وهو الرجم؛ لأنها محصنة. فذهب أنيس، واعترفت بالزنا، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمها، فرجمت، ولا بد من هذا التأويل؛ لأن ظاهره أنه بعث لطلب إقامة حد الزنا، وهو غير مراد؛ لأنه لا يحتاط له بالتجسس والتنقير عنه، بل لو أقر به مقر، استحب أن يلقن الرجوع عنه، فتعين التأويل، والله أعلم.
وفي هذا الحديث أحكام:
منها: استحباب صبر الحاكم والمفتي ونحوهما على جفاة الناس من الخصوم والمستفتين، إذا قالوا: احكم بيننا بالحق، وأَفتنا بالحق.
ومنها: حسن المخاطبة للحكام والمفتين؛ حيث وصف الخصم الآخر بأنه أفقه من الأول؛ لأنه أتى بالقضية على وجهها، واستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الكلام؛ حذرًا من وقوعه في النهي في قوله عز وجل:{لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} صلى الله عليه وسلم[الحجرات: 1]؛ بخلاف خطاب الأول.
ومنها: جواز استفتاء غير النبي صلى الله عليه وسلم في زمنه؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم ينكر ذلك عليه لما قال: فسألت أهل العلم.
ومنها: جواز الاستفتاء المفضول مع وجود أفضل منه.
ومنها: أن الصلح الفاسد يرد.
ومنها: أن أخذ المال فيه باطل، يجب رده.
ومنها: أن الحدود لا تقبل الفداء.
ومنها: شرعية التغريب مع الجلد، والحنفية يخالفون فيه؛ بناء على أن التغريب ليس مذكورًا في القرآن، وأن الزيادة على النص نسخ، ونسخ القرآن بخبر الواحد غير جائز عندهم، وغيرهم يخالفهم في تلك المقدمة، وهي أن الزيادة على النص نسخ، والمسألة مقررة في علم الأصول، وقد أجمع العلماء على وجوب جلد الزاني البكر مئة، ورجم المحصن، وهو الثيب، ولم يخالف فيه أحد من أهل القبلة، إلا الخوارج وبعض المعتزلة، والنظام وأصحابه، فإنهم لم يقولوا بالرجم.
واختلف العلماء في جلد الثيب مع الرجم: فقال علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه-، والحسن البصري، وابن راهويه، وداود، وأهل الظاهر، وبعض الشافعية: يجلد، ثم يرجم، وقال جمهور العلماء: الواجب الرجم.
ومن أهل الحديث من فصل فقال: يُجمع بينهما إن كان شيخًا ثيبًا، فإن كان شابًا ثيبًا، اقتصر على الرجم، وهو مذهب باطل مردود لا أصل له بالأحاديث الصحيحة، ومنها: قصة ماعز والغامدية، وحديث الكتاب:"واغد يا أنيس"، وحديث الجمع بين الجلد والرجم منسوخ؛ فإنه كان في أول الإسلام، والله أعلم.
ومنها: الرجوع إلى العلماء عند اشتباه الأحكام والشك فيها.
ومنها: استصحاب الحال والحكم بالأصل في استمرار الأحكام الثابتة، وإن كان يمكن زوالها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بالنسخ.
ومنها: أن المتعاوضين بالعقد الفاسد إذا أذن كل واحد للآخر في التصرف [في] ملكه لم ينفذ ذلك؛ حيث إنه صلى الله عليه وسلم جعل الوليدة والغنم مردودًا.
ومنها: أن ما يوجب الحد والتعزير من الألفاظ في محل الاستفتاء يسامح به، لكنه إذا تضمن وجوب حد على الغير، وجب إعلامه به؛ ليقر، أو يطلب إقامة الحد على من تلفظ بما يوجبه، أو يعفو عنه.