الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الفرائض
الحديث الأول
عَنْ عَبدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:"أَلحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهلِهَا، فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"(1). وفي رواية: "اقسِمُوا المَالَ بينَ أَهلِ الفَرَائِضِ عَلَى كِتَاب اللهِ، فَمَا تركَتِ الفَرَائِضُ، فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"(2).
أما الفرائض: فهي جمع فريضة، مأخوذة من الفرض، وهو التقدير، والمراد هنا: الأنصباء المقدرة في كتاب الله تعالى؛ فإنَّ سهُمان أهلها تولى الله سبحانه وتعالى فرضَها دون غيره من بيان الأنبياء والمرسلين؛ وهي النصف، ونصفه: وهو الربع، ونصف نصفه: وهو الثمن، والثلثان، ونصفهما، وهو الثُّلث، وثلث نصفهما، وهو السدس.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فَمَا بَقِيَ فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"؛ المراد "بأوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ": أقربُ رجل، وهو مأخوذٌ من الوَلْي؛ وهو القرب، والولْي: بإسكان اللام على وزن الرمي، وليس المراد بأولى هنا: أحق، بخلاف قولهم: الرجل أولى مسألة؛ حيث إنَّه لو حمل هنا على أحق، لخلا عن الفائدة؛ لأنَّا لا ندري من هو الأحق.
(1) رواه البُخاريّ (6351)، كتاب: الفرائض، باب: ميراث الولد من أبيه وأمه، ومسلم (1615)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها.
(2)
رواه مسلم (1615)، (3/ 1234)، كتاب: الفرائض، باب: ألحقوا الفرائض بأهلها.
وقولُه: "رَجُلٍ ذَكَرٍ"؛ وصفُ الرجل بأنه ذكر تنبيهٌ على سبب استحقاقه، وهو الذكورية، التي هي سبب العُصوبة، وسبب الترجيح في الأثر، ولهذا جعل للذَّكَر مثلُ حظِّ الأُنثيين، وحكمته: أن الرجال يلحقهم مؤن كثيرة بالقيام بالعيال والضيفان وإرفاد القاصدين، ومواساة السائلين، وتحمل الغرامات، وغير ذلك، وقد أورد على ذلك إشكال، وهو أن الأخوات عصبة مع البنات، والحديث يقتضي اشتراط الذكورية في العصبة؛ لاستحقاق باقي التركة!
والجواب: أن ما ذكر، وهو ما ذكر من طريق المفهوم، وأقصى درجاته أن يكون له عموم، فيختص بالحديث الدال على الحكم المذكور؛ من كون الأخوات مع البنات عصبة، والله أعلم.
وفي الحديث دليل: على البداءة في قسمة التركات بالفرائض بين أهل الفرض.
وفيه دليل: على أن العصبات لا يرثون إلَّا بعد استيفاء أهل الفرائض فرائضهم.
وفيه دليل: على توريث العصبات، وتقدم الأقرب فالأقرب منهم، فلا يرث عاصب بعيد مع وجود قريب، فإذا خلف بنتًا وأخًا وعمًّا، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخ، ولا شيء للعم.
وفيه دليل: على الرجوع في قسمة الفرائض وأنصبائها إلى كتاب الله تعالى؛ حيث تولى الله تعالى قسمتها تنبيهًا على شدة أمر الأموال وصعوبته، وقد أكَّد سبحانه وتعالى ذلك بقوله:{فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]، وكذا القول في أموال الصدقات؛ حيث قال:{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} -إلى قوله تعالى-: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60].
وقد تولى الله سبحانه وتعالى قسمة أموال الغنيمة في سورة الأنفال، وأموال الفيء في سورة الحشر، وكل ذلك دليل على شدة تعظيم الأموال وحرمتها، وقطع المنازعة بسببها، والله أعلم.
وأعلم أن العصبة ثلاثة أقسام:
عصبة بنفسه؛ كالابن وابن الابن، والأخ وابنه، والعم وابنه، وعم الأب والجد وابنهما، ونحوهم، وقد يكون الأب والجد عصبة، وقد يكون لهما فرض، فمتى كان للميت ابن أو ابن ابن، لم يرث الأب إلَّا السدس فرضًا، ومتى لم يكن له ولد ولا ولد ابن، ورث بالتعصيب فقط، ومتى كان [له] بنت، أو بنت ابن، أو بنتان، أو بنتًا ابن، أخذ البنات فرضهن، وللأب من الباقي السدس فرضًا، والباقي بالتعصيب، والله أعلم.
القسم الثَّاني: عصبة بغيره؛ وهو البنات بالبنين، وبنات الابن ببنتي الابن، والأخوات بالإخوة.
والثالث: عصبة مع غيره، وهو الأخوات للأبوين أو للأب مع البنات وبنات الابن، فإذا خلف بنتًا وأختًا لأبوين أو لأب، فللبنت النصف فرضًا، والباقي للأخت بالتعصيب، وإن خلف بنتًا وبنت ابن وأختًا لأبوين، أو أختًا لأب، فللبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي للأخت، وإن خلف بنتين وبنتي ابن، وأختًا لأبوين أو لأب، فللبنتين الثلثان، والباقي للأخت، ولا شيء لبنتي الابن؛ لأنَّه لم يبق شيء من فرض جنس البنات، وهو الثلثان.
وأعلم أنه حيث أطلق العصبة، فالمراد به العصبة بنفسه؛ وهو كل ذكر يدلي بنفسه بالقرابة ليس بينه وبين الميت أنثى، ومتى انفرد العصبة، أخذ جميع المال، ومتى كان مع أصحاب فروض مستغرقة، فلا شيء، وإن لم يستغرقوا، كان له الباقي بعد فروضهم، وأقرب العصبات البنون، ثم بنوهم، ثم الأب، ثم الجد إن لم يكن أخ، والأخ إن لم يكن جد، فإن كان له أخ وجد، ففيهما خلاف مشهور، وهما قولان للشافعي:
أحدهما: يقدم الأخ؛ لإدلائه بالأبوة بوصف البنوة، والبنوة أقوى من جهة العصبة.
والثاني: يقسم بينهما؛ لتعارض الإدلاء بالأبوة بوصف الأبوة والبنوة، فالجد
أبو الأب، والأخ ابن الأب، ثم بنو الإخوة، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الأعمام، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم، ثم أعمام جد الأب، ثم بنوهم، وهكذا.
ومن أدلى بالأبوين: يقدم على من يدلي بأب؛ فيقدم أخ من أبوين على أخ من أب، ويقدم ابن أخ من أبوين على ابن أخ من أب، ويقدم عم لأبوين على عم لأب، وكذا الباقي، ويقدم الأخ من الأب على ابن الأخ من الأبوين: لأنَّ جهة الأخوة أقوى وأقرب، ويقدم ابن الأخ لأب على عم لأبوين، ويقدم عم لأب على ابن عم لأبوين، وكذا الباقي، وإنَّما ذكرنا هذه الفروع لدخولها جميعها تحت قوله صلى الله عليه وسلم:"فَمَا بَقِي: فَهُوَ لأَوْلَى رَجُلٍ ذَكرٍ، أَوْ لأَوْلَى عَصَبَةٍ ذَكَرٍ"(1) كما ذكر في بعض الروايات، والله أعلم.
وفيه دليل لمذهب ابن عباس رضي الله عنهما في أنه لو خلف بنتًا وأختًا لأبوين وأخًا لأب: أن للبنت النصف، والباقي للأخ دون الأخت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"أَلْحِقُوا الفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، [فَمَا] بَقِيَ فَلأَوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ"، ولم يكن رجل ذكر بعد البنت، إلَّا الأخ من الأب.
فلم يكن للأخت من الأبوين شيء، لكن الله سبحانه وتعالى فرض للأخت من الأبوين النصف، كما فرض للبنت النصف بقوله تعالى:{إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]. وبقوله تعالى في البنت: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11]، فلم يبق بعد إلحاق الفرائض بأهلها شيء؛ فلم يكن للأخ شيء، وهذا مذهب الشَّافعي، وجمهور العلماء، والله أعلم.
(1) قال الحافظ ابن حجر: وقع في كتب الفقهاء كصاحب "النهاية" وتلميذه الغزالي: "فلأولى عصبة ذكر"، قال ابن الجوزي والمنذري: هذه اللفظة ليست محفوظة. وقال ابن الصلاح: فيها بعد عن الصحة من حيث اللغة، فضلًا عن الرواية؛ فإن العصبة في اللغة اسم للجميع لا للواحد، كذا قال. والذي يظهر أنه اسم جنس، ويدل عليه حديث أبي هريرة في "الصحيح":"أيما امرئ ترك مالًا فليرثه عصبته من كانوا" فشمل الواحد وغيره. وانظر: "فتح الباري"(12/ 12)، و "تلخيص الحبير"(3/ 81).