الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
باب القضاء
القضاء في أصل اللغة: إحكام الشيء، والفراغ منه. ويكون القضاء إمضاء الحكم، ومنه قوله عز وجل:{وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4]. وسمي الحاكم: قاضيًا؛ لأنه يمضي الأحكام ويحكمها، ويكون قضى بمعنى: أوجب، فيجوز أن يكون سمي قاضيًا؛ لإيجابه الحكم على من يجب عليه، وسمي حاكمًا؛ لمنعه الظلماء من الظلم.
والقضاء -بالمد-: الولاية المعروفة، وجمعه أقضية؛ كغطاء وأغطية، واستقضي فلان: جُعل قاضيًا، وقَضَّى السلطانُ قاضيًا؛ أي: ولاه؛ كما يقال: أَمَّرَ أميرًا (1).
* * *
الحديث الأول
مَنْ عَائشِةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ، فَهُوَ رَدٌّ"(2).
(1) انظر: "الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي"(ص: 419)، و"تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 331)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 219)، (مادة: قضى).
(2)
رواه البخاري (2550)، كتاب: الصلح، باب: إذا اصطلحوا على صلح جور، فالصلح مردود، ومسلم (1718)، كتاب: الأقضية، باب: نفض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور.
وَفِي لَفْظٍ: "مَن عَمِلَ عَمَلًا لَيسَ عَلَيْه أَمْرُنَا، فَهُوَ رَدٌّ"(1).
اعلم أن هذا الحديث رواه البخاري ومسلم.
وأما قوله: وفي لفظٍ: "من عملَ عملًا ليسَ عليه أمرنا فهو رَدٌّ"؛ فظاهره أنه للبخاري ومسلم -أيضًا-، وقد أضافه شيخنا الحافظ أبو زكريا النواوي رحمه الله في "الأربعين" له إلى مسلم خاصة، وأنكر عليه بعض المتأخرين ذلك، وقال: بل رواه -أيضًا- البخاري.
ولا شك أن البخاري ذكره في "صحيحه" معلقًا، والمعلق لا يطلق عليه رواية للبخاري؛ لأن الرواية لا تطلق إلا على المتصل، ولهذا قال شيخنا أبو زكريا -رحمه الله تعالى-: وفي رواية لمسلم، ولم يقل: وفي لفظ، ونحوه من العبارات التي تشعر بوجوده فيه من غير رواية متصلة؛ فإن ذكر اللفظ في الشيء غير ذكر الرواية فيه، فصح ما ذكره تحقيقًا، ولا يصح الإنكار، وعبارة الكتاب محررة في ذلك، لكنها غير مبينة للمراد على إصطلاح المحدثين؛ حيث ان المقصود من ذكره لها: الدلالة لإثبات الروايات، والله أعلم.
وهذا الحديث أحد الأحاديث التي عليها مدار الإِسلام، أو هو نصف الإِسلام، أو ثلثه على ما ذكر فيه؛ لكثرة ما يدخل تحته من الأحكام التي لا تنحصر.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "فهو رَدٌّ"؛ هو بمعنى المردود؛ إطلاقًا للمصدر على اسم المفعول؛ كأنه قال: فهو باطل غيرُ معتدّ به.
وفي اللفظ الثاني: "من عملَ عملًا" زيادة على مدلول الأول؛ فإنه يشتمل صريحًا على أن إحداث جميع البدع والمخترعات مردود، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، فإذا عاند بعض المعاندين بفعل بدعة سبق إليها، لم يكن إثمه كإثم
(1) رواه مسلم (1718)، (3/ 1343)، كتاب: الأقضية، باب: نقض الأحكام الباطلة، ورد محدثات الأمور، وقد ذكره البخاري في "صحيحه"(6/ 2675) معلقًا.
من أحدثها، وإن كانا اشتركا في الإثم؛ لأن إثم الأول بالإحداث من غير ذكر عمل، وإثم الثاني بالعمل من غير إحداث؛ حيث إن قوله: أنا ما أحدثت شيئًا، صحيح، فيحتج عليه باللفظ الثاني الذي فيه التصريح برد كل المحدثات، سواء أحدثها الفاعل، أو سبق بإحداثها. والله أعلم.
وفي الحديث دليل: على إبطال جميع العقود الممنوعة، وعدم وجود ثمراتها.
وفيه دليل لمن يقول من أهل أصول الفقه: إن النهي يقتضي الفساد، ومن قال منهم: ليس فيه دلالة على ذلك، قال: لأنه خبر واحد، فلا يكفي في إثبات هذه القاعدة المهمة، وهو قول فاسد، نعم، قد يقع الغلط في بعض المواضع لبعض الناس فيما يقتضيه الحديث من الرد؛ فإنه قد يتعارض أمران، فينتقل من أحدهما إلى الآخر، فيكون العمل بالحديث في أحدهما كافيًا، ويقع الحكم به في الآخر في محل النزاع، فللخصم أن يمنع دلالته عليه، فينبغي أن يتنبه لذلك، والله أعلم.
وإنما أدخل المصنف هذا الحديث في باب القضاء؛ حيث إن القضاء في المحاكمات لا ينضبط ولا ينحصر، وهي مردودة إلى الشرع، وفي العادة والغالب لا يجري على مقتضاه، ذنبه بذكره الحديثَ على أن كل ما يجري منها على هذا النحو مردود، إحداثًا وعملًا، والله أعلم.
وفيه دليل: على التمسك بشريعته صلى الله عليه وسلم وسنته؛ حيث إن ذلك أمره الذي جاء به، وقام به، وما عداه ليس هو أمره، فهو مردود.
وفيه دليل: على رد الأعمال الباطلة، وإن لم يقصد فعلها، ولا علم حكمها، والله أعلم.
* * *