الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد نهى الشرع عن تعاطي السيف مسلولًا، وأمر بالإمساك على النصال، ومنع من الإشارة بالحديد ونحوه، خوفَ نزغ الشيطان من يده إلى أخيه المسلم، وكل ذلك دليل على احترام المسلمين، وتحريم تعاطي الأسباب الحاملة على أذاهم؛ لكرامتهم عند الله تعالى، وتعريف مقامهم، والله أعلم.
* * *
الحديث التاسع عشر
وعَنْهُ أيضًا، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شَجَاعَةً، وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلكَ في سَبِيلِ الله؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:"مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ العُلْيَا، فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ عز وجل "(1).
أما الشجاعة؛ فهي ضد الجبن.
ثم القتال للشجاعة على أنواع:
أحدها: أن يقصد به المقاتل إظهار الشجاعة، فيكون في الحديث إضمار تقديره: قاتل لإظهار الشجاعة، على حذف المضاف، وهذا مناف لسبيل الله.
والثاني: أن يكون قتاله شجاعة، علة لقتاله من غير قصدٍ لشيء بالقتال، فهذا بمجرده، من حيث هو هو، لا يجوز أن يكون مرادًا؛ حيث إن الشجاع المجاهد في سبيل الله تعالى إنما قاتل لكونه شجاعًا، لا لقصد إظهار الشجاعة، ولا لكونه علة له. وهذا كما يقال: أعطى لكرمه، ومنع لبخله، وآذى لسوء خلقه؛ فكأنه قاتل لشجاعته، وهذا غير مناف لسبيل الله.
الثالث: أن يكون قتاله للشجاعة فقط، وهو غير المعنى الذي قبله؛ حيث إن الأحوال ثلاثة: حال يقصد بها إظهار الشجاعة، وحال يقصد بها إعلاء كلمة الله تعالى: وحال يقاتل فيها لأنه شجاع، لا يقصد إعلاء كلمة الله تعالى، ولا يقصد
(1) رواه البخاري (7020)، كتاب: التوحيد، باب:{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171]، ومسلم (1904)، (3/ 1513)، كتاب: الإمارة، باب: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
إظهار الشجاعة، وهذا ممكن؛ فإن الشجاع الذي دهمته الحرب وطبيعته مسارعة إلى القتال، يبدأ بالقتال لطبيعته، وقد يستحضر أنه لغير الله، أو لإعلاء كلمة الله، وقد لا يستحضرهما، ولا واحدًا منهما.
ويوضح الفرق بينهما أن يقال: قاتل لإعلاء كلمة الله لأنه شجاع، فلا ينافي ذلك وجود الشجاعة، ويقال: قاتل للرياء، ولأنه شجاع؛ حيث إن الجبن منافٍ للقتال مع كل فرض يقصد بخلاف المعنى في إيجاده في القتال بقيد التجرد عن غيره، فإنه منافٍ للقصد.
ومفهوم الحديث: أنه في سبيل الله، إذا قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا، وليس في سبيل الله إذا لم يقاتل لذلك.
فعلى الوجه الأول: تكون فائدته بيان أن القتال لهذه الأغراض: مانع.
وعلى الوجه الآخر: أن تكون فائدته أن القتال لأجل إعلاء كلمة الله: شرط.
والفرق بينهما بيِّنٌ، ومفهوم الحديث يقتضي الاشتراط، لكن لا ينبغي أن يضيق بحيث يشترط مقارنته لوقت شروعه في القتال، بل يكون أوسع من هذا، وينبغي وجوده بالقصد العام؛ لتوجهه إلى القتال، وقصده بالخروج إليه لإعلاء كلمة الله تعالى.
ويشهد لذلك: الحديث الصحيح: أنه يكتب للمجاهد استنانُ فرسِه وشربُها في النهر (1) من غير قصدٍ لذلك، لما كان القصد الأول واقعًا على الجهاد، لم يشترط كونه في الجزئيات، بل لا يشترط اقتران القصد بأول الفعل المخصوص، بعد كون القصد صحيحًا في الجهاد لإعلاء كلمة الله تعالى؛ دفعًا للحرج والمشقة، فإن حالة الفزع حالة دهش، وقد تأتي غفلة، فالتزام خطور أو حضور النيات في ذلك الوقت حرج ومشقة، والله أعلم.
(1) روى البخاري في "صحيحه"(2698)، كتاب: الجهاد والسير، باب: من احتبس فرسًا؛ لقوله تعالى {وَمِنْ رِبَاطِ} [الأنفال: 60]، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من احتبس فرسًا في سبيل الله؛ إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة".
وأما الحمية؛ فهي الأَنَفَة والغيرة عن عشيرته، وهي من فعل القلوب، ولا تقتضي أن يكون القتال لها مقصودًا للفاعل، إما مطلقًا، وإما في مراد الحديث مما فسرت به إلا بالقصد، ودلالة السياق حينئذ تقتضي أن يكون قد جاء للقتال في سبيل الله، إما لانصرافه إلى هذا الغرض وخروجه عن القتال لإعلاء كلمة الله، وإما لمشاركته المشاركة القادحة في الإخلاص.
والمراد بالحمية: الحمية لغير دين الله تعالى، وبهذا يظهر ضعف الظاهرية في مواضع كثيرة.
وأما الرياء؛ فهو ضد الإخلاص، وحقيقتُه: ترك العمل المطلوب لأجل الناس، وهو يقتضي بداية العمل لأجل الناس، وهو مستحيل أن يجتمع العمل لأجل الله تعالى ولأجل الناس، فيكون القتال بعينه مخلصًا وغير مخلص في حال واحدة، وهذا محال، بل يقتضي ذلك أن يكون شركًا في القتال وغيره؛ ولهذا قال الفضيل بن عياض رحمه الله: تركُ العملِ لأجل الناس رياء، والعملُ لأجل الناس شرك، والإخلاصُ أن يعافيك الله منهما (1).
وقال غيره: لا يعمل للناس شيئًا، ولا يترك لهم شيئًا.
قال شيخنا الإمام أبو الفتح بن دقيق العيد رحمه الله: فإن قلت: فإذا حملت قوله: قاتل للشجاعة؛ أي: لإظهار الشجاعة، فما الفائدة في قوله بعده: ويقاتل رياء؟ قلت: يحتمل أن يراد بالرياء: إظهارُ قصده للرغبة في ثواب الله تعالى، والمسارعة للقربات، وبذل النفس في مرضاة الله تعالى، والمقاتل لإظهار الشجاعة مقاتل لغرض دنيوي، وهو تحصيل المحمدة من الناس، والثناء عليه بالشجاعة، والمقصدان مختلفان.
ألا ترى أن العرب في جاهليتها كانت تقاتل للحمية وإظهار الشجاعة، ولم يكن لها في المراءاة بإظهار الرغبة في ثواب الله تعالى والدار الآخرة؟ فافترق القصدان.
(1) رواه أبو نعيم في "حلية الأولياء"(8/ 95).
ولذلك القتالُ حميةً مخالفٌ للقتالِ شجاعة، والقتالِ للرياء؛ فإن الأول قتال للمحمدة مخلق الشجاعة وصفتها، وأنها قائمة بالمقاتل، وسجية له. والقتال للحمية قد لا يكون لذلك، وقد يُقاتلُ الجبانُ حميةً لكفره، أو لحريمه مكره لئلا يطل، والله أعلم (1).
وفي هذا الحديث دليل: على وجوب الإخلاص في الجهاد.
وفيه: تصريح بأن القتال للشجاعة والحمية والرياء خارجٌ عن الإخلاص لله تعالى.
وفيه دليل على أن الإخلاص لله تعالى هو العمل لأجل امتثال أمره، واجتناب نهيه؛ حيث قال صلى الله عليه وسلم:"من قاتلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العليا، فهو في سبيلِ الله"، وكلمة الله تعالى هي أمره ونهيه.
وفيه دليل: على أن المجاهد في سبيل الله تعالى مؤمن، فلو قاتل لطلب ثواب الله تعالى، أو للنعيم المقيم، كان في سبيل الله تعالى أيضًا، ويشهد له فعل الصحابي الذي سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"قوموا إلى جنةٍ عرضُها السمواتُ والأرضُ"، فألقى تمرات كُنَّ في يده، وقاتل حتى قُتل (2) - رحمه الله تعالى -، وظاهر هذا أنه قاتل لثواب الجنة.
والشريعة كلها طافحة بأن الأعمال لأجل الجنة أعمال صحيحة غير معلولة؛ لأن الله تعالى ذكر صفة الجنة، وما أعدَّ فيها للعاملين؛ ترغيبًا للناس في العمل، ومحال أن يرغبهم في العمل للثواب، ويكون ذلك معلولًا مدخولًا، اللهم إلا أن يدعي أن غير هذا المقام أعلى منه، فهذا قد يسامح فيه.
وأما أن يكون علة في العمل، فلا، إذا ثبت أن كلمة الله أمرُ الله ونهيه، وأن المطلوب إعلاؤها بالامتثال أو الانتهاء، وأن الموعود عليها حثًّا على الامتثال
(1) انظر: "شرح عمدة الأحكام" لابن دقيق العيد (4/ 248).
(2)
رواه مسلم (1901)، كتاب: الإمارة، باب: ثبوت الجنة للشهيد، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.
والانتهاء حق، كان المقاتل للموعود به على الفعل أو الترك مقاتلًا في سبيل الله تعالى، ولا يكون المقاتل لثواب الله تعالى والجنة منافيًا للقتال لإعلاء كلمة الله؛ لأن طلب الفعل وتركه والجزاء عليه والترغيب على الفعل، والترهيب من الترك كله ثبت بكلمة الله، فمن قاتل لواحد منهما، فقد قاتل لإعلاء كلمة الله تعالى، وهو في سبيل الله، فيكون القتال لإعلاء كلمة الله تعالى؛ التي هي الأمر بالقتال وطلبه والمقصود منه في سبيل الله لا على سبيل الحصر، فلا يكون القتال لغيره من الثواب والجزاء، خارجًا عن سبيل الله؛ حيث إنه ثابت بوعد الله تعالى، والحث على القتال به.
فلا يضاد ذلك الإخلاص لله تعالى، بل يكون من فعل فعلًا لطلب ثواب الله تعالى، أو تركه خوفًا من عقاب الله تعالى، مخلصًا له سبحانه وتعالى؛ حيث إن الثواب والعقاب من المضاف إلى الله تعالى، إيجادًا وحكمًا وجزاءً، والله أعلم.
وفيه دليل: على تحريم الفخر بالشجاعة على الناس، فإن فَخَرَ بها لكونها فضْلًا من الله تعالى، فليس بحرامٍ؛ فإن التحدثَ بنعم الله تعالى مطلوب، وهو شكر لها.
وفيه دليل: على تحريم الحَمِيَّةِ غيرِ الدينية؛ فإن الحميَّةَ للدين مطلوبةٌ شرعًا، وتسمى الحُرْقة على الدين والخير، وذلك مُجمَعٌ عليه، وهو من أفضلِ القُربات، وبه امتاز أهل العنايات على غيرهم من أهل الطاعات.
وفيه دليل: على تحريم الرياء، وقد ثبت في الصحيح:"مَنْ راءى، راءى اللهُ به"(1).
(1) رواه البخاري (6134)، كتاب: الرقاق، باب: الرياء والسمعة، ومسلم (2987)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله، عن جندب العلقي رضي الله عنه. ورواه مسلم (2986)، كتاب: الزهد والرقائق، باب: من أشرك في عمله غير الله، عن ابن عباس رضي الله عنه، وهذا لفظه.
وفيه: السؤال عن الأعمال القلبية والقصد إليها.
وفيه: وجوب الجواب عنها لمن عنده علم على الفور.
واعلم أن الرياء لا يدخل في الأعمال القلبية إلا بالإصرار على إرادته، وكذلك لا يدخل في الأعمال المأمور بإظهارها؛ كالجمعة والجماعات، وأداء الزكوات الواجبات، ونحو ذلك، إلا أن يقصده ويصرَّ عليه، فيكون بقصده له وإصراره عليه مرائيًا فيما بينه وبين الله تعالى، فإن أظهر قصده للناس وإصراره، كان مرائيًا فيما بينه وبينهم، ولا يتصور الرياء فيما أمر بإظهاره بمجرده، والله أعلم.
* * *