الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهذا وإن كان فيه ضعف من جهة العربية، ففيه إشكال؛ من حيث إنه إذا كان المعنى يقتضي اجتماع الأمرين، كان ذلك داخلًا في الضمان، فيقتضي: أنه لا بد من حصول أمرين لهذا المجاهد، إذا رجع مع رجوعه، وقد لا يتفق ذلك بتلف ما حصل من الغنيمة، اللهم إلا أن يجوز في لفظه الرجوع إلى الأهل.
ومنهم من أجاب: بأن التقدير: أو يرجعه إلى أهله مع ما نال من أجر وحده، أو غنيمة وأجر، فحذف الأجر من الثاني. هذا آخر كلامه بحروفه، والله أعلم (1).
وفي هذا الحديث دليل: على فضل الجهاد والحث عليه.
وفيه دليل: على الإخلاص فيه.
وفيه: بيان وجوه الإخلاص فيه.
وفيه دليل: على أن الجهاد يعدل درجة الصيام والقيام.
وفيه: بيان تولي الله سبحانه وتعالى جزاءه كيف شاء.
وفيه: إشارة إلى أن الإخلاص في الجهاد وغيره، هو قصد امتثال أمر الله تعالى فيه، وتصديق ما وعد به عليه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم من غير قصد شيء آخر، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
وعَنْهُ رضي الله عنه أيضًا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَكْلُومٍ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللهِ إلَّا جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَكَلْمُهُ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرَّيحُ رِيحُ مِسْكٍ"(2).
أما المكلوم؛ فهو المجروح. والكَلْم: الجرح، وهو بفتح الكاف وإسكان اللام. ويُكْلَم بإسكان الكاف؛ أي: يُجرح.
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 227 - 229).
(2)
رواه البخاري (5213)، كتاب: الذبائح والصيد، باب: المسك، ومسلم (1876)، كتاب: الإمارة، باب: فضل الجهاد والخروج في سبيل الله، وهذا لفظ البخاري.
ومجيئه يوم القيامة وهو يدمى؛ ليشهد على ظالمه بالقتل، وليظهر شرفه لأهل المشهد والموقف بما فيه من رائحة المسك المشاهدة بالطيب.
وفي هذا الحديث دليل: على فضل الجراحة في سبيل الله.
وفيه دليل: على أن الشهيد لا يزال عنه الدم بغسل ولا غيره؛ للحكمة التي ذكرناها.
وفيه دليل: على أن أحكام القيامة وصفاتها، غيرُ أحكام الدنيا وذواتها؛ فإن الدم في الآخرة يتغير حكمه من النجاسة والرائحة الخبيثة التي في الدنيا، إلى الطهارة والرائحة الطيبة يوم القيامة، وبذلك يقع الإكرام له والتشريف.
ولا يلزم من قوله صلى الله عليه وسلم: "اللونُ لونُ دم" أن يكون دمًا نجسًا حقيقة، كما لا يلزم من كونِ ريحِه ريحَ مسك أن يكون مسكًا حقيقة، بل يجعله الله تعالى شيئًا يشبه هذا، ويشبه هذا، ناشئًا عما فارق الدنيا عليه، كما أن إعادة الأجسام مما كانت عليه في الدنيا، وإن اتصفت بصفات أخر من البقاء والدوام بعد أن كانت غير دائمة ولا باقية، ولهذا يأتون طولًا واحدًا، وسنًّا واحدًا، جُرْدًا مُرْدًا غيرَ مختونين. فعلمنا أن الإعادة حق مما انتقلت عليه، وإن اكتسب أوصافًا لم تكن، فكذلك دم الشهيد يعاد للحكمة التي ذكرناها، وإن اكتسبت أوصافًا لم تكن، ليس حكمه حكمها، ولا فضله فضلها.
وكذلك أهل الوضوء، يبعثون يوم القيامة غرًّا محجلين من آثار الوضوء؛ إكرامًا لهم، وشهادة لهم في الموقف لأهل المشهد بما كان يعمل في الدنيا من التطهر في تلك الأعضاء، والله أعلم.
وقد يستنبط منه: أن الماء المتغير بالنجاسة وغيرها، إذا زال تغيره بنفسه، انتقل من حكمه حالَ تغيره إلى حكمه حالَ زواله، فينتقل من القذارة إلى الطيب، ومن النجاسة إلى الطهارة، وحُكم له بحكم المسك والطيب للشهيد، بخلاف ما إذا زال بغيره بوضع شيء ومعالجة، والله أعلم.
* * *