الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وجوزه بعضهم عند الحاجة، وإن كان فيه طيب.
ومذهب الشافعي: جوازه ليلًا عند الحاجة بما لا طيب فيه.
ومنها: جواز تطييب محل الحيض للحادة عند انقطاع الدم بالقسط والأظفار؛ لإزالة الرائحة الكريهة، لا لقصد التطيب، وهو من باب الرخص، والله أعلم.
* * *
الحديث الرابع
عَنْ أمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! إن ابْنَتي تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُها، وَقَدِ اشْتكتْ عَيْنُهَا، أفَتكْحُلُهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"لَا"، مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، كُلُّ ذَلِكَ يَقُولُ:"لَا"، ثُمَّ قَالَ:"إنما هِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ، وَقَدْ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ في الجَاهِلِية تَرْمِي بِالبَعْرَةِ عَلَى رَأْسِ الحَوْلِ".
فَقَالَتْ زَيْنَبُ: كَانَتِ المَرْأَةُ إذًا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا، دَخَلَتْ حِفْشًا، وَلَبِسَتْ شَرَّ ثِيَابِهَا، وَلَمْ تَمسَّ طِيبًا، وَلَا شَيْئًا حَتى تَمُرَّ بها سَنَةٌ، ثُمَّ تُؤْتَى بِدَابَّة؛ حِمَارٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ طَيْرٍ، فَتَفْتَضُّ بِهِ، فَقَلَّمَا تَفْتَضُّ بشِيءٍ إلَّا مَاتَ، ثُمَّ تَخْرُجُ فَتُعْطَى بَعْرَةً، فَتَرْمِي بِهَا، ثُمَّ تُرَاجِعُ بَعْد مَا شَاءَتْ مِنْ طِيب أَوْ غَيْرِهِ (1).
الحِفْش: البيت الصغير، وتفتض: تدلك به جسدها.
أما أم سلمة، فتقدم ذكرها، وأما المرأة المبهمة وزوجها، فقد سماهما الحافظ أبو القاسم خلفُ بنُ عبد الملك بن بشكوال في كتابه "الأسماء المبهمة"، وقال: المرأة السائلة للنبي صلى الله عليه وسلم: عاتكة بنتُ عبد الله بن نعيم
(1) رواه البخاري (5024)، كتاب: الطلاق، باب: تحد المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرًا، ومسلم (1488)، كتاب: الطلاق، باب: وجوب الإحداد في عدة الوفاة، وهذا لفظ البخاري.
العدوي، والمتوفى -رحمه الله تعالى- هو المغيرة المخزومي، كذا في "موطأ ابن وهب"(1).
وقوله: "فقالتْ زينبُ"؛ القائلُ: فقالتْ زينبُ، هو حُميد بن نافع، الراوي عن زينب.
وزينب: هي بنت أبي سلمة، وهي راوية هذا الحديث عن أمها أم سلمة، والله أعلم.
قولها: "وَقَدِ اشتكت عَيْنُها"، ضبطنا عينها -برفع النون ونصبها- عن أبي محمد المنذري وغيره، فالرفع على الفاعلية: بأن تكون العين هي المشتكية، وهو المجزوم به عند شيخنا الحافظ أبي زكريا النووي - رحمه الله تعالى - (2).
وأما النصب، فعلى أن تكون في اشتكت ضمير الفاعل، وهي ابنة المرأة.
ورجح هذا الحافظُ المنذري -رحمه الله تعالى-، لكنه وقع في بعض روايات مسلم: عيناها، فيقتضي ترجيح الرفع (3).
قولها: "أفتكحُلُها؟ فقال: لا" أما أفتكحلها: فهو بضم الحاء.
وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "لا": وجهان؛ أحدهما: أنه منع تنزيه. والثاني: تأويل النهي المذكور على أنه لا يتحقق الخوف على عينها.
وقد ذكرنا في الحديث قبله الجمعَ بين الروايات فيه، واختلافَ العلماء، والله أعلم.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعةُ أشهرٍ وعَشْرٌ"؛ وهو تعليل للمدة، وتهوين للصبر عما مُنعت منه، وهو الاكتحالُ في العدة، بعد أن كانت المدة سنةً.
وقوله صلى الله عليه وسلم: "وقَدْ كانَت إحداكُنَّ في الجاهليةِ تَرْمي بالبعرة على رأسِ الحول"؛ قد فسرته زينبُ بنتُ أم سلمة في الحديث، ولم يدرج فيه.
(1) انظر: "غوامض الأسماء المبهمة" لابن بشكوال (1/ 353 - 354).
(2)
انظر: "شرح مسلم" للنووي (10/ 113).
(3)
انظر: "فتح الباري" لابن حجر (9/ 488).
واختلف العلماء في الإشارة به إلى ماذا؟ فقيل: هو إشارة إلى العدة، كأنها رمت بها بعد انقضائها؛ كرميها بالبعرة المذكورة، وانفصالها منها.
وقيل: هو إشارة فعلها في السَّنة التي كانت تعتدُّ بها، من دخولها الحِفْشَ، ولبسِها شرَّ ثيابها، وصبرِها على ذلك، وعلى ترك الطيب، كأنه يقول: إن تركَ إحداكن الاكتحالَ في مدة أربعة أشهر وعشر، هينٌ بالنسبة إلى حق الزوج وما يستحقُّه من المراعاة، كما يهون الرميُ بالبعرة.
وقولها: "دخلتْ حِفْشًا"؛ الحفش: بكسر الحاء المهملة، وسكون الفاء، وبالشين المعجمة؛ أي: دخلت بيتًا صغيرًا حقيرًا قريبَ السَّمْكِ، وجمعُه أحفاش، والتحفُّش: الانضمامُ والانجماع. قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: هو البيت الذليل الشعثُ البناء، القريبُ السمكِ.
وقال مالك -رحمه الله تعالى-: هو الصغير الخرب.
وقيل: والحفش يشبه القفة يُصنع من خوص تجمع فيه المرأة غزلها وسقطَها كالدرج، فشبه به البيت الصغير (1).
وقولها: "ثم تُؤتى بدابَّةٍ؛ حمارِ أو شاةٍ"، هو بدل من دابة.
قولها: "فتفتضُّ به": هو -بفتح التاء ثالث الحروف، وسكون الفاء، وبعدها تاء مثناة فوق، ثم ضاد معجمة-، ومعناه: أن المعتدة كانت لا تغتسل، ولا تمس ماء، ولا تقدم ظفرًا، ثم تخرج بعد الحول بأقبح منظر، ثم تفتض؛ أي: تكسر ما هي فيه من العدة، بطائر تمسح به قُبلها، وتنبذه، فلا يكاد يعيش، هكذا قاله القتيبي: عن الحجازيين فيما سألهم عنه.
وقال غيره: فتموتُ؛ لقبح ريحها وقذارتها، وسمي فعلها ذلك تتفرج به مما
(1) انظر: "مسند الإمام الشافعي"(ص: 300)، و"الأم" له أيضًا (5/ 231)، و"غريب الحديث" لأبي عبيد (3/ 196)، و"غريب الحديث" للخطابي (2/ 584)، و"التمهيد" لابن عبد البر (17/ 311)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (1/ 208)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (1/ 407)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 114)، و"لسان العرب" لابن منظور (6/ 286).
كانت فيه، وتزيله عنها، أو تزول بذلك من مكانها وحفشها الذي اعتدت فيه.
والفضُّ: التفرق، ومنه:{لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، و {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11].
وقال مالك: تمسح به جلدها كالنشرة. وقال ابن وهب: تمسح بيدها عليه أو على ظهره.
وقيل: هو مشتق من الفضة؛ كأنها تتنظف بما تفعله بذلك مما كانت فيه، وتغتسل بعده، وتتنقى من درنها حتى تفسير كالفضة. والافتضاض: الاغتسال بالماء العذب للإنقاء وإزالة الوسخ.
قال الأزهري: وروى الشافعي -رحمه الله تعالى- هذه اللفظة بالقاف والباء الموحدة والصاد المهملة. وفسره غيره بأنها: تأخذه بأطراف أصابعها.
وقرأ الحسن: فقبصت قبصة.
وفسره آخر: بأنها تغدو بسرعة نحو منزل أبويها؛ لأنها كالمستحية من قبح منظرها.
وقال الأخفش: معناه: تتنظف، وتتنقى من الدرن؛ تشبيهًا لها بالفضة في نقائها وبياضها (1).
وفي هذا الحديث دليل صريح: على نسخ الاعتداد بسنة المذكور في الآية الثانية من سورة البقرة. ولا شك أن عدة الوفاة كانت في ابتداء الإسلام حولًا، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبة في مال زوجها تلك السنة، ما لم تخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها، سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها.
(1) انظر: "غريب الحديث" لابن قتيبة (2/ 496)، و"الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي" (ص: 348)، و"التمهيد" لابن عبد البر (17/ 322)، و"مشارق الأنوار" للقاضي عياض (2/ 161)، و"النهاية في غريب الحديث" لابن الأثير (3/ 454)، و"شرح مسلم" للنووي (10/ 115)، و"لسان العرب" لابن منظور (7/ 209).
وكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله نفقة الحول بالربع والثمن، ونسخ عدة الحول بأربعة أشهر وعشر.
وفيه: السؤال عن العلم من المرأة لغيرها، خصوصًا إذا كانت ممن ليست له عادة في الخروج من البيت، أو كان اللبث في البيت واجبًا عليه.
وفيه: المنع من الاكتحال للحادة مطلقًا، وتقدم الكلام عليه ودليله الجمع بين الأحاديث فيه، واختلاف العلماء في الحديث قبله.
وفيه: تكرير الجواب في الفتوى بلا؛ تأكيدًا للمنع.
وفيه: تخفيف العمل على السائل والمسؤول له بذكر ما كلفه في الجاهلية من المشقة.
وفيه: حصر عدة الوفاة في أربعة أشهر وعشر لغير الحامل؛ حيث لم تذكر حملًا في السؤال، وأطلق الجواب بالحصر بإنما، فلما لم تذكره، دل على أنها كانت غير حامل؛ بدليل بيان حديث سبيعة الأسلمية في الحمل، وانقضاء عدة المتوفى به، والله أعلم.
* * *