الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ومنها: مراقبة الله تعالى في الأموال أخذًا وصرفًا، منعًا وعطاءً.
ومنها: البداءة بالإنفاق على العيال والتوسعة عليهم، وما فضل يصرف في الأهم من المصالح العامة.
وأما الإنفاق على النفس، فيجوز تقديمها بالنفقة المتوسطة على العيال وغيرهم، ثم يصرف ما بقي على العيال وما ذكرنا، لكن الأفضل، إن كانت ممن تصبر وتحتسب أن تؤثر وتحتسب، وإن كانت لا تصبر، فالأفضل تقديمها. وأما حال الاضطرار المفضي إلى الهلاك، فيتعين تقديم النفس، والله أعلم.
ومنها: إعداد الأئمة والسلاطين والأمراء والأجناد، وكل من شرع له الغزو، وكان له سعة، الخيلَ والسلاحَ، وتأكيد ذلك بقصد الطاعة وعدم الرياء، وذلك سبيل الله تعالى، والله عز وجل أعلم.
* * *
الحديث الرابع عشر
عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: أَجْرَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مَا ضُمِّرَ مِنَ الخَيْلِ مِنَ الحَفْياءِ إِلَى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ، وَأَجْرَى مَا لَمْ يُضَمَّرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إلَى مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ. قَالَ ابنُ عُمَرَ: وَكُنْتُ فِيمَّنْ أَجْرَى.
قَالَ سُفْيَانُ: مِنَ الحَفْياءِ إِلى ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ خَمْسَةُ أَمْيَالٍ أَوْ سِتَّةٌ، وَمنْ ثَنِيَّةِ الوَدَاعِ إِلَى مَسْجِدِ بَني زُرَيْقٍ مِيلٌ (1).
قوله: "أجرى النبي صلى الله عليه وسلم ما ضُمِّرَ من الخيل".
معنى أجرى: سابَقَ؛ كما ثبت في روايات في الصحيح. والمجاراة في العِلْم: المناظرةُ والجدالُ؛ ليظهر علمه للناس رياء وسمعة. وتتجارى بهم
(1) رواه البخاري (2713)، كتاب: الجهاد والسير، باب: السبق بين الخيل، ومسلم (1870)، كتاب: الإمارة، باب: المسابقة بين الخيل وتضميرها، وهذا لفظ البخاري.
الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه: أي: يتداعَوْن في الأهواء الفاسدة يسببها مجرى الفرس.
وضُمِّر: معناه تقليل علفها مدة، وإدخالهُا بيتًا كنينًا، وتُجلَّلُ فيه لتعرق ويجف عرقها، فيخفُّ لحمها، وتقوى على الجري.
وقال بعضهم: وتُعلف الحبَّ والقضيم حتى تسمن وتقوى، ثم تُدخل بيتًا كنينًا وتُجلل فيه لتعرق ويجفَّ عرقها، فيصلب ويخف لحمها، ثم ترد إلى القوت، فلا تعلف إلا قوتًا، وذلك في أربعين يومًا، وهذه المدة تسمى: المضمار.
والموضع الذي تضمر فيه الخيل أيضًا: مِضْمار، ومن العرب من يطعمها اللحم واللبن في أيام التضمير.
وقيل: تضميرها: أن تُشَدَّ عليها سروجُها وتُجلل بالأجلة، حتى تعرق تحتها، فيذهب رهلها، ويشتد لحمها.
ويقال: ضُمِّر بالتشديد، وأُضمر بالهمزة والتخفيف، والضُّمْر بسكون الميم وضمها؛ مثل العشر، والعشر: خفة اللحم والهزال. وقد ضمَر الفرس بفتح الميم يضمر ضمورًا، وضَمُر بالضم لغة فيه. ويقال: ضمرت الفرس، وأضمرته (1).
والحَفياء؛ بفتح الحاء المهملة، وسكون الفاء، وتمد، وتقصر، الأشهر: المد، والحاء مفتوحة بلا خلاف، قال صاحب "المطالع": وضبطه بعضهم بضمها. قال: وهو خطأ.
قال الحازمي في "المختلف والمؤتلف": ويقال -أيضًا-: الحيفاء بتقديم، الياء على الفاء، والمشهور في كتب الحديث وغيرها: الحفياء.
وقوله: "قال سفيان -يعني: ابن عيينة - وبين الحفياء والثنية خمسة أميال أو ستة".
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 59)، و"لسان العرب" لابن منظور (4/ 491)، (مادة: ضمر).
هذا قول الأكثرين. وقال عقبة: ستة أميال أو سبعة (1).
والثنية: الطريق في الجبل. وسميت ثنية الوداع؛ لأنها موضع وداع المسافرين من المدينة، يودعهم مشيعوهم بها.
وقيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودع بها بعض من خَلَّفَه على المدينة في إحدى خرجاته.
وقيل: بعض سراياه المبعوثة.
والصحيح: الأول؛ فإنه اسم قديم جاهلي لهذه الثنية.
وقد قال نساء الأنصار حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة: طلع البدر علينا من ثنيات الوداع (2).
وقوله: "من ثنية الوداع إلى مسجد بني زريق ميل"، زريق -بتقديم الزاي وضمها، وبعدها راء-: بطن من الأنصار من الخزرج، نسب إليه جماعة من الصحابة رضي الله عنهم وغيرهم.
والميل؛ حيث أطلق المراد به في المسافات: ألف باع، والباع: أربعة أذرع، والذراع أربعة وعشرون إصبعًا، والأصبع ستُّ شعيرات، بطنُ حبة إلى ظهر أخرى، والشعيرة ست شعرات من شعر البغل، أو ما قام مقامه، والله أعلم.
وفي الحديث أحكام:
منها: جواز المسابقة بين الخيل.
ومنها: تضميرها.
وهذان الحكمان، لا خلاف فيهما.
واختلف الناس في المسابقة بين الخيل، فقيل: هي سنّة، وقيل: من باب المباح، والله أعلم.
(1) انظر: "مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 220)، و"شرح مسلم" للنووي (13/ 14)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 411).
(2)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (7/ 261)، والتعليق على هذه الرواية.
ومنها: جواز تجويع البهائم على وجه الصلاح عند الحاجة إلى ذلك، وليس هو من باب تعذيب البهائم، بل هو من باب تدريبها للحرب، وإعدادها لحاجتها للطلب وللكر.
ومنها: بيان الغاية التي يسابق إليها، ومقدار أمدها.
ومنها: إطلاق الفعل على الأمر به والمسوغ له.
وليس في الحديث دلالة على العوض في المسابقة، ولا على جوازها على غير الخيل، ولا على غير ذلك من الشروط التي اشترطت في عقد المسابقة؛ فإنه لم يصرح فيه بشيء من ذلك.
وقد أجمع العلماء على جواز المسابقة بغير عوض بين جميع أنواع الخيل، قويها مع ضعيفها، وسابقها مع غيره، سواء كان معها ثالث أم لا.
فأما المسابقة بعوض، فجائزة بالإجماع، لكن بشرط أن يكون العوض من غير المتسابقين، أو يكون منهما، ويكون معهما محلل، وهو ثالث على فرس مكافئ لفرسيهما، ولا يخرج المحلل من عنده شيئًا؛ ليخرج هذا العقدَ عن صورة القمار.
ومنها: جواز إضافة المساجد إلى البانين لها، والمصلين فيها.
وفي ذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها، وليس في ذلك تزكية لهم.
وليست إضافة المسجد إلى بني زريق إضافةَ تمليك، وإنما هي إضافة تمييز.
وقد ترجم البخاري لهذه المسألة، قال: باب: جواز قول: مسجد بني فلان (1).
وروي عن إبراهيم النخعي: أنه كان يكره أن يقال: مسجد بني فلان، ولا نرى بأسًا أن يقال: مصلى بني فلان.
وهذا الحديث يرد قوله، ولا فرق بين مصلى ومسجد، ولكن قد يقع الفرق
(1) انظر: "صحيح البخاري"(1/ 162)، وقد بوّب البخاري بقوله: هل يقال: مسجد بني فلان؟