الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القضاء فيه؛ لشدة استيلائه على النفس وصعوبة مقاومته.
وفيه دليل: على العمل بالكتابة.
وفيه دليل: على أن الكتابة بالحديث؛ كالسماع من الشيخ؛ في وجوب العمل، وأما في الرواية، فقد اختلفوا فيه.
والصواب الذي عليه المحققون، وقاله المتقنون: أنه يجوز إذا أداه في الرواية بعبارة مطابقة للواقع؛ كقوله: كتب إلى فلان بكذا وكذا، وأخبرني مكاتبة أو كتابة، ونحو ذلك.
وفيه: نشر العلم للعمل به والابتداء به من غير سؤال.
وفيه: ذكر الحكم مع دليله في الفتوى والتعليم.
وفيه: تعدية الحكم إلى ما في معناه، وأنه معمول به، والله أعلم.
* * *
الحديث الخامس
عَنْ أَبِي بكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم "أَلَا أُنَبِّئكُمْ بِأكبَرِ الكَبَائِرِ؟ " ثَلَاثًا، قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ! قَالَ: "الإِشْرَاكُ بالله، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ"، وكَانَ مُتكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ:"أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزورِ" فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا؛ حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ (1).
تقدم الكلام على أبي بكرة آنفًا، في الحديث قبله.
قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ ثلاثًا"؛ معناه: أنه صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام ثلاث مرات؛ تنبيهًا للسامعين على حضور قلوبهم وأفهامهم، لما يخبرهم به مما استفتحه صلى الله عليه وسلم لهم من التعليم والبيان؛ لئلا يغفلوا عن ذلك، فيهلكوا؛ لتشبههم في ذلك بالكفار والمنافقين، أو اللائمين واللاعنين.
(1) رواه البخاري (2511)، كتاب: الشهادات، باب: ما قيل في شهادة الزور، ومسلم (87)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "بأكبرِ الكبائر"؛ فهو قال على عظم الذنوب، وأنها تنقسم في ذلك إلى كبير وأكبر، ويلزم من ذلك انقسامها إلى صغائر وكبائر؛ فإن (أفعل) التفضيل يدل على وجود مفضول غالبًا، وهو قسمان؛ فعيل، وفعيل يدل على ما دونه، وهو الصغائر، وهو القسم الثاني، ويدل على ذلك قوله عز وجل:{إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
ولا شك أن الكلام في ذلك على نوعين:
أحدهما: في درجاتها.
والثاني: في انحصارها في أعدادها وعدم قسيم لها.
أما الأول، فلا شك في وجوده في السنة، وقد ذكره العلماء.
قالوا: أكبر المعاصي: الشرك بالله تعالى، ويليه: قتل النفس بغير حق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا يزالُ ابنُ آدمَ في فسحةٍ من دينه، ما لم يُصِبْ دمًا حراما"(1).
قال الشافعي رحمه الله في "مختصر المزني": أكبر الكبائر بعد الشرك: القتل، واتفق أصحابه على ذلك، وأما ما سواها من الزنا واللواط وعقوق الوالدين، والسحر، وقذف المحصنات، والفرار يوم الزحف، وأكل الربا، وغير ذلك من الكبائر، فلها تفاصيل وأحكام تعرف بها مراتبها، ويختلف أمرها باختلاف الأحوال والمفاسد المترتبة عليها. وعلى هذا، يقال في كل واحدة منها: هي من أكبر الكبائر، وإن جاء في موضع: هي أكبر الكبائر؛ كقوله في هذا الحديث: "وعقوق الوالدين"، كأن المراد: من أكبر الكبائر؛ كما يقال في أفضل الأعمال (2).
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كل ما نهى الله عز وجل عنه، فهو كبيرة (3).
(1) رواه البخاري (6469)، كتاب: الديات، في أوله، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 81).
(3)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 40)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(292).
وبهذا قال الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني الإِمام في علم الأصول والفقه وغيره.
وحكى القاضي عياض رحمه الله هذا المذهب عن المحققين، واحتج القائلون بهذا؛ فإن كل مخالفة، فهي بالنسبة إلى جلال الله تعالى كبيرة، ولهذا قال السلف رحمهم الله: لا تنظر إلى الذنب، ولكن انظر إلى مَنْ عصيت، وهذا كله يدل على عدم قسيم الكبائر من الصغائر، وقد بينا دليل وجودها: وأما الثاني: فهو انحصارها في عدد.
ولا شك أنه ثبت في الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر سبع"(1)، وهذه الصيغة، وإن كانت تقتضي الحصر، فهو غير مراد بلا شك. وإنما وقع الاقتصار على السبع في هذا الحديث، وفي رواية في "صحيح مسلم": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الكبائر ثلاث"، وفي أخرى:"أربع"(2)؛ لكونها من أفحش الكبائر مع كثرة وقوعها، لا سيما فيما كانت عليه الجاهلية، ولم يذكر في بعضها ما ذكر في الأخرى، وذلك يدل على أن المراد: البعض، ويكون التقدير: من الكبائر.
ولهذا ثبت في الصحيح: "من الكبائر شتم الرجل والديه"، وثبت في عدم الاستبراء من البول، وفي النميمة: أنهما من الكبائر. وجاء في غير الصحيح من الكبائر: اليمين الغموس، واستحلال بيت الله الحرام.
وتقدم مذهب ابن عباس وأبي إسحاق وغيرهما: أن الكبائر كل ما نهى الله عنه.
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه سئل عن الكبائر، أسبع هي؟ فقال: هي إلى .............................................................
(1) رواه البخاري (2615)، كتاب: الوصايا، باب: قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] ومسلم (89)، كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر وأكبرها، عن أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ:"اجتنبوا السبع الموبقات ...... " الحديث.
(2)
انظر: "صحيح مسلم"(1/ 91 - 92).
السبعين (1)، ويروى: إلى سبع مئة أقرب (2)، والله أعلم.
[وقد بين صلى الله عليه وسلم الحكمة في كونه لا يعطى بمجرد دعواه: أنه لو أعطي بها، لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، واستبيح ذلك، ولا يمكن للمدعى عليه أن يصون ماله ودمه، وأما المدعي؛ فيمكنه صيانتها بالبنية.
وفي هذا الحديث دليل لمذهب الشافعي وجمهور العلماء من سلف الأمة وخلفها: أن اليمين على المدعي] (3). إذا ثبت هذا، فاعلم أنه لا بد من معرفة الكبيرة وتمييزها، ولا بد من ذكر الفرق بين الكبيرة والصغيرة.
أما تعريف الكبيرة؛ فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه قال: الكبائر: كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعنة، أو عذاب (4)، ونحو هذا عن الحسن البصري، وقال آخرون: هي ما أوعد الله عز وجل عليه بنار، أو حَدٍّ في الدنيا.
وقال أبو حامد الغزالي رحمه الله في "البسيط": والضابط الشامل المعنوي في ضبط الكبيرة: أن كل معصية يقدم المرء عليها من غير استشعار خوف وحذار ندم، كالمتهاون بارتكابها، والمستجرئ عليها اعتيادًا، فما أشعر بهذا الاستخفاف والتهاون فهو كبيرة، وما يحمل على فلتات النفس وفترة مراقبة التقوى، ولا ينفك عن تندم يمتزج به تنغيص التلذذ بالمعصية، فهذا لا يمنع العدالة، وليس هو بكبيرة.
وقال الشيخ الإِمام أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في "فتاويه": الكبيرة كل ذنب كبر وعظم عظمًا يصح معه أن يطلق اسم الكبيرة، ووصف بكونه عظيما على الإطلاق، قال: فهذا حد الكبيرة (5).
(1) رواه عبد الرزاق في "المصنف"(19702)، وابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 41)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(294).
(2)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 41).
(3)
ما بين معكوفين ليس في "ح".
(4)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 41)، والبيهقي في "شعب الإيمان"(290).
(5)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 85).
ثم لها أمارات:
منها: إيجاب الحد.
ومنها: الإيعاد عليها بالعذاب بالنار ونحوها في الكتاب والسنة.
ومنها: وصف فاعلها بالفسق.
ومنها: اللعن؛ كلعنِ الله مَنْ غيَّرَ مَنارَ الأرض، وقال غيره: تغيير منار الأرض كبيرة؛ لاقتران اللعن به، وكذا قتل المؤمن؛ لاقتران الوعيد به، والمحاربة، والزنا، والسرقة، والقذف كبائر؛ لاقتران الحدود بها، واللعنة ببعضها، فهذا ما يتعلق بتعريف الكبيرة وحَدِّها.
وأما الفرق بينها وبين الصغيرة: فقال الغزالي في "البسيط" في المذهب: إنكار الفرق بين الكبيرة والصغيرة لا يليق بالفقه، وقد فهما من مدارك الشرع.
قال شيخنا أبو زكريا النووي رحمه الله: وهذا الذي قاله أبو حامد قد قاله غيره بمعناه، ولا شك في كون المخالفة قبيحة جدًّا بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكن بعضها أعظم من بعض، وتنقسم باعتبار ذلك إلى ما تكفره الصلوات الخمس أو صوم رمضان، أو الحج، أو العمرة، أو الوضوء، أو صوم عرفة، أو صوم عاشوراء، أو فعل الحسنة، أو غير ذلك مما جاءت به الأحاديث الصحيحة، إلى ما لا يكفره ذلك، كما ثبت في الصحيح، في قوله صلى الله عليه وسلم:"ما لم تُغشَ كبيرةٌ"(1).
فسمى الشرع ما تكفره الصلاة ونحوها: صغائر، وما لا تكفره: كبائر، ولا شك في حسن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحة بالنسبة إلى جلال الله تعالى، فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، لكنها أقل قبحًا، ولكونها متيسرة التكفير، والله أعلم، هذا آخر كلامه (2).
(1) رواه مسلم (228)، كتاب: الطهارة، باب: فضل الوضوء والصلاة عقبه، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه بلفظ:"ما لم يؤت كبيرة".
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 85).
فإن قيل: اجتناب الكبائر مكفر للصغائر في قوله عز وجل: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)} [النساء: 31]، فإن اجتنبت الكبائر، وكفرت الصغائر، فما تكفر الصلوات الخمس ورمضان والحج والعمرة والوضوء وغير ذلك مما ذكر؟
قلنا: إنما جعلت مكفرة إن وجدت ما تكفره، فإذا لم تجد ما تكفره، كانت رفع درجات لصاحبها، والله أعلم.
وقال الشيخ الإِمام أبو محمد بن عبد السلام رحمه الله في كتابه "القواعد": إذا أردت معرفة الفرق بين الصغيرة والكبيرة، فأعرض مفسدة الذنب على مفاسد الكبائر المنصوص عليها، فإن نقصت عن أقل مفاسد الكبائر، فهي صغيرة من الصغائر، وإن ساوت أدنى مفاسد الكبائر، أو ربت عليه، فهي من الكبائر، فمن شتم الرب سبحانه وتعالى، أو رسوله صلى الله عليه وسلم، أو استهان بالرسل، أو كذب واحدًا منهم، أو ضمخ الكعبة بالعذرة، أو ألقى المصحف في القاذورات، فهي من أكبر الكبائر، ولم يصرح الشرع بأنه كبيرة (1).
قال شيخنا أبو الفتح بن دقيق العيد القاضي رحمه الله: وهذا الذي قاله عندي داخل فيما نص عليه الشرع بالكفر، إن جعلنا المراد بالاشراك بالله تعالى مطلقَ الكفر على ما سنبينه عليه، ولا بد مع هذا من أمرين:
أحدهما: أن المفسدة لا تؤخذ مجردة عما يقترن بها من أمر آخر، فإنه قد يقع الغلط في ذلك، ألا ترى أن السابق إلى الذهن: أن مفسدة الخمر السكر وتشويش العقل؟ فإن أخذنا هذا بمجرده، لزم منه ألَّا يكون شرب القطرة الواحدة كبيرة؛ لخلائها عن المفسدة المذكورة، لكنها كبيرة؛ لأنها، وإن خلت عن المفسدة المذكورة، إلا أنه تقترن بها مفسدة التجرؤ على شرب الخمر الكثير الموقع في المفسدة، فبهذا الاقتران يصير كبيرة.
الثاني: أنا إذا سلكنا هذا المسلك، فقد تكون مفسدة بعض الوسائل إلى
(1) انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 19).
بعض الكبائر، مساويًا لبعض الكبائر، أو زائدًا عليها، فإن من أمسك امرأة محصنة لمن يزني بها، أو مسلمًا معصومًا لمن يقتله، فهو كبيرة أعظم مفسدة من أكل مال اليتيم، وأكل مال اليتيم منصوص عليه، وكذلك لو دل على عورة من عورات المسلمين تفضي إلى قتلهم وسبي ذراريهم وأخذ أموالهم، كان ذلك أعظم من فراره من الزحف، والفرار من الزحف منصوص عليه دون هذه.
وكذلك يفعل على ذلك القول الذي حكيناه، من أن الكبيرة: ما رتب عليه اللعن أو الحد أو الوعيد، فتعتبر المفاسد بالنسبة إلى ما رتب عليه شيء من ذلك، فما ساوى أقلها، فهو كبيرة، وما نقص عن ذلك، فليس بكبيرة. هذا آخر كلامه، والله أعلم (1).
قال أبو محمَّد بن عبد السلام رحمه الله: أما إذا كذب عليه كذبا يوجد منه بسببه ثمرة، فليس كذبه من الكبائر، قال: وقد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر؛ فإن وقعا في مال خطير، فهذا ظاهر، وإن وقعا في حقير، فيجوز أن يجعلا من الكبائر؛ فطامًا عن هذه المفاسد؛ كما جعل شرب قطرة من خمر من الكبائر، وإن لم تتحقق المفسدة، ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة.
قال: والحكم بغير الحق كبيرة؛ فإن شاهد الزور متسبب، والحاكم مباشر، فهذا جعل السبب كبيرة، فالمباشرة أولى.
قال: وقد ضبط بعض العلماء الكبائر: بأنها كل ذنب قُرن به وعيد أو حد أو لعن، فعلى هذا، كل ذنب علم أن مفسدته كمفسدة ما قُرن به الوعيد أو الحد أو اللعن، أو أكبر من مفسدته، فهو كبيرة، ثم قال: الأولى أن تضبط الكبيرة بما يشعر بتهاون مرتكبها في ذنبه إشعار أصغر الكبائر المنصوص عليها، والله أعلم (2).
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 171 - 172).
(2)
انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 19 - 20).
وقال الإِمام أبو الحسن الواحدي المفسر، وغيره: الصحيح: أن حد الكبيرة غير معروف، بل ورد الشرع بوصف أنواع من المعاصي بأنها كبائر، وأنواع بأنها صغائر، وأنواع لم توصف، وهي مشتملة على كبائر وصغائر.
والحكمة في عدم بيانها: أن يكون العبد ممتنعًا من جميعها؛ مخافة أن تكون من الكبائر.
قال العلماء: وهذا شبيه بإخفاء ليلة القدر، وساعة يوم الجمعة، وساعة إجابة الدعاء في الليل، واسم الله الأعظم، ونحو ذلك مما أُخفي، والله أعلم.
قالوا: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة (1).
وروي عن عمر، وابن عباس، وغيرهما رضي الله عنهم: لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار (2)؛ ومعناه: أن الكبيرة تُمحى بالاستغفار، والصغيرة تصير كبيرة بالإصرار.
قال أبو محمَّد بن عبد السلام رحمه الله: الإصرار هو أن تتكرر منه الصغيرة تكررًا يشعر بقلة مبالاته بذنبه إشعارَ ارتكاب الكبيرة بذلك. قال: وكذلك إذا اجتمعت صغائر مختلفة الأنواع؛ بحيث يشعر مجموعها ما تشعر به أصغر الكبائر (3).
وقال أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله تعالى-: المصرُّ: مَنْ تلبس من أضداد التوبة باستمرار العزم على المعاودة، أو باستدامة الفعل؛ بحيث يدخل به ذنبه في حيز ما يطلق عليه الوصف، بصيرورته كبيرًا عظيمًا، وليس لزمان ذلك وعدده حصر، والله أعلم (4).
(1) انظر: "شرح مسلم" للنووي (2/ 86).
(2)
رواه ابن جرير الطبري في "تفسيره"(5/ 41)، وابن أبي حاتم في "تفسيره"(3/ 934)، عن ابن عباس، موقوفًا عليه من قوله. ورواه الشهاب القضاعي في "مسنده"(853)، عن ابن عباس مرفوعًا.
(3)
انظر: "قواعد الأحكام" للعز بن عبد السلام (1/ 22 - 23).
(4)
انظر: "فتاوى ابن الصلاح"(1/ 148 - 149). =
وقوله صلى الله عليه وسلم: "الإشراكُ بالله"؛ يحتمل أن يراد به مطلقُ الكفر، وخصص الإشراك بالذكر؛ لغلبته في الوجود، لا سيما في بلاد العرب؛ تنبيهًا على غيره، ويحتمل أن يراد به: خصوصية الإشراك، لكنه بعيد؛ لكون بعض الكفر أعظمَ قبحًا من الإشراك؛ كالكفر بالتعطيل؛ فإنه نفي مطلق، والإشراك إثبات مقيد، فهو أخف قبحًا من التعطيل، فحينئذ يكون ذكر الإشراك على الاحتمال الثاني من باب التنبيه بالقبيح على الأقبح، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وعقوقُ الوالدين"؛ العقوقُ مأخوذ من العَقّ، وهو القطع، وذكر الأزهري: أنه يقال: عن والده يعُقه -بضم العين- عقًّا، وعقوقا: إذا قطعه، ولم يصل رحمه، وجمع العاق: عَقَقَة -بفتح الحروف كلها-، وعُقُق -بضم العين والقاف-.
وقال صاحب "المحكم": رجل عقق وعقق وعق وعاق: بمعنى واحد، وهو الذي شق عصا الطاعة لوالده، هذا قول أهل اللغة (1).
ولا شك أن حق الوالدين عظيم، فعقوقهما عظيم، ورتبة مختلفة، لكن ضبط المحرم والواجب من الطاعة لهما فيه عسر؛ ولا يجب على الولد طاعتهما في كل ما يأمران به، ولا في كل ما ينهيان عنه، باتفاق العلماء، بل طاعتهما تبع لطاعة الشرع، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم:"لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالق"(2)، وقال صلى الله عليه وسلم:"إنما الطاعةُ في المعروفِ"(3). وقد حرم على الولد السفرَ الذي لا يتعين شرعًا
= قلت: وجميع ما ذكره الشارح رحمه الله في بحث (الكبيرة والصغيرة) إلا ما قاله عن ابن دقيق العيد، قد استفاده من كتاب شيخه النووي رحمه الله في "شرح مسلم".
(1)
انظر: "تحرير ألفاظ التنبيه" للنووي (ص: 163).
(2)
رواه الإمام أحمد في " المسند"(5/ 66)، والحارث بن أبي أسامة في "مسنده"(602)، والطبراني في "المعجم الكبير"(18/ 170)، وفي "المعجم الأوسط"(4322)، والشهاب القضاعي في "مسنده"(873)، عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (6830)، كتاب: التمني، باب: ما جاء في إجازة خبر الواحد الصدوق، ومسلم (1840)، كتاب: الأمارة، باب: وجوب طاعة الأمراء في غير معصية، وتحريمها في المعصية.
إذا توقع فيه قتله أو هلاكه، أو قطع عضو من أعضائه؛ لشدة تفجعهما عليه، إلا إذا أذنا فيه.
وقد ساوى الوالدان الرقيق في النفقة والكسوة والسكنى بشرطها.
قال بعض المتأخرين: ولم أقف في عقوق الوالدين، ولا فيما يختصان به من الحقوق على ضابط أعتمد عليه، لكن ما يحرم في حق الأجانب، فهو أشد تحريمًا في حقهما، وما يجب للأجانب، فهو أشد وجوبا لهما.
وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله في "فتاويه": العقوق المحرم: كل فعل يتأذى به الوالد أو نحوه، تأذيًا ليس بالهين، مع كونه ليس من الأفعال الواجبة، قال: وربما قيل: طاعة الوالدين في كل ما ليس بمعصية واجب، ومخالفة أمرهما في ذلك عقوق، وقد أوجب كثير من العلماء طاعتهما في الشبهات، قال: وليس قول من قال من علمائنا: يجوز له السفر في طلب العلم وفي التجارة بغير إذنهما، مخالفًا لما ذكرته؛ فإن هذا كلام مطلق، وفيما ذكرته بيان لتقييد ذلك المطلق، والله أعلم (1).
وقال شيخنا الإِمام أبو الفتح بن دقيق العيد رحمه الله: والفقهاء قد ذكروا صورًا جزئية، وتكلموا فيها منثورة لا يحصل منها ضابط كلي، فليس يبعد أن يسلك في ذلك من أن تقاس المصالح في طرق الثبوت بالمصالح التي وجبت لأجلها، والمفاسد في طرق العلم بالمفاسد التي حرمت لأجلها. هذا آخر كلامه، والله أعلم (2).
وقوله: وكان متكئًا فجلس فقال: "ألا وقول الزور" إلى آخره:
أما جلوسه صلى الله عليه وسلم؛ فللاهتمام بهذا الأمر، وهو يفيد تأكيد تحريم شهادة الزور وعظم قبحها، وقبح كل قول زور.
(1) انظر: "فتاوى ابن الصلاح"(1/ 201).
(2)
انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 172 - 173).
وأما قولهم: "ليته سكت"؛ فإنما قالوه وتمنوه شفقة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكراهة لما يزعجه ويغضبه، والله أعلم.
وأما اهتمامه صلى الله عليه وسلم بقول الزور وشهادة الزور؛ فلأن وقوعهما على الناس أسهل، والتهاون بهما أكثر، والحوامل على فعلهما كثيرة؛ من العداوة والبغضاء والحسد وغيرها، فاحتيج إلى الاهتمام بها لذلك، وتعظيم أمرهما، بخلاف الإشراك بالله عز وجل؛ فإنه لا يقع فيه مسلم، وعقوق الوالدين؛ فإن الطبع صارف عنه، وليس العقوق وقول الزور مساويًا للإشراك باللهِ قطعًا، إلا إذا فعل ذلك معتقدا حله، فإنه يصير كافرًا، ومعلوم أن الكافر شاهد بالزور وقائل به، وقد تقدم حمل ذلك على أنه من أكبر الكبائر لا أكبرها، وهو الظاهر، وضعف غيره من التأويلات، وقد تقدم أن المراد بشهادة الزور: إنما هو في الحقوق الكبيرة والعظيمة والحقيرة، لا فرق بينهما؛ لانجرار الشهادة بالحقير إلى العظيم؛ كما في تحريم الخمر، ونقلنا الاحتمال فيه عن أبي محمد بن عبد السلام في كل ثمرة من مال يتيم، والله أعلم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "وقولُ الزور وشهادةُ الزور"؛ فيحتمل أو يحمل قول الزور على شهادة الزور؛ حيث إنه لو حمل على الإطلاق في كل قول زور، لكان كبيرة، وليس كذلك؛ فإن الفقهاء نصوا على أن الكذبة الواحدة وما يقاربها لا تسقط العدالة، ولو كانت كبيرة، لأسقطت، وقد نص الله عز وجل على عظم بعض الكذب، فقال:{وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)} [النساء: 112].
وعظم الكذب ومراتبه تتفاوت بحسب تفاوت مفاسده، وقد نص في الحديث على أن الغيبة بالقذف كبيرة؛ لإيجابها الحد، ولا تساويها الغيبة بقبح الخلقة مثلًا، أو قبح بعض الهيئة في الناس مثلًا، والله أعلم.
وفي الحديث: إثبات الكبائر، وأن منها ما هو كفر، ومنها ما ليس بكفر.
وفيه: تحريم الإشراك بالله عز وجل، وهو كفر بالإجماع.