الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحديث السادس
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَن رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَوْ أَن امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إذنٍ، فَحَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، مَا كَانَ عَلَيْكَ جُنَاحٌ"(1).
اعلم أن دفع الصائل جائز بالإجماع مطلقًا، ويجب عن الحريم بالإجماع، بخلاف النفس والمال؛ فإن العلماء اختلفوا في جواز الاستسلام في النفس، واختلفوا في أن الأفضل الاستسلام فيهما، أم تركه، أم يحرم، أم يفرق بين من للمسلمين به نفع؟
على أوجه للشافعية -رحمهم الله تعالى-.
وأما المال، فلا يجب الدفع عنه إجماعًا، لكن يجوز.
إذا ثبت هذا، فاعلم أن لفظ الحديث شامل للاطلاع عليك في بيتك، وهو يقتضي أن يكون فيه أنت أو حريمك غير المحارم، على المطلع عليك.
وقد أخذ الشافعي -رحمه الله تعالى- بظاهر الحديث، وحكمته الاحتياط للحريم والعورات بالستر وعدم الاطلاع عليها، لكن في قوله صلى الله عليه وسلم:"فحذفته بحصاة" ما يقتضي أنه لا يعدل إلى الدفع بالأشد مع وجود الدفع بالأخف من غير إنذار ونهي.
ومنعت المالكية ذلك، وقالوا: لا يجوز قصدُ عينه ولا غيرها؛ حتى قيل عندهم: إنه يجب القود فيه، وهو مخالف للحديث، وقالوا في تعليل المنع: المعصية لا تدفع بالمعصية.
وهو ضعيف جدًّا، فإنه والحالة هذه لا تكون معصية، ويلحق بدفع الصائل، فإن أرادوا مجرد المعصية بالتعدي بالحذف مع قطع النظر عن النظر في بيته بغير إذن، فهو صحيح، لكنه لا يفيدهم، والله أعلم.
(1) رواه البخاري (6506)، كتاب: الديات، باب: من اطلع في بيت قوم ففقؤا عينه فلا دية له، ومسلم (2158)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره.
وقد أوجب الشارع بسبب الحريم أحكامًا وتكاليف لم توجد في غيرهن من متعلقات المتكلفين:
منها: الدفع عنهن بالقتال وغيره.
ومنها: فقء العين بالنظر في بيوتهن.
ومنها: الإنفاق عليهن، وإسكانهن، وكسوتهن، ومعاشرتهن بالمعروف، والوصية بهن، إلى غير ذلك.
وما ذاك كله إلا لعظم حقهن؛ لما يترتب من مصالحهن الدنيوية والأخروية، من جزيل الثواب ورفع الدرجات في المآب.
وقد تصرف الفقهاء في حكم هذا الحديث بأنواع من التصرفات، وذكروا فيها أحكامًا كثيرة:
منها: أنه لا يجوز النظر إلى حريم الناس، سواء كان الناظر واقفًا في الشارع، أو في ملك المنظور إليه، أو في سكة منسدة الطريق.
ويجوز فقء عين من فعل ذلك برميه بشيء؛ لإشعار الحديث به.
ولأصحاب الشافعي وجه: أنه لا يقصد فقء العين بالنظر، إلا لمن وقف في ملك المنظور إليه.
ومنها: أنه يجوز رميه قبل نهيه وإنذاره؛ لإطلاق الحديث، وللشافعية في ذلك وجهان:
أحدهما: يشترط نهيه وإنذاره قبل رميه.
والثاني: لا يشترط.
وقد ثبت في "الصحيح" ما يدل على عدم الاشتراط، وأقوى من إطلاق هذا الحديث: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في يده مِدرى، ورجل ينظر في بيته، فقال النبي عنه:"لو أعلمُ أنكَ تنظرُ نجنا لفقأتُ بهِ عينَكَ"(1)، وذلك دليل على عدم
(1) رواه البخاري (5887)، كتاب: الاستئذان، باب: الاستئذان من أجل البصر، ومسلم =
اشتراط الإنذار، ويدل على اشتراط النظر لقصد مفسدة.
ومنها: أنه لا يلحق غير النظر بحكمه، كالتسمع، وفيه خلاف.
ومنها: أنه لا يُرمى الناظر إلا بشيء خفيف؛ كمدرى، وبندقة، وحصاة، ولفظ الحديث يشعر بذلك؛ حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم:"فخذفته"، والخذف لا يكون إلا بشيء خفيف، فلو رماه بحجر ثقيل، أو رشقه بنشاب فقتله، تعلق برميه القصاص أو الدية.
ومنها: أن الناظر لو كان له في الدار محرم أو زوجة أو متاع، لم يجز قصد عينه؛ لأن له شبهة في النظر.
وقيل: لا يمتنع قصد عينه إلا إذا كان جميع من في الدار محارمه.
ومنها: أنه لو كان في الدار صاحبها فقط، وهو مكشوف العورة، فنظر إليه، فهل يلحق الحكم فيه بالنظر إلى المحارم؛ وجهان للشافعية؛ أظهرهما: أنه لا يجوز رميه.
ومنها: أن المحارم لو كن في الدار مستترات، أو في بيت منها، لم يجز قصد عينه بالرمي في وجه؛ لأنه لا يطلع على شيء.
والأظهر عند جماعة من الفقهاء الجواز؛ لإطلاق الأحاديث، ولأن أوقات التستر والكشف لا تنضبط، فالاحتياط حسم الباب.
ومنها: اشتراط عدم تقصير صاحب الدار في كف نظر الناظر، فإن جعل بابه مفتوحًا، أو كانت كوة واسعة في الدار، أو ثلمة مفتوحة لم يسدهما، والناظر مجتاز، فإنه لا يجوز قصد رميه، فلو تعمد النظر، ووقف له، ففيه وجهان:
أحدهما: لا يجوز قصده بالرمي؛ لتفريط صاحب الدار بفتح الباب وتوسع الكوة.
والثاني: يجوز؛ لتعديه بالنظر.
= (2156)، كتاب: الآداب، باب: تحريم النظر في بيت غيره، عن سهل بن سعد رضي الله عنه بلفظ:"لو علمت أنك تنظر، لطعنت بها في عينك".
وأجري هذا الخلاف فيما لو نظر من سطح نفسه، أو نظر المؤذن من المئذنة.
والأظهر هنا: جواز الرمي؛ لأنه لا تقصير من صاحب الدار.
وهذه الأحكام كلها، إن كانت داخلة تحت إطلاق الأحاديث، كانت مأخوذة منها، وإن لم تكن داخلة، كان بعضها مأخوذًا من فهم المعنى المقصود بالأحاديث، وبعضها مأخوذًا بالقياس، وهو قليل فيها، والله أعلم.
* * *